رواية "على جمر الهوى"

الجمرة العاشرة

الفصل العاشر

يقف تَليد في شرفة حجرته يراقب تلك التي تزمجر بقوة وهي تحاول رفع السيف، تنجح مرة ولكن لم تلبث أن يسقط وتسقط يدها معه، لم يفشل في تأويل دواخلها واختيارها لتكون نبوءة عالمه، طالعها ببسمة يائسة وهو يجدها تسقط جالسة على ركبتيها وتلهث بعنف وقد جرحت يدها وتبكي كطفلة صغيرة شاغبها أحد الفتية بينما كانت تلعب معه وتركها بعدما جرحها وذهب، ضحك بقوة حينما وجدها تتطلع حولها بخفوت ثم ألقت بجسدها نائمة على العشب وهي تطالع السماء في ساعة البكور هكذا، تمتم بخفوت:
_مختلفة، وللأبد ستظلين مختلفة..

تحرك للخارج متجهًا لها وأخذ رقية معه وهاهي تقف أمامه وتكاد تبكي وهي ترفع السيف وهو يرمقها بحزم أن تسقطه، صرخت بعنف وقد غشت عيناها الدموع قائلة:
_يا أخي بقا مش عاوزة أتعلم حاجة، أنت حد مسلطك عليّ، وأهو السيف بتاعك كمان وأنا عاوزة أرجع العالم بتاعي أصلاً

_أو تعلمين؟ خِلتكِ تريدين التغير جديًّا، حينما طالعتكِ وأنتِ تقاتلين نفسكِ لكي ترفعي السيف رأيت فيكِ عزم المجاهد، ولكنني لثاني مرة أعجز عن قراءة أفكاركِ، اسمعي... كلٌ منا بداخله قوة خفية عاجز هو عن رؤيتها، بإمكان أي منا تغيير أي شيء يريده فقط إذا أقرّ من داخله أن هذا الشيء لا بد من تغييره، التغيير لابد وأن يكون نابعًا من داخلنا ليس لأجل شخص أو حدث عارض، لأنه باختفاء سبب التغيير سيزول كأن لم يكن، اقرأي دواخلكِ واعرفي ماذا تريدين بالضبط، حددي أهدافكِ

_رقية
قالها بحزم جعل ميسون تنكمش على نفسها ورقية تأخذها وتذهب من أمامه سريعًا، سارتا متجاورتين في طريقهما لمكتبة العلم حتى تنهدت رقية مبتسمة:
_ميسون، تَليد يفعل هذا لمصلحتكِ، اصبري، الضبر يا فتاة

مسحت ميسون وجهها بإرهاق قائلة بخفوت:
_إحنا رايحين فين؟

_إلى مكتبة العلم، حيث تشتهي العقول

_فسري لي

_أعيريني انتباهكِ قليلاً، كما تعلمين أن العصر العباسي أطول عصور الخلافة الإسلامية وأكثرها تأثيرًا في الحضارة الإسلامية، به ظهرت المذاهب الفقهية للأئمة الأربعة ودُونت الأحاديث وازدهرت العلوم في جميع نواحيها واتسعت رقعة الدولة ودُونت جميع العلوم لنحصل في النهاية على ثروة من العلم والعلماء، ولولا مذبحة المغول وإحراقهم لبيت الحكمة البغدادي الذي ضم الكتب حينها وإغراقهم للباقي في نهر دجلة لغدونا أولى الأمم في ركب الحضارة، لأصبحنا قادة كما كنا دائمًا ولكنها النفوس تخاذلت واندثرت الأخلاق.. هناك في مكتبة العلم مئات الكتب، هي بعض النسخ من كتب بيت الحكمة الذي كان في بغداد عاصمة الدولة العباسية..

هزت ميسون رأسها بحماس وابتسمت وهي تشعر بشعور غريب يكتنفها، شعور أنها تريد المزيد، دلفت لمبنى ضخم في طرف منعزل قليلاً وخطت للداخل وهي تفتح عينيها بانبهار، مبنى شاهق الارتفاع مكدس بالكتب في منظر مهيب جعلها تتمنى لو تطير عاليًا لتستطيع رؤية كل هذا، رفرفت بأهدابها وفركت كفيها بحماس وهي تسبق رقية للداخل، تصنمت مكانها على صوت عجوز يهتف بصدمة:
_إنها النبوءة، الأمير تَليد وجد نبوءته..