الفصل الأول.

131 17 4
                                    


تسيرُ بغيرِ هُدىً تبحث عن مأوى تقضِي به ليلتها، تتعجّب كيفَ انتهى بها الحال لهُنا. كيفَ لهُم أن يقومُوا بمحيِ شعبِها عن الوجود! ونفْي ما تبقّى منهُم!

قطعَ حبل تفكِيرها صوت ضحكاتٍ قادِمة مِن منزلٍ وبعد تدقِيق النظر به، وجدَت أنّه منزلاً للفتيات، تماماً كالمَيتَم، ولكِن للفتيات اللاتي بلا مأوى. كان هذا المكان كالجحيم بالنسبةِ لهَا، فقد قضَت فيه بعض الوقت عندما هربت من براثِنِ هؤلاء الذين أذوا شعبها، ولكنّها كانت على عدم وفاقٍ مع كُل الفتيات بسبب أصولِها الغجرية.

لمْ تجد بدّاً من قضاء ليلتها هُناك، البردُ بالخارِج لا يرحَم، ولا الناس، فـلا طاقة لهَا كي تتعامل مع أحد أصحاب المتاجِر هؤلاء مرةً أُخرى.

بعدما اغتسلَت واستقرّت على الفراشِ الأرضي الذي يوفرُونه، عادت بذاكرَتها لذلك الرجُل الذي ساعدها. لم يبدو أنّه قد ساعدها دفاعاً عن شخصِها، بل دفاعاً عن مبدأه الخاص.

لم تستطِع إلّا أن تتصوّره كالزهرة في وسطِ الوَحل، فقد بدا شامِخاً وسط قذارة هؤلاء البائعين رُغم بساطةِ مظهره. ولكن لن تدَع المظاهر تخدعها، فقد رأت الوَيل من أهل هذه المدِينة، وهو واحدٌ منهُم، كيف له أن يكُون مُختلفاً! أغمضَت عينيها وكان هُو آخر من رأَت.

غداً سترحَل من المدينة، لتسعى لكسبِ رزقِها في مكانٍ آخر. وكانَت هذه أحد خِصالِ الغجر، الترحال المُستمر، فهُم لا وطَن لهُم إلا أنفُسهم. كان شعبها هُو وطنها وبعد رحيلهم لمْ يبقى لها وطناً.

...

كانت تتمايَل بجذعِها على أنغامِ طارتِها، تبعَث الفرح في قلوب هؤلاء من يُشاهدونها، حتّى مَن يمُر سريعاً فلا ينوبَه إلّا سماع أنغامها. يُلقى عليها من الحينِ للآخر بضعِ الدنانير الكافية لسد جوعِها وتغطِية تكاليف ترحالِها من خيلٍ وزادِ السفر.

ومع آخرِ ضربةٍ من كفّها الرقيق على طارتِها توقّف جسدها عن التمايل، وأخذت تجمع العُملات المعدنية في سُرّتها الصغيرة.

ترجّلت نحو أسوارِ المدينة لتقوم بتأجِير فرساً، رأت قافلة تتجهّز للسفر، يبدو أنّها قافِلة تُجارية. كانت تحاول إخفاء نفسها قدر المُستطاع تحت عبائتِها، كي لا يتعرّف عليها أحد وتلقى مصِير شعبها.

بعدما دفعت إيجار الفرس، توجّهت به نحو القافِلة التي كانت تقوم بآخرِ استعدادتها للرحيل. لمْ تنتبِه أبداً لتلك العيون التي تُراقبها بخُبث. تحرّكت القافِلة نحو بُساط الرمال الذهبية، قاطِعة الطريق نحو المدِينة التالية.

نظَرت خلفها نحو أسوار المدينة التِي تحمِل لها آلاماً كثيرة، وتحمِل أيضاً ذكريات عن عائلتها وشعبِها كادت أن تتلاشى بعيداً. لاحَ طيفُ مُنقذها أمام ناظريها كطوقِ النجاة. لا تُنكِر، فقد أثَّر بها ما فعله رغم عدم معرفته بها، والآن باتَ ذكرى في أرضٍ لنْ تعود لها أبداً.

كانت القافلة قد توقّفت للراحة، وما إن عادت للتحرُك مرةً أخرى، حتّى تسلل من جانبيها رجُلين مُلثمين مُمتطيان جوادين. لم تنتبِه لهُما، وبالتأكيد لم تكُن لتتوقع ما ينويان فعله، ولكن ما انتبهت إليه كان تلك اليد التي امتدت نحو عنان فرسِها. نظرت للجانب وما كانَ منها إلا أن تندهش، فقد كان ذلك التاجر الغامض الذي أنقذها فوق خيل عربي أصيل، وقد أمسك بعنان فرسِها يسحبها نحوه.

.. نهاية الفصل الأول.

| شفَق: الأمير المفقود |Where stories live. Discover now