الفصل الرابع والعشرون

780 16 0
                                    

الفصل الرابع والعشرون

قاد رامز سيارته ليدخلها بالممر المرصوف بعناية داخل قصره المنيف البارد وإبتسامة شقية تتقافز بين شفتيه ولا تغادر عينيه .. يتذكر كلماتها بعد أن قصت عليه أدق تفاصيل طفولتها ، كانت كمن يعبث بريشته ليجعل ذكرياته خالدة في لوحات ولم تكن تعلم أنها ترسم طريقه معها في الحياة .. حمل أبيها لها على كتفيه وهو يصر أن تطال يداها فاكهتها المحببة من التوت وهو يقول :" أميرتي لا تهز الشجرة ولا تأكل ما يسقط أرضاً.. إنما من حقها أن أجعلها تنال الأفضل من قمة الشجرة " تحاول جاهدة التثبت واقفة على كتفي والدها وتقطف ما تشاء حتى تملأ كيساً كبيراً ، اتسعت إبتسامته لإبتسامتها ولمعة عيونها وهي تكمل الصورة المثلى لتلك الصغيرة :" كانت أحلامي لا تتعدي مداعبة نجمات السماء والجري تحت المطر فجعلني دائماً أفخر بأحلامي " صمتت وهي تكزّ بأسنانها على شفتها السفلى السخية كفاكهة شهية .. تلاعبت عيونه بمشاعرها بتلك اللحظة فهمست تداري إحمرارها :" لقد علمني أن الطفولة قنديل الحياة فيها تتم السعادة و الرخاء وهي كنزنا الذي لا يُباع "
إبتسامته تسجل أمامها طفل بدأ يجد سعادته بين أسرارها فأردفت :" عندما نولد ونصرخ فإننا نسجل أولى إحتجاجاتنا وتمردنا بالدنيا .. فأي طفل ليس له خبرة إلا بعد ذلك التمرد .." إبتسامتها نقية لذيذة داعبت خياله وهي تخرج مكنوناتها :" لقد كنت طفلة مشاغبة ومعترضة على الدوام .. اليوم الوحيد الذي وجدتني لا أعترض ولا أتمرد يوم وفاة أبي" صمتت ولاحت بعيونها إبتسامة رضا وتقدير بها تباينات لم يقدر على الإمساك بها .. تبجيل حب .. لم يستطيع تفسير معاني تلك النظرة ، تنهدت واستطردت :" لقد ودعته لأذهب لكليتي وكنت بالسنة الثانية .. وعدت وأنا أراه يجلس أمام المائدة وينادي على أمي : إن الطبيبة حضرت وإننا نتضور جوعاً ، أكلنا معاً كما هي العادة وبعدها قام يأخذ قيلولته كما تعود بعد أن شرب كوب الشاي مع أمي .. ولكنه لم يستيقظ ، دخلت أوقظه لم يستيقظ هكذا بكل بساطة ويسر ذهب .. لم أصرخ ولم أنهار شعرت أن الإنهيار هو إعتراض على ذهاب ذلك الرجل الجميل للجنة والتمرد بالصراخ إعتراض على مشيئة الله ، أتعلم ؟؟ هو بجواري بكل لحظة .. ذاكرتي بها آلاف من الصور والمحادثات .. ما زلت أستشيره بكل ما يعنّ بحياتي .. إنه خليل القاضي من عائلة تجارية كان ناجح بكل المقاييس .. إنه أبي أنا أمنية " اتسعت إبتسامته فقد أصبح مصدر ثقتها بلحظة خارج إطار زمنه .. تعلم منها الكثير .. من تلك الصغيرة الهشة يتعلم ، نزل من سيارته وجذب سترته الملقاة بالمقعد الخلفي تجاور حقيبته الطبية .. طوح سترته خلف ظهره وهو يعلقها بطارف سبابته يدندن بلحن جميل لتلك الأغنية التي تشاركا بسماعها يقهقة صفاء عندما وجد بقع اللون الأحمر للفراولة مازال عالقاً بأساور قميصه ومتناثراً بعبث متناقض مع قميصه الأبيض .. وضع إصبعه على شفته وهو غير مصدق أنه حصل على قبلته الأولى يوم قبّلها بالمخزن .. فقدت شفتاه عذرية طال الحفاظ عليها ، من يصدق أنه رغم تلك السمعة الموشوم بها لم يكن له تجربة .. لقد قبل كفها ومازال يشعر بالتخدير الناعم على شفتيه !
دلف بهو القصر وهو يترنم بذلك اللحن الشجي وبدأ بإرتقاء ذلك الدرج الذي يؤلمه صعوده كل ليلة .. ليس إرتفاعه هو ما يؤلم وإنما الوحدة التي تطبق عليه ببراثنها .. أما اليوم فقد سجلت ذاكرته أول حوار آدمي شخصي .. إنها أمنيته الغالية هي من اقتحمت جدر وحدته وأيقظته من سباته البليد مردداً داخل حدوده الذاتية
" سوف أبني ذاكرتي معك أمنيتي .. فكل ما تقصيه سيكون مشتركاً بيننا ، إن طفولتك ستصبح طفولتي ".. أوقفه صوتها المقيد لمعصميه بأغلال أمرها طوال عمره :" هل نظرت لنفسك بالمرآة أيها الطبيب ؟؟ أم أن تلك المشردة استطاعت أن تؤثر عليك لدرجة لم تعد معها تعي تصرفاتك " نظر لمظهرها الراقي وتلك الإبتسامة البلهاء مازالت مرسومة على شفتيه وهي تردف :" ألم ترى قميصك الملوث وكيف تسير به ؟؟ لِمَ لم تبتاع آخراً من قرب المطعم الذي كنت به منذ ساعة !"
(( هه هكذا إذاً .. سيدة الإحسان والمجتمع المخملي تراقبه !)) قهقه داخله بسخرية .. لم يكن يتصور أن يتعدى الأمر حدود أرضية هذا القصر الخانق ، و بدلاً من إظهار الغضب الذي يعتمل بصدره كونه أدرك أخيراً من تلك المتشردة التي تقصدها اتسعت إبتسامته وراح يقترب بثقة من تلك المرأة الفاخرة الثياب والمتمسكة بمظهرها كصورة بغلاف على الدوام لدرجة أنه فكر لو هزّها بقوة لن تسقط شعرة من شعرها من مكانها المعتاد بثبات :" مَن ؟! عصمت الدويني.. أهلاً بكِ بمنزلك !" واقترب أكثر وهو يستمر بالتلاعب :" ألن تُقَبِّلي ابنك القذر الثياب ؟؟ حتى لن تطبعي تلك القبلة الباردة على وجنتي كما اعتدت ولا أراك بعدها أبداً .. صدقاً والدتي العزيزة عندما تصبحين بالمنزل تكونين كطيف لا نشعر به " اقترب وحاول أن يميل عليها ليقبلها فانكمشت على نفسها تخشى من تلوث ثيابها .. أثارت حركتها حنقه أكثر على تلك الأم المرسومة بغلاف فبدأ يفك أزرار قميصه بعد أن ألقى سترته مطوحاً بها بالهواء فتطير كطائر وتستقر على الأرضية الجرانيتية الباردة يتبعها بقميصه .. ويعاود الإقتراب وهو يتحدث بصوت عادي :" هكذا لن تتلوث ثيابك ، هيا قبليني أمي " نظرتها تكاد تحرق صدره العاري وداخلها صرخات عالية تعترض على تصرفاته المشينة أمامها.. أمسك كتفيها ليميل عليها وجدها تزداد إنكماشاً وهي تهتف بإشمئزاز :"هل جننت يا ولد ؟ كيف تخلع ملابسك أمامي وخارج غرفتك !" تراجع خطوة للخلف و قال بصوت غريب و هو يعبس :" أنا ابنك وممكن أن تريني عارياً فلا تخجلي هكذا .. أمي لم أعد طفلاً ، لقد خلعت الحفاضات منذ آخر مرة رأيتني بها .. أنا أدرك أنكِ تعلمين أني تخطيت الخامسة والثلاثون .. ولكنك لا تعترفين بي أصلاً حتى ترينني رجلاً .. إنك تريدين ذلك الطفل الأزلي ..الذي تركتيه بالمنزل وحيداً في غرفته " صرخت به :" ليس هدفي من الزيارة اليوم مناقشة إن كنتَ مازلت طفلاً .. وإنما أحذرك من تلك الطبيبة المشردة التي تحوم حولك والذي حدث اليوم لن يتكرر أبداً " تأكد ما كان ينكره منذ وجدها وأكدته ولكنه تغاضي عنه .. لكن يكفي هذا .. لقد قرر أن يحاول التماسك أمامها أما الآن فإعلان التمرد واجب لذا قال بسخرية لاذعة :" أتراقبينني أماه ؟؟ وما نوع المراقبة يا تُرى ؟ أهنالك صور ؟؟" وجدها صامتة إعترافاً بجرمها المشهود .. حسناً طفح الكيل .. هو ليس مهماً فقد سبق و ضيعت طفولته لكن أن تضيع مستقبله مع أمينته و حبيبة عمره فهذا ما لن يسمح به أبداً !
أشاح بوجهه بعيداً عنها بعنف ليجد نفسه يصرخ بها بطريقة لم يسبق لها أن تتخيل حدوثها :" انطقي هل هناك صور لابنك وهو مع خطيبته ؟" تراجعت خطوة للخلف وهي تصرخ :" لن أسمح أن تكون خطيبة لك أبداً وأنا حية " ظلّ واقفاً بجمود .. فقط رأسه تحرك لتواجهها عواصف عينيه وهو يمد يديه بجانبه ويتركها تسقط بجواره ليقول بصوت هامس كمن يبدو قادراً على القتل :" لن أقسم .. ولكن إن تعرضتِ لأمنية بأي حال من الأحوال سأقوم بفضحك على صفحات الصحف .. وسأقص على الجميع قصة سفيرة النوايا الحسنة عصمت الدويني .. التي لم تر ابنها منذ أكثر من سبع سنوات وتراقبه كمجرم ، صدقيني لقد تعلمت منكِ الكثير من الجفاء فلا تدعيني أستعمله معك " و لما رأى وجهها يمتقع بشدة ضحك بحقد بالغ أمام دهشتها المسيئة لمشاعره المستنكرة تصرفاتها :" لقد جعلتيني أحسد الأطفال المشردين لأنهم حظوا بإهتمامك ! كنت أريد أن أتمتع بطفولتي البريئة والبسيطة .. كنت أتمنى أن تكون ذاكرتي صوراً لنا كعائلة ولكن لم تكن هناك أوقات تجمعنا .. حتى لو كانت سيئة " اتساع عينيها كدهشة متأصلة على وجهها وإستنكار وإمتعاض بملامحها هو كل ما استطاعت أن تعبر به عما يجول بداخلها..
عاد همسه المتألم بشدة كشاه تم نحرها لكنها تحاول التمسك بكل ما أوتيت من قوة بحياتها .. بحقها في الحياة كحقه هو في الحياة و قد سلبته كل طفولته :" أنظري حولك .. هل هناك صورة واحدة تجمعنا ؟؟ لا أقصد تلك الصور التي طالما أُجبِرنا عليها لتنالي المقالات العصماء عن تلك السفيرة المجدة والزوجة المثالية والأم الرائعة .. إنما أتحدث عن الصورة الحقيقية لنا إنما نحن أرواحاً فارغة سيدة عصمت " وبسخرية شديدة نظر للأسقف وصار يشير للكاميرات المعلقة بكل زاوية بالمكان :" هذه هي العلاقة بيننا .. تلك الكاميرات فقط ، استيقظي من وهمك أماه .. فأنتِ بالحقيقة لم تكوني يوماً أمي ، أنتِ تريدين طفلاً قطنياً فقط وأنا لم ولن أكون " وجد نفسه دون شعور كطفل تائه في عينيها يحاول أن يجد و لو بادرة بمثقال ذرة عن حبها له .. عن أمومتها .. اللعنة بل حتى شعور بالذنب !
لكن هيهات .. وماذا ينتظر من عصمت الدويني ؟؟ أينتظر قطرات حنان تصبها بقلبه ؟؟ أم بذرة أمل تزرعها داخله ؟! سواء هذا أو ذاك فهو لن يجده يوماً بعينيها ، الآن ما يجده هو الغضب .. الإستنكار .. الإشمئزاز .. الدهشة الشديــــدة .. كل شيء عدا ما يتمنى .. ببساطة هو يرى الخواء بعينه ، خاب أمله .. هل عاد هنالك أي أمل ليخيب ؟! لقد فقد أمله منذ زمن طويل لكن لا يعلم لِمَ بين الفينة و الأخرى ينظر إليها علّه يجد ما يريد .. ربما هي حلاوة الروح ليس إلا ، هزّ رأسه بإدراك كأنما لطمه الواقع المرير .. استدار يسير بهدوء شديد .. خطواته تنافس الجرانيت في صقيعه ، هدوء يناقض غضبه بشدة و رغماً عنه وجد نفسه يدخل غرفة جانبية عائداً بلمحة بعصا البلياردوا الطويلة المُخزّنة منذ مدة غير معلومة .. ارتسمت إبتسامة ساخرة على شفتيه و هو يتذكر آماله حول هذه العصا وكيف أنه سيغلب بها والده بمباراتهما الأسبوعية التي كان يعقدها بخياله .. لماذا ؟ لماذا كان دوماً ذلك الطفل ؟ لماذا كان يرضى بتلك المعاملة لماذا ؟ كان ينتظر فتات لم يذقه يوماً و مع ذلك رضى !
أنفاسه تعالت بغضب متأجج و صدره أخذ يعلو و يهبط بعدم إنتظام فسرعة و هياج .. إلى أن شعر بأنفاسه تثقل .. أنه يجب أن يُخرج ما يشعر به و إلا سيخذل نفسه مدى الحياة ، رفع رأسه يهزه بطريقة غريبة و رنت منه نظرة حمّلها بكل مشاعره ليصرخ بكل ما أوتي من قوة :" آآآآآآآه لقد تعبت من ذلك الطفل البليد الذي لم يتمرد عليكم يوماً .. لم يكسر طبقاً ولم يقفز فوق الدرج ، امتثل طويلاً لأوامركم علّه يستحق حبكم .. لم يفتح فمه عالياً بإنتظار تلك المكافأة كشحاذ أو حيوان يتوسل لقمة تسد رمقه .. أعطى و أعطى و أعطى بإنتظار تلك المنحة .. تلك اليد التي ستمدونها .. لا بل التي ظنّ أنكم ستمدونها ولكن طالما ذلك لم يحدث .." و رفع نظراته إليها قائلاً ببرود شديد :" إليكِ قراراتي .." اتسعت عيناها و هي تراه يلقي بالعصا لأعلى ليتلقاها بيد ترتجف غضباً و بطرفة عين كان قد بدأ بتهشيم كل كاميرا يجدها أمامه بتلك العصا الطويلة و هو يصرخ :" لن يكون هناك كاميرات منذ هذه اللحظة .. أبداً لن أعيش مراقباً ، بل لن أحيا هنا أبداً أبداً .. أبـــــداً آآآآآآه " عاد يصرخ و هو يفرغ طاقته في كل ما يجده أمامه و بينما هو في غمرة غضبه وقت نظراته على قميصه الذي ألقاه منذ لحظات فقط يشهد على إنجازه .. يصرخ به معترفاً أنه لم يعد ذلك الطفل .. لم يعد ذلك الخنوع بل تمرد .. أجل لقد فعلها !
ألقى بالعصا التي كان يتشبث بها بقوة و بغضب التفت إليها مكملاً ثورته هامساً بنبرة غريبة بشدة على أذنها .. لكن من أين أن تعرف نبراته و هي لم تسمع منه سوى حاضر و نعم خنوعة كان يُطلقها على الدوام
" أما ملابسي يا أمي فها هي " وجدته يفك حزامه ويلقيه كثعبان أسود يكاد يلتهمها وأتبعه ببنطاله واقفاً أمامها بسرواله القصير وهو يصرخ بها " انظري لابنك الطفل أماه .. " و بألم شديد ينخر بعظامه أكمل و صوته المبحوح يبكي أشد البكاء :" أنا لست سوى طفل كان يريد أمه !"..
" أخيراً تمردت على دورك بالحياة !" كان صوت والده ! والده وقف يشاهد ما يحدث و لم يردعه ؟!
التفت إلى مصدر الصوت ليحملق به متزامناً مع أمه ليريا النادر التواجد ، لهثت عصمت تعدو لزوجها :" لقد فقد عقله يا مجدي كلية !" نظر إليها زوجها قائلاً بهدوء :" لقد استعاد رشده الآن ، لقد كسر ذلك القالب الصلب الذي سجنته به .. الدراسة .. التحصيل .. الأكل برقي .. المشي وحتى الكلام .. لم تجعليه يشعر يوماً بملمس الطين على قدميه ونعومته ودفئه ، و الآن ماذا تريدين منه ؟؟ اتركيه .. سلبتيه طفولته و يكفيكِ هذا فلا تجهزي على مستقبله " وقفت تعقد ذراعيها أمام صدرها الهادر :" طبعاً أنتَ خير من يدافع عن تلك الأشياء فلم تنس أصولك القديمة بعد " قبض على عضدها يكاد يهشمها يهمس بخشونة غاضبة :" أصولي طيبة وطفولتي كانت رائعة فهي حنيني للآن وأحلامي كانت من أجل تلك الطفولة " أرادت أن تغادر فلم يمكنها من جذب ذراعها :" لا تغادري وأنا أتحدث إليك ، لقد سئمنا الأدوار الثانوية بحياتك وآن لنا أن نبدل الأدوار ... ستختارين الآن إما نحن أو عملك اللعين الذي مزقنا " جذبت ذراعها فجأة من يده القوية و هي تصرخ بغضب هائج :" إنك لم تعترض سابقاً فماذا حدث اليوم ؟؟" قبل أن يتفوه صدح صوت تصفيق بارد من جهة ابنه الحبيب و قد طوح جسده بأكمله يهزه ضحكة هيستيرية ليجده يهتف بنبرة لاهية ساخرة :" أجل والدي .. أجِب على سؤالها فأنا في شوق لسماع الإجابة ، أتعلم ؟؟" و غرق في دوامة ضحك جديدة ليقول ما إن هدأ :" حقاً أحييكَ على صحوتك المفاجئة ، صدقاً لم أكن أعلم أنكَ تكنّ لي كل هذه المشاعر الفيّاضة و تنتظر ثلاثين سنة لتخبرني .. يا الله كم أنك عطوف يا رجل !" و لما كاد مجدي يفتح فمه يدافع عن نفسه .. عن سكوته وجد يد ابنه توقفه و هو يرتاح بجلسته قائلاً :" رجاءاً لا تجعلني أُعطلك .. أجب على السؤال فأنا كلي شوق لسماع الإجابة " تمزق قلبه على حال ابنه لكنه طوح ذراعيه أمامها وقال بهدوء :" اليوم تلاعبت أمامي إحدى صديقاتك الجدد وقدمت لى عرضاً واضعة نفسها أمامي على طبق من فضة .. تعلم أنني متزوج من قطعة رخامية باردة ولولا أصولي الطيبة التي تهينيها الآن ما كنت خشيت ربي وسقطت في حبائلها .." صمت بينما غرق رامز في سلسلة ضحكات أخرى و هو يرى وجه أمه الممتقع بشدة لكنه كما ضحك فجأة كما قطعها فجأة و هو يسمع والده يكمل بتهديد :" لم أعد أريد صورة زائفة ، أريد حياة كاملة .. لكن إن استمريتِ على تلك الشاكلة فسوف أتزوج أنا وابني وأحيا ، كفانا ضياعاً من أجل مناصب زائفة .. كفانا !" نظر لرامز الرجل الشاب ليتقدم إليه ببطء .. يقدم خطوة و يخشى الأخرى .. يخشى أن يصدّه ابنه بسبب ما فعله معه .. أن يبعده عنه بسبب سلبيته ، ما إن وقف أمامه حتى أشرف على الجالس الآن بتوتر شديد و لا يستطيع منع نفسه من الإرتجاف .. أيعقل أن يحدث هذا حقاً ؟! هكذا تساءل رامز قبل أن يشعر بكف والده يحط على رأسه ليدفنه في تجويف صدره ، جمد و قد صعقه الموقف .. لطالما طالب بقبلة حانية و عناق أبوي لكنه يوماً لم يفكر فيما بعد ذلك .. فيما لو تحققت أمنيته بالفعل ! و الآن و هو في أحضان والده لا يعلم ما يفعل بالضبط !
جاء صوت والده ينقذه من مشاعره : " يكفي بأن تفتح ذراعيك و تعانقني بالمقابل " كأنما كانت تلك الكلمات هي التي ينتظرها لتفكّ سرّ جموده فيفتح ذراعيه و يلفهما حول جسد والده بالضبط كما أخبره .. كما كان بطفولته خنوع مطيع .. لكن هذه المرة خنوعه مختلف .. جسده بالكامل يتوق لذلك الخضوع و قلبه يتلهف ليقول حاضر إن كانت ستجعله يستنشق رائحة والده و لأول مرة ، لم يقاوم أن يبتسم و دمعة حائرة تقف على حدود رموشه .. أخيراً لديه ذكرى جديدة من مشاعر كان يجهلها !
وصله همس أبيه داخل أذنه :" لقد أرعبني جسدك العاري أمام أمك .. خشيت أن تكون فقدت عقلك فعلاً .. ولكن يبدو أن جنونك من نوع آخر " لم يتمالك رامز نفسه وقتها فأخذ يضحك بسعادة شديدة و ازدادت سعادته أكثر عندما قال والده بصوت واضح لتسمع والدته ما يقول :" أريد رؤيتها " وصلهما صراخها من خلفهما بحنق شديد :" لن تدخل تلك المشردة منزلي مهما حدث !" عندها التفتا إليها معاً وبذات الكلمة كانت صرختهما المجتمعة :" إذاً نخرج نحن إليها !"..

الفجر الخجول(مكتوبة)حيث تعيش القصص. اكتشف الآن