الفصل الخامس "على حافة الموت"

193 10 0
                                    

الفصل الخامس "على حافة الموت"
__________
عادة ما نبقى صامدين أمام سيول القسوة الجارفة التي تنبع من أعماق أعدائنا؛ لتدفعهم نحو أذيتنا، بل نتحداها، ونقسم بإصرار على تحويل ذلك السيل إلى نيران تحرق أفكارهم الحاقدة، وفي خضم الأحداث قد نهرع نحو من نحب؛ لنلتمس منهم الأمان الذي سُلب منّا؛ ليُفرغوا علينا من دلاء الحب الذي خلت منه معاركنا، ولكن ماذا إن افرغوا دلاءً من الكره عوضًا عن الحب، فهل تحتمل قلوبنا المنهكة؟
أم تتهاوى حصوننا عنوة وإن ادعينا القوة؟

لم يتفاجأ "ريسين" كثيرًا بوجود ويليام، فدائما ما يتوقع حدوث الأسوأ قبل أن يقدم على أمر ما، مما يزيد من ثباته وصلابته أمام أسوأ المواقف، ولكن ما أثار تفاجأه هي تلك النظرات المشتعلة بنار الحقد التي سلطتها "إيڤان" نحوه، كم أدمت قلبه وعصفت بروحه، وعلى الرغم من ذلك فقد ابتسم بتهكم واضح وهتف بثقة تنافي حدة الموقف:
- ولا مرحبًا بمجرم مثلك

لم يعقب "ويليام"، بل أشار لرجاله ليلقوا القبض على "ريسين"، قاوم الأخير في البداية ونجح بطرح بعضهم أرضًا، ولكن الكثرة قد تغلب الشجاعة، فقد نجح رجال "ويليام" بالقبض عليه وتكبيله، رغم صيحاته الهائجة التي بثت في نفوسهم الذعر

قهقه "ويليام" بقوة بينما يقترب نحو "ريسين"، ثم قبض على وجهه ونظر إلى عينيه مباشرة وقال بـشر:
- أنظر إلىّ يا ريسين، أنظر جيدًا إلى وجهي وإلى عظمتي هذه، فهما آخر ما ستراه قبل أن اقتلك.

زمجر "ريسين" بغضب كثور هائج ثم قال:
- عظمتك تلك ستضحي قبرك الذي أقسم أن أحفره بيدي.

تابع "ويليام" إطلاق قهقهاته المثيرة للإستفزاز، واقترب من "إيڤان" التي بادلته ذات الضحكات، ثم قال محفزًا:
- ها هي الفرصة قد سنحت أمامك يا عزيزتي، فلتأخذي إنتقامكِ يا ابنة "الجوبلن".

اومأت "إيڤان" بحماس، وما زاد حماسها أكثر هو "ويليام" الذي قدم إليها سلاحه الخاص، أما "ريسين" فقد نقل بصره بين كليهما غير مصدق لما سمع توًا، فماذا عنى "ويليام" بجملته الأخيرة ؟

خمن "ريسين" على الفور كل شيء، فهذا ما يفسر نظراتها النارية المصوبة نحوه، اهتاج "ريسين" من جديد وود لو ينقض على "ويليام" ليمزقه إلى أشلاء، صاح الأخير بإستنكار، منفسًا عن ثورته العارمة:
- أيها الوغد المخادع، كيف عبثت بعقلها وأوهمتها بذلك؟!

كشف "ويليام" عن إبتسامة صفراء، قبل أن يردف:
- لم أفعل يا عزيزي، لقد أخبرتها الحقيقة فقط.

أما "إيڤان" فقد اقتربت نحو "ريسين" وجذبته من تلابيبه وقالت:
- هل ظننت بأن الاعيبك ستنطلي علىّ أكثر ؟!

استطردت بشر يعصف في عينيها مخاطبة "ويليام" بنبرة تحمل بعض الرجاء:
- أسمح لي يا أبي، لدى حسابات يجب أن أسويها معه على إنفراد.

لم يرغب "ويليام" كثيرا بالموافقة ولكنه في النهاية وافق على مضض اثر توسلاتها المتتالية، فأشار إلى رجاله بالخروج، ثم تبعهم بعدما ألقى نظرة أخيرة، تاركًا إياها بمفردها مع "ريسين" ...
*______________________*
وعلى الصعيد الآخر جلس "ريوك" غارقًا في تفكيره، وقد بدت علامات الإرهاق جلية على ملامحه، طال صمته الذي بدا مريبًا بالنسبة لـ "ماكس" الذي يقف أمامه بإحترام، إلى أن حطم "ريوك" صمته بضربة عنيفة من يده احدثت شرخًا كبيرًا في زجاج المكتب، لم يُبد "ماكس" أي ردة فعل، فماذا ينتظر بعدما ألقى ذلك الخبر الكارثي على مسامع رئيسه، هتف "ريوك" بعدما فقد أعصابه في واقعة هي الأولى من نوعها:
- هذا الغبي سيفسد كل شيء بعناده

تحدث "ماكس" بهدوء في محاولة لتخفيف حدة الموقف:
- سيدي لقد كدت أفقد صوابي وأنا أحاول إقناعه بالرجوع عن قراره، ولكن يبدو أن "ريسين" يعشق "إيڤان" حد النخاع لذا فشلت في إقناعه

صاح "ريوك" محتجًا:
- من يفشل في وضع حاجز منيع بين عمله ومشاعره لا يصلح أن يكون ضابطًا في المخابرات الأمريكية، مكافحة العصابات أمر في غاية الحساسية وأي خطأ من هذا القبيل يقلب كل الموازين

أردف بصوت هادئ:
- "إيڤان" هي سر أخفيته عن الجميع، كم أندم لأنني أوكلت له مهمة حمايتها

= ولكن يا سيدي كيف توصل "الجوبلن" إليها وقاموا بإختطافها ؟

تسائل "ماكس" بحيرة فأجاب "ريوك" بغضب:
- بسبب ذلك الخائن، الذي أصبحت لا استبعد أن "ريسين" يعاونه بعد ما فعل

حمحم "ماكس" ليتفادى أثر غضب سيده ثم عاد يقول بذات الهدوء:
- سيدي، إن "ريسين" هو من أكفأ الضباط لدينا، لطالما أنجز الكثير من المهام التي عجز عن تنفيذها سواه، ولا يمكننا الإستغناء عنه وعن خبرات ضابط مثله فماذا سنفعل؟

زفر "ريوك" بعصبية، واردف:
- "ماكس" لا تحاول التأثير عليّ، فلتذهب خبراته إلى الجحيم منذ الآن، أنا لن أضحي بكل ما خططناه طوال شهور لأجل شخص متهور واحد

أخذ الحزن يكسو ملامح "ماكس" رويدًا رويدًا إلى أن غطاه بالكامل، فرغم كون سيده محق بقراره إلا أن "ريسين" يبقى في النهاية صديقه المقرب، ورفيق دربه، كم كره عجزه عن إنقاذ رفيقه الذي ألقى بنفسه بين براثن الذئاب لينهشوا ما طاب لهم من جسده، ود لو يتجرأ ويخالف الأوامر كما فعل؛لإنتشاله من بين أنيابهم، ولكن أمر كهذا لا مجال له ولا يصح.

عاد "ريوك" يقول بحزم قاطعًا حبل أفكار "ماكس":
- أجمع الرجال سريعًا يا "ماكس"، لقد حان الوقت ليعلموا ما أخفيت لوقت طويل

لمعت عينا "ماكس" وقد خمن فورًا ما يجول بخاطر ريوك، فأومأ منصاعًا قبل أن يخرج على الفور.

بينما ظل "ريوك" جالسًا في مكانه لا يصدر حسًا، كانت عيناه تحدقان في الفراغ فقط، أما عقله فكان يجاهد ليجد طريقة مناسبة لتفجير ذلك الخبر بين رجاله، ذلك الأمر الذي أخفاه أيضًا لمدة لصالح تلك المهمة، والآن هو مرغم على قوله تحسبًا لما قد ينجم عن فعلة "ريسين" المتهورة، مرت نصف ساعة من الوقت حتى عاد "ماكس" ليعلم "ريوك" بإجتماع الرجال.

وفي غرفة الإجتماع جلس "ريوك" أمام رجاله، وبجانبه يقف "ماكس" بثبات، منتظرا إلقاء الخبر على مسامع القادة اللذين جمعهم على عجل، تنحنح "ريوك" ثم شبك أصابعه أمام وجهه كعادته في الإجتماعات الطارئة وقال:
- لقد جمعتكم اليوم لأمر هام، ينبغي أن يعرفه كل منكم وأن يتحرك وفقه.

تابع قائلًا:
- لم تسمح لي الفرصة سابقًا لأعلمكم به، ولكن اظن أنه الوقت المناسب الآن

أخذ الجميع يتبادلون النظرات حول ذلك الخبر العجيب، ولكن "ريوك" لم يترك لهم المجال أكثر فهتف بعدما أخذ نفسًا عميقًا:
- يسرني أن أعلن لكم أن العميلة (٦٦) ما زالت على قيد الحياة ...
*______________________*
أخذ ينقر على زجاجة الخمر التي تزين منضدته بضجر واضح، بينما تتابع عيناه صخب الحفل الذي أقيم على شرف ابنة زعيمه، خطر بباله ملامحها التي دائمًا ما تذكره بـ "شارلوت"، نعم فهما تشبهان بعضهما إلى حد ما، يمكن أن تتطابقا ببعض التنكر البسيط

شعرها الأشقر الذي تتمرد خصلاته على بشرتها الخمرية، وكذلك أباريق العسل التي تكنها بحدقتيها، كل تفاصيلها تعيد صورة "شارلوت" إلى ذهنه، وبرغم كونه لا يهتم لأمر أي منهما، إلا أنه لا ينكر أن شخصية "شارلوت" قد أثارت إعجابه سابقًا، حتى قامت بتلك الخيانة النكراء

نفض الأمر عن عقله ونهض ليسير بإنزعاج؛ كي يبتعد عن ضجيج الحفل الذي أرهق رأسه، ولكنه وجد جسده يترنح اثر سكره، قبل أن يصطدم بفتاة ما فيسقطا إلى الأرض معًا

كاد أن ينهرها رغم كونه المخطئ، ولكنه وجدها تخفي وجهها عبر قبعتها التي سقطت، ثم نهضت لتسير مبتعدة عن صالة الإحتفال دون أن تتفوه بشئ

ابتسم "سميث" إبتسامة عابثة وقرر أن يتبعها من باب اللهو، أما هي فقد أسرعت الخطى بين ممرات المنزل، وكأنها تعرف وجهتها جيدًا، تعقبها "سميث" بخفة، حتى رآها تقترب من غرفة "ويليام" الخاصة، فانقض عليها؛ ليجذب ذراعها نحوه ويتفحص وجهها، ولكنه فوجئ بها تضع خنجرًا صغيرًا على عنقه، قبل أن تلتقي أعينهما في نظرات دامت للحظات، اتسعت عينا "سميث" عقب رؤيته لملامحها، وسكن تمامًا اثر خنجرها الذي كاد ينحر عنقه

هل ما يراه حلم ؟! .. أم أن السكْر قد أودي به إلى الهلاك، وبات حيًا في عالم الأموات، همس بدهشة واضحة:
- شـ .. شارلوت !

لم تجبه، ولكن حدجته بإشمئزاز إلى أن استأنف قائلًا:
- ولكن كيف ؟ .. ألم يقتلك "ويليام" ؟

دفعته بعنف وقالت:
- بالطبع لم يفعل؛ لأنه صدقني .. كان يعلم بأنني لم أقم بخيانته، وكل ما حدث كان خطة ليس إلا

ثم تابعت بغضب:
- على عكسك تمامًا.

زم شفتيه بضيق وقال:
- لا أصدقك على أي حال، لقد رآكي الحراس في تلك الليلة وجزموا جميعًا بأنها أنتِ

= لست بحاجة إلى أن أبرر لك ما لم يستوعب عقلك الساذج حتى الآن

تمتم ساخرًا:
- إذا لا تطلبي مني تصديقك

لوحت بالخنجر بعيدًا ثم قالت بحنق:
- لن أفعل بالطبع، فلست شيئًا يهمني.

لمس الإهانة في كلماتها عبر تشبيهها له بالجماد، فقبض على عنقها وتمتم مهددًا:
- استمعي إلى جيدًا يا "شارلوت"، يمكنني أن اقتلك هنا ولن يدري أحد بأنني الفاعل، لذا انتبهي لما يخرج من فمك

هتفت بصوت عالٍ نسبيًا:
- أفعلها ليجدك "ويليام" ويقطع جسدك إربًا

حرر رقبتها من قبضته وعيناه تقدح بالشرر ثم قال:
- لا تتلاعبي بي، أخبريني مالذي حدث بالضبط

سعلت قليلًا قبل أن تشرأب لتلقي نظرة خاطفة متفقدة المكان، لتتأكد من خلوه من سواهما، ثم قالت:
- حسنًا سأخبرك، ولكن إياك أن ترتكب حماقة ما

أومأ موافقًا وأخذ يستمع إلى كلماتها التي كانت كوقع الصواعق على أذنيه ...
*______________________*
صوبت "إيڤان" سلاحها نحو "ريسين"، تزامنا مع تبدل ملامحها إلى الشر من جديد، أما "ريسين" فأمعن النظر إلى عينيها باحثًا عن إنكار لتلك الأكاذيب، أو عساه يجد إنعكاسًا لحبه الذي يكنه لها.

هتف بصدق تجلى في نبرته مخاطبًا إياها:
- "إيڤان"، اعلمي أن موتي لا يهمني بمقدار ذرة، لو كنت أخشاه لما هرعت إليكِ، ولكن انصتي إلى قلبكِ، هو دليلكِ، لا تدعي الأكاذيب تهلكه، أتصدقين أن ما أكننته لك من حب كان إدعاءًا؟، أتصدقين أن قلبي الذي سمعته أذناكِ ينبض باسمك كان خداعًا؟ هل خلتني وغدًا لأجعل من الحب وسيلة تمحو الحقائق، فتقسو نظراتك هكذا؟ .. إن كان نعم فلا تترددي، دعي رصاصكِ يمزق قلبي، وليُكتب لي الموت على يديكِ.

بدت جامدة، لم تتأثر، بل لم تهتز لها شعرة، قالت بنبرة قاسية:
- لن تخدعني كلماتك يا 'ريسين"، أنا لست "إيڤان" حبيبتك الوديعة التي تترقب قربك كما حاولت أن توهمني، بل أنا "إيڤان" ابنة زعيم منظمة "الجوبلن"، والتي ستجعلك تدفع ثمن خداعك الآن

رفع رأسه ليثبت شموخه مهما حدث، ثم ابتسم بخفة وقال:
- إذا ماذا تنتظرين، فلتفعلي

ألقت سلاحها على الأرض، ثم أخذت تقترب منه رويدًا رويدًا بينما تتمتم:
- ثق بأن موتك لن يكون سهلًا، سأجعلك تندم على ما فعلت بينما آخذ روحك ببطء.

وما هي إلا لحظات حتى انقضت على عنقه، وأخذت تخنقه بعنف، وكأنها ليث شرس يفتك بفريسته بأنيابه التي لا تعرف الرحمة
لحظات مرت وهي لم تفلت عنقه البتة، أخذ جسده المكبل ينتفض في محاولة يائسة للمقاومة، إلى أن جحظت عيناه حتى كادت تخرج من مقلتيها، واستسلمت أضلعه الثائرة، فهوى رأسه فوق جسده، وأغمض عيناه، لتسكن حركته كما سكنت أنفاسه أيضًا ........................!!!

_يـتـبـع_

بيدق الحب ... للكاتبة بوسي شريفWhere stories live. Discover now