المباني التاريخية

173 22 4
                                    

منذ وقت بعيد، ظهرت فئة في الأدب كانت سبباً في إحياء كثير من التراث وتخليد ذكرى البعض؛ ألا وهي الفئة التاريخية. فمنذ بدأ الكتّاب يخطّون بأقلامهم عن مدن وبلاد شرقية وغربية، وأزمنة غير زماننا لم يرها أجدادنا، كان لزاماً عليهم إظهار معالم قوية تكون دليلاً على صحة ما يكتبون، وإبرازًا لحقائق مثيرة قد غفل عنها الكثيرون.

والمباني أعزائي القراء هي أماكن رغم تطورها ومواكبتها لكل عصر إلا أنها تحتفظ بأهميتها، كما وتختلف أحجام المباني، أشكالها، وتصميماتها الداخلية والخارجية على حسب الاستخدام؛ فمثلا لدينا المباني السكنية التي وعلى الرغم من وجودها في كل العصور والأزمان فهي أيضا تحتفظ بوظيفتها وحجمها شبه المتوسط تقريباً، المعابد، الكنائس، والمساجد، ايضاً التي تواجدت في أكثر من عصر وعلى الرغم من اختلاف تصميماتها طبقاً للعمارة في تلك العصور واختلاف الشعائر التي تغير فيها، إلا أنها احتفظت بوظيفتها كمكان لأداء الشعائر الدينية لإحدى الطوائف، إذاً هي مثل البيوت أبقت على وظيفتها كمكان للصلاة والعبادة.

أما المقابر فقد اختلفت في بعض العصور بأشكالها لكنها ظلت بنفس الأهمية وهي احتضان جثث الموتى. الإسطبلات كانت ولا زالت بيوتاً للحيوانات، لكن يختلف التصميم حسب الأدوات والمساحة، أما الثكنات فتظل سكناً للجند، والمغزى منها هو الفصل بين الجنود وعامة الشعب لتحقيق النظام ومساعدتهم للتركيز، تظل هذه وظيفتها مهما اختلف شكلها وتصميمها مع الإبقاء على بعض الأساسيات مثل بنائها الهندسي، بحيث تحفظ الحرارة فتكون الجدران سميكة ومنافذ الهواء محدودة وتكون فتحات تصريف البخار للأعلى.

وهناك القلاع أيضًا، وهي واحدة من أضخم المباني على الإطلاق، وتكون عبارة عن حصن منيع يشيَّد في موقع يصعب الوصول إليه؛ غالبًا ما يكون على قمة جبل أو مشرفًا على بحر، وقد وُجد بعضها مشيداً على أرض منبسطة. تبنى القلاع عادة بغرض الحماية من الأعداء، ولتتحصن حامية المدينة في حال تعرضها لهجوم ما، وكانت القلاع إحدى أهم وسائل الدفاع في العصور القديمة.

كما تعلمون لكل عصرٍ مبانيه التي تتطور بمرور الوقت تزامناً مع تطور الإنسان، وكما تعمل المباني على إبراز الزمكان في الواقع، فهي تعمل ذلك في الأعمال الأدبية أيضًا، وللمباني أثرها الكبير على العمل الأدبي؛ فهي تساعد على إبراز وتوثيق الزمكان الخاص بالعمل، فالكنائسُ والمساجد والمعابد والحواجز والقصور والقلاع ليست مدخلًا إلى علم الجغرافيا أو السياحة، وليست مواقع على خارطةٍ ترسم حدود الأمكنة والأزمنة، بل شواهد على رمزية تُمثّل صراعَ بقاء وجودي أو محوًا أبديّا، فهي ليست المكانَ بقدر ما هي الممارسات والعادات التي يسلكها الناس في هذا المكان بتأثيرٍ منه، لذا فالمباني مهمة للدلالة على صحة الزمكان المتّبع في العمل الأدبي.

والمباني تظهر بعض المصداقية على العمل الأدبي وتعطيه الواقعية اللازمة ليتفاعل معه القرّاء، فمثلاً لو بدأت قصتك بالبطل يقف أمام برج إيفل أثناء تشييده، لا تحتاج لذكر المكان أو الفترة الزمنية، وهو أيضاً يضفي التشويق والحماس على العمل، لكن مثلاً لا يمكنك ذكر أن البطل ذهب لمتحف اللوڤر في القرن السابع عشر وتجول بين اللوحات يتأمل جمالها، لأن المتحف كان مقراً لأكاديميتي التمثيل والنحت والرسم في تلك الفترة ولم يصبح متحفاً إلا في بدايات القرن الثامن عشر! وهنا يظهر مدى ثقافة الكاتب واطّلاعه على زمكان القصة جيداً قبل كتابتها.

اختلاف مسمّيات المباني بمرور الزمن رغم كونه غريباً لكنه منطقي نظراً للغات التي تطورت عبر العصور، فقديماً كان لكل شيء اسم يدل علي أهميته أو ما يفعله، المشرفية مثلاً من اسمها تعني أنها تشرف على شيء أو تطل عليه، المشربية كذلك؛ فاسمها من الشرب وقد كان يوضع فيها أواني الشرب الفخارية كنوع من السبيل ولتبريد الجو.

قد تختلف استخدامات المبنى الواحد أيضًا من زمن لآخر، مثل ذلك لدينا مبنى البازيليكا، وهو واحد من أهم المباني في حياة سكان المدن الرومانية، حيث بنيت أول بازيليكا في روما في العصر الجمهوري، أما معنى كلمة بازيليكا فكان يستعمل لدى الإغريق اصطلاحًا كصالة الملك أو العرش أو القاعة الملكية، كانت في العصر الروماني تبني بالقرب من الأسواق بجانب الطرق الرئيسية لغرض تجاري، ولكن في فترات لاحقة أصبحت جزءا لا يتجزأ من المباني الملحقة بالميدان العام، وبدأت تستعمل كدار للقضاء؛ حيث بدأت المحاكمات والمرافعات القضائية تجري فيها، ومكان لعقد الصفقات وتصديق العقود، وبعد انتشار المسيحية نظرا لأنها مكان فسيح استغله المسيحيون كمكان لإقامة صلواتهم وشعائرهم المسيحية.

من هنا نستنتج أن المباني هي الأثر الأكثر أهمية في حياة الشعوب، فهي تحيي ذكراهم في عقول الأجيال المتلاحقة، ولذا يجب الاهتمام بها في العمل الأدبي لأنه من يعلم؟ قد تندثر حضارة كاملة وتتهدم مبانيها لكن تظل حاضرة بعمل أدبي واحد يخلدها في القلوب!

كتبه العضو: هايكو رانو.
نحبكم ⁦❤️⁩

معالمٌ منسية |عنصري الزمكان|Où les histoires vivent. Découvrez maintenant