الفصل السادس عشر : عجز

25.5K 1.2K 865
                                    

³⁰/⁰³/²⁰²¹  ⁰³:⁵⁰

"لو أضعت نفسي .. سيكون أول مكان أبحث فيه هو قلبك"


أوراق متساقطة و أحراش غار حمراء ..طريق مزينة ببساط أصفر مغزول بحشرجات الأشجار و نسمة خريفية عصفت بالأشجان التي تساقطت من قلبه أخيرا .. فطفق يستنشق نفسا عليلا ..  يزدجر لعاصفة فؤاده العاصي الذي أبى الإمساك عن الصراخ احتفالا بموسم القطاف التشريني .. يخطو فيتساقط منه مع كل خطوة جرح .. ينبض خافقه فتخمد مع كل نبضة جذوة من جذى الحريق .. تبتسم عيناه لحجارة البيوت فينصبها شاهدة على ظفر رجل مدنّف .. خرج للتو من معركته مع الوصب منتصرا .. موسّما بنشوة الوصال ...
رفع أنامله يلامس أثرها فارتسمت تحتها ابتسامة راضية أغمض على إثرها عينيه و همس بتضرع :
"- الحمد لك يا إلهي "
كان قد طلبها من الله في يوم ماطر .. فجاءت الاستجابة في تشرين .. شهر العطاء و القطاف .. و قطفها بالفعل .. لكنه هذه المرة لم يهْوِ .. و لم تنغرز أشواكها في يده .. بل أينعت بين يديه و درّت عليه بالعبق .. ثم أودعته أمانة لله ...
سجع في سيره نحو بيت الله .. يتبارى مع لهفة للسجود شكرا لإستجابة لم تتأخر و يناظر طريق الله الخالي من الرواد بحسرة .. لا أحد يشاركه اللهفة سوى جشاء الرياح .. بيد أن وحدته لم تدم طويلا !
ضيق عينيه بتوجس و حواسه تلتقط تلك الحركة المريبة من خلفه .. فاِلتفت بترقب .. ليعقد حاجبيه عندما تراءى له ذانِك الخيالان السوداوان .. شابان بقد ضخم و نظرة لا تبشر بالودّ .. تحفز لها ميران و تصلبت لها أوداجه ..
تلوّنت عيناه بعدائية هوجاء عندما وقعت نظراته على الهراوة الخشبية التي كانت بحوزة أحدهما .. و نغزه حدسه بخطورة تجلت في نبرة صوته و هو يهدر :
"- من أنتما ؟ لا أظن أنني رأيتكما في الحي من قبل "
رآهما يتبادلان نظرات مبطنة بالمعاني .. قبل أن يخطو أحدهما خطوة مسح بها المسافة الصغيرة التي فصلتهما و يهدر في وجهه :
"- أعطنا المحفظة و الهاتف و سنخبرك من أين نحن"
توسعت عيناه و انفكت عقدة حاجبيه ليفتر فمه عن ضحكة مستهينة أردف على إثرها بلهو :
"- تم .. هل تريدان شيفرات بطاقات الإئتمان أيضا ؟؟"
نظر الشاب لرفيقه  ذو الهراوة .. ثم اسودت عيناه بوحشية لم يهتز لها ميران ذو الملامح العابثة و لو قيد أنملة و هدر بتهديد :
"- لا تعبث معنا يا رجل ! "
تجمدت عيناه بنظرات صقيعية هوجاء و اختفى الهزل من تقاسيمه و انكمشت ملامحه مكشرا بوحشية هاسا كلماته في وجهيهما :
"- اختفيا من أمامي .. لا تجعلا مني قاتلا و انا في طريقي لبيت الله"
اخترق عيناه لمعان الشفرة التي رآها فجأة تنبثق من يد الشاب الذي لوّح بها في وجهه بتهديد جعل عبوسه يتحول لغضب قمطرير .. و انفلت صبره من عقاله و أحس بالدم يكاد ينفجر من عينيه ليضم قبضته و يهوي بها على وجه الشاب الذي غافله و لوى يده ذات الشفرة بحركة سريعة
"- تريد المحفظة ؟ خذ المحفظة "
هدر بعنف و انفلات و هو يستقبل هجوم الشاب الثاني الذي رفع الهراوة عاليا التقفها ميران بيده في الهواء و عاجله بضربة من رأسه جعلته يتراجع خطوتين الى الخلف ..
نفض قميصه الأبيض بقرف و تحفز يتأهب لهجمة ثانية .. كانا ضخمين .. لكنه كان أسرع .. أخذ ذلك بالإعتبار و هو يحتسب حسابات سريعة .. بَيد ان حساباته تبخرت .. لأنه وجد نفسه و على حين غرة محاصرا في كمين غادر ..  وحيدا في مواجهة ست شبان أشداء بعد أن خرج له أربعة من ظلمة الزقاق ! اشتعلت عيناه بتجلد و تأهبت حواسه استعدادا عندما حاصرته الأعين المتربصة .. و الهراوات !
"- تظنون أنفسكم رجالا ؟ تعالوا ! "
هدر بعنف و تهور و هو يدرك أنه خاسر في هذه المعركة لا محالة .. لكنه أقسم على أن يخسر رجلا !!
"-أمسكوه ! "
لكمة أردى بها المهاجم الأول أنّت لها قبضته ألما .. و عندما نوى تسديد اللكمة الثانية نحو وجه الثاني .. وجد نفسه مقيدا بسواعد من حديد .. ثم رأى هراوة ترتفع و تلامس عنان السماء.. ثم تهبط و تهوي .. فوق صدره المكشوف  دون درع .. و أظلمت عيناه و مادت به الأرض و عصفت به اللّكمات و الهراوات من كل حدب ! ثم رآها .. انبثق له خيالها بالنور من بين الظلمات .. تناظره نائحة منتحبة و تركض نحوه لكنها لا تصل .. عندها فقط تذوق مرارة الردى الحنظلية .. و خمدت شجاعته بزخّات الخوف
"- لا تأتي !! ابتعدي من هنا "
و التقى جسده الهامد بالأرض ليتخذ من سماء الفجر لحافا ..
فوق الأوراق المتساقطة و أحراش الغار الحمراء التي ازدادت احمرارا بسيل من الدماء ..على طريق مزينة ببساط أصفر مغزول بحشرجاته و هو يلفظ أنفاسا ثقيلة تماهت مع النسمة الخريفية التي عصفت بأشجانه فزادتها شجنا و مرارة لوّنت همسته الأخيرة :
"- ريان "
و انطبقت عيناه ..

لعنة الغجرية (مكتملة)|| The Curse Of The GypsyWhere stories live. Discover now