ما قبل البداية.

1.3K 47 20
                                    

كان نهاري اليوم حافلًا بالعمل الجاد.. صعبٌ أن أواجه يومًا كهذا بعد عُطلة نهاية الاسبوع التي دائمًا ما تغمرنا بالكسل والخمول، لكنّي أُحِبُّ ما أفعل..

لطالما كانت العلومُ شغفي وشُغلي الشاغل، ورثتُ حُب الأبحاث العلميّة عن والدي الذي كان طبيبًا جرّاحًا، رغبتُ بأن أسير على خطاه لكنّه منعني بإصرارٍ كبير وحدّةٍ لم أجد لها مبررًا آنذاك.. لكنّي فهمتُ لاحقًا، فالشيء الذي أحبّهُ طوال حياته وكرّس له كل مجهوداته غدر به ودفعه للهاوية بين ليلةٍ وضُحاها...

لفح صدري هواءُ المعمل البارِد فور دخولي له قائدةً فريقي الصَغير، كذلك دخلت بقيّة المجموعات من الطلاب خلفنا تُطوّق المعاطف البيضاء أجسادنا التي توارَت خلف منضدات حامِلة لعدّة تركيبات كيميائيّة سائلة تختلفُ ألوانها.. تضمّها أنابيبٌ ضيّقة، كُلُّ مجموعةٍ مُكوّنةٍ من أربعة أفراد تأخُذ مكانها أمام إحدى المنضدات بينما نستمعُ لوابلٍ من المعلومات على لِسان أستاذتنا الجامعيّة «مونيكا».

"درسنا من قَبل عن خصائص تلك الفيروسات المُنتشرة على كوكب الأرض، لكن حان وقتُ التجرُبة العمليّة.. إذا وضعنا مُحتوى الأنبوب (ألِف) أمام كل مجموعةٍ مِنكُم في الأنبوب (باء) الذي يحتوي على الكربون فسيظهرُ لنا مُحتوى الأنبوب (تاء) وهو أحد الفيروسات الأكثر تهديدًا للحيوان في القرن العشرين.."

رأيتُ صديقي يعبثُ في مُكبِّر الجُزيئات بجانب المُعِدّات، فصفعتُ يده تلقائيًا هامِسة بنبراتٍ تحذيريّة:

- ستضيعُ علينا فرصة ربح المشروع إن بقيتَ تُشتّت نفسك عن سماع الشرح أيها الأبله!

نظر لي ساخرًا، ثم أعاد بصره نحو المُكبِّر وكأن كلامي ذهبَ مع الريح، فزفرتُ الهواء بغضب لأنظر أمامي وأتجاهله...

لم أتعجّب لردّة فعله البتّة، فدائمًا ما يكون «ديلان» باردًا جدًا مهما كانت اللحظاتُ مُلتهِبة!

صحيحٌ أن ملامحه تدفعُ مُبصِرها للسَكينة، وعيناه بنيّة تنطقُ باللُطفِ والطيبة، حتى شعرهُ المُرتّب يدعوك لتقبُّل هذا الشخص الماثل أمامك بصدرٍ رحب، إلا أنه بارد كقطعةٍ من القطب الجنوبي لم يُذِبها الإحتباسُ الحراريّ.

أتذكّرُ أننا كُنّا نتشاجرُ يومًا وأخذتُ ألقي عليه اللوم وأعاتبه صارخةً وباكية وظلّ يسمعني لآخر لحظة، إلى أن تفوّه بإعتذارٍ بسيطٍ زائفٍ حطّم مشهدًا دراميًّا لم يكتمِل.

مشروع تلك السنة يعني لي الكَثير، يكاد يعتمدُ عليه مستقبلي بأكمله في علم الأحياء الدقيقة! مشروعُ مجموعتنا هذه المرّة عن الفيروسات المُهجّنة، قلّما أنجذبُ إلى مشروعٍ لهذا الحد... تلك المرة تحديدًا كان شغفي يزداد مع كل معلومةٍ نُزوّدُ بها، بدا الموضوع جديدًا ومثيرًا للإهتمام.

كان الهدوء يكتنفُ هذا المعمل كما العادة.. لا صوت يُسمَع سوى صوتُ أستاذتنا، إنّما تخلّلهُ همسٌ خافتٌ في اذني:

من العلم ما قتل.Where stories live. Discover now