الفصل السادس عشر : عجز

Start from the beginning
                                    

"- هل تم الأمر "
أردف من خلف الخط بترقب مركزا بلورتيه على الطريق التي كان ينهبها شايلاك بسيارة الدفع الرباعي الفخمة .
"- تم .. لكن "
"- لكن ماذا ؟ تكلم !! "
هدر بخطورة و نبرة الرجل المترددة تلاعبت بأعصابه المشدودة أصلا ..
"- الرجل كان متينا .. مقاومته كانت ضارية لهذا اضطر الشباب لتزويد العيار قليلا .. أخشى أن .."
"- هل مات ؟"
هدر بعنف و عينين محمرتين جعل شايلاك يناظره بإستغراب بينما يقول الرجل من الطرف الآخر بقلة حيلة :
"- كان بالكاد يتنفس عندما تركناه"
"- حمقى !! أغبياء عليكم اللعنة !!! كم مرة أكدت عليكم بأن تبقوه حيا ؟!! كل ما تطلبه الأمر بضعة كسور تضمن كونه طريح الفراش لبضعة أسابيع !! و لم تستطيعوا القيام بهذا !! "
صرخ ممسكا شعره بجنون و هوس و صفق الهاتف على لوحة السيارة .. ناظره شايلاك باستهجان .. انفاسه اهتاجت كما لو أنه ثور هائج و جحظت عيناه بجنون و غضب اهتز له كل جسده ليلتقط حبة من جيبه بحركات خرقاء دسها في فمه طاحنا اياها بأسنانه بعنف !!
"- إن مات فليمت ! لما كل هذه الضجة ؟؟ "
ارتد نحوه رأس أيبك بثورة نضحت من وجهه و من نبرته و هو يقول :
"- هل أنت غبي ؟!! هل أخلّصها من يد الطبيب فتعود أرملة للعشيرة لتقع هناك بين يدي بهادير ؟؟؟"
توسّعت عينا شايلاك بإدراك .. كان هذا السبب الذي جعل أيبك حريصا على حياة الطبيب في المقام الأول !
"- سأقتله حتما .. لكن ليس قبل أن أعود من هذه المهمة اللعينة ! لو مات الطبيب الآن ستكون مصيبة !! لو عادت للعشيرة لن تنفذ من صفقة بهادير !! ستضيع مني إلى الأبد "
هدر لاهثا .. كل ما فعله ! كان من أجل أن يحفظها طيلة فترة غيابه .. كان ليقيم حاجزا منيعا بينها و بين زوجها فلا يقربها .. حفظ قلبها بمكيدة العرافة .. و حفظ جسدها بالكمين الذي نصبه للطبيب .. لكنه كان مطمئنا إلى أنها ستكون بأمان طالما أنها في قصره .. بَيْد أنه لو مات .. ستنسف كل خططه و تتناثر مع مهب الريح !! و هذه المرة لو أضاعها .. لو وطأت بأقدامها مملكة بهادير .. فهو لن ينالها و لو انطبقت السماء على الأرض !

في تلك اللحظة عندما اخترق إسمه أسماعها في صرخة نائحة ملتاعة .. بَقَل جسدها بأشواكِ قشعريرةٍ باردة بدّدت كل دفئها .. و استحالت فراشات الحلم الوردية لغربان سوداء .. هتكت روحها بالشؤم و الويل ..
انتفضت من مكانها كمن مسها الخبل .. تلقي بنفسها إلى خارج الجناح بترنح فتلتقفها الجدران الرحيمة .. تغشي بصرها أشعة الشمس و تصم أذنيها صرخات حكمت التي تكوّمت في منتصف الفناء متمسكة بهاتفها منتحبة بلوعة كما لو أنها .. كما لو أنها ثكلت للتو !!
سُحِبت منها الأنفاس و عصفت عيناها بالدموع على الفور .. و وقفت في نهاية الدرج .. تناظر الفوضى المندلعة في الفناء كما لو أنها تشاهد مسرحية تراجيدية ..
"- ماذا فعلوا بإبني ؟؟!! يا الهي الرحيم ماذا فعلوا بصغيري ؟"
ماذا فعلوا بصغير حكمت ؟؟ و ماذا فعلوا بحبيبها ؟
"-ماذا حدث ؟؟ ماذا حدث لأخي يا أمي ؟؟"
صرخت دجلة محتضنة أمها بنشيج .. شهقت نيفين و أجهشت فيلدان و أسقطت شورى عكازها .. و اكتسى القصر بأصوات الحداد .. و سقط قلبها منحورا هالكا في لجّة الفقد ..
"- وجدوه غارقا في دمائه !! أخذوه للمشفى !! "
انتحرت سيول الدمع من عينيها نعيا لفرحة ناقصة .. اعترفت بحبه منذ لحظات .. لما لا تغرد الطيور ؟؟ لما لا تزهر الزهور ؟ لما لا يبتسم لها الكون و لا تلفحها حمى العاشقين ؟؟ لما استحال قصره فجأة لمقبرة جوفاء لطوبى النساء ؟؟
"- إنهضي !! إنهضي يا حكمت !"
صدح صوت شورى الجهوري الباكي .. ترفع كنتها عن الأرض و تصرخ بتجلد :
"-فاروق !! جهز السيارة يا فاروق !! "
لم تكن تدرك أنها كانت تشهق .. لم تكن تدرك حتى أن شهقاتها صدحت تتبارى مع شهقات حكمت التي التفتت نحوها كما لو أن المسّ أصابها .. تناظرها بعينين متوحشتين ماطرتين بدموع مقهورة .. نظرات لو كانت تطعن لجعلت منها أشلاءا متناثرة
"- أنتِ السبب !! أنت السبب !! إنه شؤمك ! إنه سحرك الملعون !!" المسافة التي كانت تفصلهما اختفت و اضمحلت فجأة .. و أحست بأصابع باردة تلتف حول قماش رقبة فستانها الأحمر .. ثم اختضت بعنف و مادت بها الأرض و هي تتلقى نصيبها من الطعنات من لسان حكمت العاتي :
"- تسلطتِ عليه و علينا بشرك !! سحرتِه و قدمته قربانا للشياطين !!! عسى أن تموتي !! عسى أن يكون يومك قبل يومه !!"
"-اخرسي يا حكمت !! اتركي الفتاة !!"
"- فلتتركنا هي ! فلتترك ياقة إبني ! حل علينا الشؤم منذ أن حلّت!!"
انغرس ظهرها في حاجز السلالم الحديدي عندما ارتد جسدها إلى الخلف بدفعة من حكمت .. لكنها لم تتألم .. بل وقفت كالجثة .. تناظر هيجانها بصدمة و انطفاء كما لو أنها مطعونة .. كما لو أن قوتها نضبت لتستحيل لدمية خشبية شظفة !! تتردد كلماتها في داخلها بصداها الموجع .. هي السبب .. شؤمها السبب !
"- هذا ليس الوقت المناسب يا أختي !! أتركيها "
صدح صوت فيلدان المرتعش و ازداد نحيب دجلة التي تشبثت بعباءة أمها تمنعها عن ريان .. ريان التي بالكاد استطاعت الوقوف أمامهن دون أن تذوي و تتكوم على الأرض كبنيان انهارت عواميده .. بنيانها كان هشا .. و هو كان عمودها الوحيد !!
"-السيارة جاهزة .. فلنذهب !!"
هدرت نيفين تسند بتجلد جسد خالتها التي أشاحت عن ريان أخيرا متعثرة بخطواتها نحو باب القصر المفتوح على مصراعيه ..
راقبتهن بأعين عاصفة .. ملتصقة بالحاجز الحديدي تنشد منه دعما و مؤازرة لم تجدها في البشر .. تستكين إليه تتوسل منه مواساة لجرحها .. كانت مجروحة حالها حالهن و حتى أكثرهن جرحا .. لأنه في حين وجدت كل منهن عزاءها في الأخرى .. وقفت هي وحيدة غريبة عنهم متناثرة الأشلاء .. لم يسندها أحد .. لم يربت على كتفها أحد .. لم يواسها أحد كونها زوجة اِلتاعت في زوجها للتو .. لم يحتضنها أحد و لم يكلف أحد نفسه حتى بإخبارها تفاصيل ما حدث !!
انتحب قلبها صارخا من بين ضلوعها .. كانت تتألم .. كانت تنازع و تموت .. و عندما انتحب صدرها مطالبا بإشباع إدمانه لحضن دافئ يستكين إليه .. أدركت فجأة ان الحضن الذي تاقت لتبكي فيه فقد ميران .. هو حضن ميران نفسه !!
انتفضت من مكانها بارتعاش تناظر السيارة التي استقرت في مدخل القصر كما لو أن بها خلاصها .. فطفقت تمسح دمعاتها بتجلد هش .. ثم اطلقت قدميها المجروحتين تخط بهما طريقها نحو باب السيارة الخلفي الموارب تلبي نداء دجلة التي اتخذت مكانها في الخلف بانتظارها .. و عندما أوشكت على إدراك وجهتها .. أحست بجسد مندفع يرتطم بكتفها من الخلف .. و رأت مكانها الذي حجزته لها دجلة .. يُحتل من قبل نيفين !!
"- قد بسرعة يا فاروق !"
وقفت جسدا بلا روح .. تناظر بذعر برطمات دجلة من خلف زجاج النافذة و ينسلخ قلبها من مكانه عندما اشتغل محرك السيارة
"- لا !! لن نترك ريان ! توقف يا أخي فاروق لن نتركها !!"
"-لم يبق لها مكان .. اخرسي يا دجلة !!"
"- لااا يا خالتي أنا لن أتركها خلفي"
"-اخرسي !!!! "
قصف صوت حكمت من بين شهقات البكاء .. و رفعت شورى عينيها الدامعتين من المقعد الأمامي نحو ريان بإدراك متأخر .. لكنها لم تكن قادرة على فعل شيء .. فحفيدها كان ينازع .. و هي لم تكن تملك رفاهية الوقت !!
"-لا توقفوا !!! لا تتركوني هنا !! "
صرخت بانتحاب تضرب بيديها على السيارة التي تحركت تبصق دخانها في وجهها الباكي
"- سيدة شورى أرجوكِ !! دجلة ! دجلة أخبريه أن يتوقف !! "
لكنه لم يفعل ..
وقفت شاهقة تناظر الزنقة الخالية و تغرق في العجز .. عجز كان شبيها بعجز تلك الطفلة التي وقعت على وجهها من الكرسي الخشبي في محاولتها العاشرة لفتح قفل الباب المرتفع .. عجز أشبه بعجز تلك اليتيمة التي انعقد لسانها و خانها النطق .. اشبه بعجز تلك الشابة التي قيّد جسدها بسلاسل الإغماء بينما كان ينتهك من قبل احدى الذئاب البشرية ..
"- عليكم اللعنة !!!! "
صرخت بكل ما أوتيت من هياج و قهر و قد اكتسحها شعور مرّ بالدونية و الظلم ! و وجدت نفسها رابضة أمام القصر المهجور .. و بظهر مكسور !! قلبها نبض باللوعة باثا في عروقها قوة غريبة جعلتها تنقاد وراء بضعة بقايا من عقل و تهرع إلى داخل القصر راكضة غير آبهة بلسعات جروح قدميها المضمدتين ..
اقتحمت جناحها فاقتحمتها رائحة عطره التي تجانست مع رائحة البخور و القهوة .. و سقطت جمرة في قلبها تضرمه و تكويه ..
فخطت نحو غرفتهما كما لو أنها تمشي بين الأنقاض .. تتبين طريقها بصعوبة من خلف غشاوة الدموع الغزيرة باحثة عن غايتها فترى أثرا له أينما التفتت .. ترى مصلاته مطوية على حافة الأريكة بعناية .. ترى باب خزانة ملابسه مواربا و تصفعها منشفة استحمامه الرطبة المعلقة في مقبض باب الحمام بإهمال دليلا على استعجاله .. تقع عيناها على إطار صورته الباسمة مع دجلة فوق المنضدة الجانبية فتكتوي .. و تلتهب عندما تحيد بعينيها نحو المنضدة الأخرى .. نحو تحفة شقوق الذهب التي خبا بريقها من عينيها فجأة !!
أشاحت بإنهيار و هستيرية نحو طاولة الزينة تلتقط هاتفها الجديد بحركة خرقاء .. تفتح سجل الأرقام بأصابع هلامية .. سجل لم يحوِ سوى رقمه و رقم آيسيل .. و عصفت بها الذكرى عندما داعبت عينيها حروف إسمه الجميل .. فتصدع تماسكها و ضغطت زر الإتصال تناديه .. عله يجيب النداء كما عوّدها .. لكن ما قابلها كان صوتا أنثويا مشؤوما يعلمها بكل بساطة و برود بأن الرقم المطلوب غير متاح حاليا ..
تشنجت يدها حول الهاتف و اختنقت بالعبرات كما لو أن صدرها تمزق بسكين بارد .. غير متاح .. لأنهم وجدوه غارقا في دمائه !! و اظلمت عيناها عند تلك الخاطرة و التقطت حقيبتها تهرع الى الخارج بترنح .. واضعة نصب عينيها .. صورته المدمومة إلى جانب جسد والدها الهامد ..

لعنة الغجرية (مكتملة)|| The Curse Of The GypsyWhere stories live. Discover now