الفصل الحادي والعشرون

Start from the beginning
                                    

***************
فتحت "سمر" عينيها لتجد نفسها وحيدة فى ظلام الغرفة الدامس .. جلست فى فراشها وهى تشعر بثقل شديد فى رأسها .. لحظات .. وتذكرت ما بها من نكبة فأجهشت فى البكاء وهى تشعر بكل ذرة فى جسدها تصرخ ألماً وقهراً .. أطبقت بيدها على ملاءة السرير تجعدها بين أصابعها فى عنف وجسدها يرتج لقوة بكائها .. شعرت بألم حارق يغزو ذراعها الأيسر .. أسندت بظهرها الى السرير وهى تبكى لما تحمله فى قلبها وذراعها من آلام .. طرقت "لميس" الباب ثم فتحته وهى تنظر الى "سمر" فى لوعة .. اقتربت منها قائله :
- مدام "سمر" .. حضرتك كويسة
التفت لها "سمر" بوجهها الباكى وهى تسألها بصوت مبحوح :
- فين "عدنان" ؟
قالت "لميس"بهدوء :
- سافر
قالت بصوت مرتجف :
- سافر فين ؟
قالت "لميس" بأسى :
- سافر سوريا .. أصر انه يشوف الجثة قبل ما تدفن .. حابب يتأكد من انه هو فعلاً "مهند"
قالت ذلك وقد لمعت عيناها بالعبرات .. فأجهشت "سمر" فى البكاء وهى تردد بلهفه :
- يارب ميكنش هو .. يارب يكون لسه عايش
ازدادت نظرات "لميس" حدة وهى تصوبها الى "سمر" التى لا تهتم بما تلفظه من كلمات .. بدت فى غير وعيها تماماً والا لما أخطأت بلفظ كلمات تجعلها موضع شك هكذا ! .. اقتربت "لميس" من الكمودينو بجوار الفراش وأعطت لـ "سمر" أدويتها .. ثم قالت :
- ارتاحى شوية زى ما الدكتور قال .. "عدنان" بيه وصانى عليكي وقالى أهتم بيكي بنفسى
لم تعبأ "سمر" بكلامها نهضت وتوجهت الى الحمام الملحق بالغرفة وغسلت وجهها .. وقفت تنظر فى المرآة الى أعينها الحمراء كالدماء .. ثم جففت وجهها وخرقت من الغرفة متوجهة الى غرفة "فريدة" التى رأتها جالسه برفقة "نهال" تبكيان سوياً فى لوعة .. لم تتحمل "سمر" وهى تراهما على هذا الحال فأجهشت بالبكاء هى الأخرى وهى تلقى بنفسها فوق احد المقاعد فى انهاك .. لحظات مرت قبل أن تقول بصوت مرتجف :
- ان شاء الله مش هيطلع هو اللى مات .. ان شاء الله هيكون عايش
مسحت "فريدة" عبراتها وهى تقول بلهة :
- يارب يا "سمر" .. يارب
نهضت "فريدة" فجأة وتوجهت الى الخارج .. وبعد دقائق عادت ثم حملت اسدالها وفرشت سجادة الصلاة ووقفت تصلى فى خشوع .. نظرت اليها "سمر" بأعين دامعة .. رأتها تسجد وتبكى فى سجودها تسمع همساتها بالدعاء الى "مهند" .. شعرت "سمر" فى داخلها بعجز كبير .. وكأن جوارحها كلها مشلولة .. شعرت بقهر غريب .. لا تقوى حتى الدعاء الى الله عز وجل .. تذكرت كلمات "مهند" لها عند النافورة فى ذلك الفندق .. عندما قال لها .. كيف تدعين الله وأن تعصيه .. كيف تجرؤين .. تساقطت العبرات من عينها حارقه .. مسحتها بظهر كفها وهى لا تزال تنظر الى "فريدة" الساجدة .. قبل أن تنهض وتعود الى غرفتها .. تناولت هاتفها النقال واتصلت بـ "عدنان" وهى تقول بلهفة :
- انت فين دلوقتى ؟
قال "عدنان" بصوت كمن انتهى للتو من البكاء :
- لسه واصل تركيا
- طيب انت عارف هتكلم مين وهتوصل ازاى
- أيوة عارف
- ضرورى تطمنا لما توصل لحاجة .. ضرورى
- أكيد .. هقفل دلوقتى .. هتصل بيكى أول ما أوصل سوريا
ألقت "سمر" الهاتف فوق فراشها .. ثم جلست بجواره وهى لا تزال تشعر بذلك الشعور .. بالعجز والشلل .. تنامى الى مسامعها آذان الفجر .. فبكت أكثر .. بكت وهى تسمع ذلك النداء الذى تجاهلته لسنوات طويلة .. تشعر بأنها عاجزة عن تلبية النداء وعن الاستجابة له وعن الخضوع له .. شعرت بنفسها تريد التضرع والهتاف .. يارب احميه .. يارب أعده سالماً .. لكن كيف .. كيف يستجيب الله لها ؟ .. كيف يلبى حاجتها ؟.. كيف وهى تعصاه سراً وجهاراً .. كيف وهى تأتى بما نهى وتعزف عما أمر ؟ .. انتهى المؤذن وبدأ الكون فى تلبية النداء .. ارتجف قلبها وهى تحمل اللاسلكى لتطلب من الخادمة الصعود الى غرفتها .. ولأول مرة منذ أن اتت الفيلا تطلب من الخادمة هذا الطلب :
- ساعديني اتوضا
أومأت الخادمة برأسها وتوجهت برفقة "سمر" الى الحمام .. كانت "سمر" تستعين بالخادمة فى كل شئ .. لم تكن تستطيع حتى ارتداء ملابسها بمفردها .. ولا أن تصفف شعرها بمفردها .. كانت تعتمد عليها فى كل شئ .. انتهت من الوضوء بحسب ما تتذكر .. ثم طلبت من الخادمة الإنصراف وهى تشعر بالاستحياء أن تصلى أمامها .. بل شعرت بالاستحياء أن تقف بين يدي الله .. أتت بسجادة "عدنان" وفرشتها أرضاً ثم وقفت وهى تشعر بشعور غريب يتملكها .. وقفت تطلقت تنهيدات وهى تشعر بتوتر .. يجفل قلبها كالموظف الذى عصى مديره كثيراً حتى طرده وأغلق بابه فى وجهه .. وبعد سنوات أراد العودة الى ذلك المدير واستسماحه أن يعطيه فرصة اخرى .. لكنه وقف على باب المدير يخشى أن يطرقه .. يتمنى أن يدخل .. لكنه لا يجرؤ . .يخشى أن يعود خائب صفر اليدين .. يخشى أن يظل المدير حاملاً له الغضب فى نفسه .. ولله المثل الأعلى !
بلعت ريقها ووقفت تغمض عينها للحظات تستشعر ما هى مقدمة عليه من صلاة يشاركها فيها الله عز وجل بالمعنى .. كما قال فى الحديث القدسى "قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ولعبدي ما سأل. فإذا قال العبد: الحمد لله رب العالمين. قال الله: حمدني عبدي، فإذا قال: الرحمن الرحيم. قال الله: أثنى علي عبدي. فإذا قال: مالك يوم الدين. قال: مجدني عبدي. وإذا قال: إياك نعبد وإياك نستعين. قال: هذا بيني وبين عبدي، ولعبدي ما سأل. فإذا قال: اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين. قال: هذا لعبدي، ولعبدي ما سأل "
رفعت كفها بمحاذات أذنها وكبرت للصلاة .. أطرقت برأسها فى خشوع تنظر الى موضع سجودها وقلبها ينبض داخل صدرها بتوتر .. لم تجد تنتهى من تلاوة الفاتحة حتى انفجرت الدموع من عينيها كنبعين صافيين يرويان ظمأ سنوات من الجفاف الذى لاقاه ذلك الوجه وتلك العيون .. حرموا سنين طوال من لذة البكاء من خشية الله .. ولذة الإنابة والخشوع والتضرع والتسليم .. شعرت بأنها أمة تقف بين يدي مولاها وسيدها .. ترجوه رحمته وتخشى عذابه .. نظرت الى موضع سجودها قبل أن تلمسه بجبهتها وأنفسها ككمال الذل والخضوع لله .. أغمضت عينها وهى تتمتم :
- سبحان ربى الأعلى
لم تكن كلمات عادية لتتم بها صلاتها .. بل استشعرت كل حرف فيها .. سبحانك ربى وأنت فوق عرشك مستوٍ عليه استواء يليق بجلالتك .. سبحان أعلى وأكبر من كل شئ .. سبحانك وأنت ملك الملوك تدير هذا الكون بمعرفتك كيفما شئت .. كل شئ فى هذا الكون أمره بين حرفين .. الكــاف والنــون .. من غيرك يدبر لى أمرى ويصلح لى حالى ويلبى لى طلبى ويكون منتهى رجائى .. من غيرك يغفر لى ذنبى ويزيل وحشة قلبى ويطهر لحمى وعظمى وروحى من ذنوب كستها وتشربتها وعششت فيها الى أن فاض بى الحال وجئت خاشعة ضارعة أعلن استسلامى وخضوعى وفشلى فى أن أنعم بحياتى فى بعدى عنك .. أعلن فشلى فى أن أدبر أمورى دون الرجوع اليك .. أعلن فشلى فى أن أكون سيدة امرى .. حره العقل والفكر .. علمت وأيقت أن ما أنا الا أمة تحتاج لسيدها ومولاها ليرشدها ويأمرها فتطيعه وينهاها فتنأى بنفسها عما نهى .. "أستغفر الله " .. كلمة ترددها الألسن حتى لربما فقدت الشعور بتذوق معناها وبإستشعارها بالقلب والروح .. استغفر الله من كل ذنب امتدت له يداى وذهبت له قدماى وتأملته عيناه وطربت له أذناى وتحدث به لسانى .. استغفر الله من كل ذرة كبر فى نفسى أبعدتنى ومدتى بقوة وهمية اشعرتنى بأننى مالكة أمرى ومديرة حالى .. لجأت اليك فلا ملجأ منك الا اليك .. أترد أمة ضعيفه تطرق بالك وتبتغى رضاك .. أترد أمة تبكى وتنتحب أن تغفر لها وتتنزل رحماتك عليها .. ظنى بك أنك لن تردنى .. ولن تغلق فى وجهى بابك .. أستحق عذابك لكن رجائى فى رحمتك كبير .. أعلم أن لتوبتى شروط .. وستجدها تامه بلا نقصان .. فتوبتى نبعت من اعماق قلبى وروحى .. لا ينقصها سوى أن تصدق عليها بعفوك .. أستغفرك ربي !

العشق الممنوع (للكاتبة منى سلامة)Where stories live. Discover now