سجين مدى الحياة

7.7K 206 20
                                    

حدقت "دورا" في الرجل، أحد حجّاب المحكمة، ورأسها ما زال يسبح.
- ذهب؟
سألت بغباء، وهي تحاول الجلوس فتجد أطرافها كالماء ممّا جعلها تستسلم، وتعود إلى الاستلقاء على الأريكة. بدت هذه القطعة من الأثاث غير عادية في مكتب حاجب المحكمة. لكن، ربما لأنهم يواجهون كثيراً من هذه الحالات. وعندما عادت إلى السقوط، قال لها:
- إبقي مستلقية يا آنسة. ستشعرين بتحسن بعد لحظة.
بدت نبرته ناتجة عن خبرة. لكنّها شكت في ذلك.
كيف يمكنها أن تشعر بتحسن قبل أن ترى "جون" وتجعله يصغي إليها؟ كانت واثقة من أن الفرصة ستسنح لها هذا النهار لتواجهه، وتجعله يستمع إليها. ولكن، بدلاً من ذلك، انتهى كل شيء بشكل رهيب. فقد أغمي عليها. أغمي عليها! من ذا الذي سمع بشيء محزن بهذا الشكل. . .؟
أغمضت عينيها إزاء أشعة الشمس الحارة التي كانت تتسلَّل من النوافذ، وحاولت أن تركز أفكارها على الصداع الذي كانت تشعر به. لقد ذهب"جون". هذا ما قاله الرجل. إلى أين؟ هل وضعوا القيود في يديه، ثم أخذوه في إحدى السيارات التي تراها في نشرات الأخبار على شاشة التلفزيون، وذلك ليقضي مدة سجنه؟ كررت تقول:
- ذهب؟ هل قلت إنه. . .
.
- هذا صحيح، يا آنسة. والآن إبقي فقط حيث أنت إلى أن يعود صديقك بسيارته.
- أبهذه السرعة. . .؟
- إنهم لا يتسكعون بعد أن يسمعوا الحكم في القضية. والآن، هل ستحاولين الجلوس مرة أخرى؟ ببطء. . .حذار.
وفجأة، بدا كأن ليس ثمة داعٍ للعجلة. . .لكن "دورا" سمحت له بأن يساعدها على الجلوس.
- اشربي قليلاً من هذا فقط، ثم اجلسي هادئة. وسرعان ما تصبحين على ما يرام.
شربت "دورا" شيئاً من الماء المقدم لها ثم تذكرت ما عليها قوله:
- شكراً آسفة لإزعاجك.
التفتت عندما فُتح الباب ودخل "ريتشارد":
- لقد ذهب، يا "ريتشارد". . .
- أعلم هذا. لقد حاولت التحدث إليه لكن الوقت كان قد فات. هل بإمكانك الحركة؟ السيارة في الخارج. . .
- طبعاً يمكنني الحركة.
وقفت، فأمسكها بذراعها وهو يراها تترنح ويدها على رأسها. قال الحاجب محذراً:
- إنها بحاجة إلى التمهل، إلى أن تتحسن تماماً.
- عليّ أن أتحدث إليه. إنَّ ذلك ضروري للغاية. . .إنه يظنني أبلغت الشرطة عنه، وهذا غير صحيح. . . عليك أن تراه. . وتخبره.
- يمكنك أن تخبريه ذلك بنفسك، يا "دورا".
.
- لكنني لا أستطيع. . .ألا ترى؟ إنه سيرفض التحدث إليّ.
حدّق "ريتشارد" بها.
- لكنني كنت أظن. . آه، يا إلهي، إنك تحركت بسرعة. . .
رأى وجهها يعود إلى الشحوب، فحملها ثم خرج بها واضعاً إياها في المقعد الخلفي من سيارته حيث جلست مترنحة، وشدّ حولها حزام المقعد.
- هل ستكونان على ما يرام يا سيدي؟
إنني ذاهب لأحضر زوجتي، أختها. وهي سترعى "دورا". شكراً لمعونتك لنا هنا.
مضت بهما الرحلة تعيسة. لم تكد "دورا" تشعر بدخول "بوبي" إلى السيارة وجلوسها على المقعد الخلفي معها واضعة ذراعها حولها. لكنها لم تتقبل التعزية. كانت تظن أنه ما إن يراها "جون" حتى يصبح كل شيء على ما يرام.
كم كانت حمقاء! لقد حدق بها كأنها غير موجودة. وستمضي ستة أشهر قبل أن تتمكن من رؤيته، لأنه لن يسمح لها بزيارته في سجنه. وهي ليست بحاجة إلى سؤاله، فقد كان ذلك ظاهراً في وجهه.
لكنه حتماً يريد أن يعرف أخبار "صوفي"، وكيف حالها، وماذا تفعل. . ويرى صوراً لها. . .لكن رجاءها تلاشى بالسرعة نفسها التي انتعش فيها. إن "فيرغس" هو الذي سيهتم بهذا الأمر. وهذا هو سبب تسليم مسؤولية "صوفي" إليه. ليس بسبب نفوذه،أو لأن أحداً لن يجرؤ على تحدي سلطته. لقد طلب "جون غانون" من "فيرغس" أن يساعده لأنه لم يعد يحتمل التعامل مع امرأة غدرت به. وقد وافق "فيرغس" على ذلك،بأمل إبقائهما متباعدين. لم يكن ثمة فائدة من طلب العون من أخيها لأنه لم يكن راضياً عن "جون". إنه لم يقل هذا. لكن، كان واضحاً تماماً أنه لا يعتقد بأن "جون غانون" هو أهل لأخته الصغيرة الغالية.
نعم، لقد فعل كل شيء لأجل "صوفي"، وأنجز لها جميع الأوراق الرسمية منذ أثبت اختبار الدم أبوّة جون لها. لكنه لم يتوقف قط عن تذكيرها بأن "غانون" كان على وشك توريطها معه في قضيته، وكان يمكن بسهولة أن تقف معه في قفص الاتهام. كأنها كانت ستكترث بهذا الأمر.
إن مشكلة "فيرغس" هي أنه لم يعرف الغرام في حياته. لذلك، لم تكن تتوقع منه التفهم.
قالت "بوبي" عند وصولهم إلى البيت:
.
- لماذا لا تصعدين إلى غرفتك وترتاحين قليلاً؟ أنتِ ما زلت ترتجفين.
- لا. عليّ أن أرى "صوفي"، أين "صوفي"؟ (كانت الطفلة صلتها الوحيدة ب"جون". وتملكها خوف مفاجئ من أن يبعدها "فيرغس" إلى مكان ما). يجب أن أرى "صوفي".
- إهدأي حبيبتي. ستجدينها في المطبخ مع مديرة المنزل، كما أظن. هيا بنا، سأذهب وأحضرها.
لكن"دورا" كانت سبقتها بأمتار.
كانت "صوفي" جالسة على كرسي عند المنضدة ملتفة بمئزر كبير وعيناها مسمّرتان على صينية كعك. وحالما رأت "دورا" انزلقت عن الكرسي وهرعت إليها، تحيط ركبتيها بذراعيها. انحنت "دورا" تحتضنها. احتضنتها بشدة أكثر مما ينبغي.عليها أن لا تتعلق بالطفلة، لأنها ستكون لها حياة أخرى.. في مكان ما مع"جون". أرخت يديها من حولها وأخذت تنظر إليها. لقد تغيرت قليلاً بعد أيام قليلة فقط من تغذيتها بطعام السيدة "هاريس". قالت لها وقد اختنقت بالدموع وهي تساعدها للعودة إلى كرسيها:
- ستحتفظين لي بواحدة من هذه الكعكات. أليس كذلك يا حبيبتي؟
أمسكت "بوبي" بذراعها:
- تعالي الآن يا "دورا" واستلقي قليلاً. أنا والسيدة "هاريس" سنهتم ب"صوفي"، وربما تسبحين قليلاً بعد ذلك.
لم تكن تريد أن تخسر دقيقة واحدة تمضيها مع "صوفي". لكن الصداع كاد يقتلها.
- قد تكونين على حق. سأستلقي لمدة نصف ساعة فقط. . .
- إبقي حتى ترتاحي. ستكون معنا بأحسن حال، اذهبي وسنراك عند الغداء.
التفكير في الطعام جعل "دورا" تشعر بالإغماء. طوال الأسبوع، كان التفكير بالطعام يشعرها بذلك. قد يكون هذا سبب إغمائها، في النهاية، وهذا لن يفيد. ستكون بحاجة إلى كل قوّتها إذا شاءت أن تجتاز كل هذه المعاناة.
- أنا بحاجة إلى ساعة فقط.
- خذي كل ما تحتاجينه من وقت.
.
***
وصل "فيرغس" إلى البيت بعد الساعة الرابعة تماماً. سأل وهو يتوجه إلى بركة السباحة:
- أين "دورا"؟
استدارت "بوبي" عند سماع صوت أخيها، وكانت واقفة بجانب البحيرة في ثوب سباحة أبيض، بانتظار أن يغيّر "ريتشارد" ثيابه ويلتحق بها.
- إنها مستلقية في فراشها، وهي مرهقة الأعصاب.
فقال بحدة: "لماذا؟ ما بها؟".
لكنَّها تذكرت أنَّه لا يجب أن يعرف شيئاً عن رحلة أختها إلى لندن، لكنها قالت:
- لا شيء. لا بدّ أنها حرارة الجو فقط.
- "غانون" في السيارة. جاء ليأخذ ابنته.
ونظر حوله: "أين "صوفي"؟".
- في المطبخ مع السيدة "هاريس". لقد بدأت بتناول الشاي لتوها. من الأفضل أن تدعو السيد"غانون" لتناول كأس شراب أثناء انتظاره.
- هل أنت واثقة من أن "دورا" ترتاح؟
- كانت مستغرقة في النوم حين صعدت لأراها منذ عشر دقائق. لماذا يا "فيرغس"؟ هل تحاول أن تبقيهما منفصلين؟
فقال عابساً:
- أنا أكثر حكمة من أن أحاول منع "دورا" من فعل شيء تريده، يا "بوبي". "غانون" هو الذي لا يريد أن يراها. إنه يريد فقط أن يأخذ ابنته ويرحل.
- هذه دناءة بالغة منه بالنسبة إلى ما فعلت "دورا" لأجله.
- ربما هذا صحيح. ولا أنكر أنني سأفتقد "صوفي" هنا. لكنه عنيد.
آه، يا "فيرغس".
- لا تقولي(آه، يا"فيرغس"). إنه قراره هو.
- لكن، ألم تفعل شيئاً يجعله يغير رأيه؟
.
- أنا رأيته، لكنك لم تريه أنت. لقد صمم الرجل على ما يريد. لكن، ما دامت "دورا" ليست موجودة الآن، سأطلب منه الدخول وانتظار "صوفي". يمكنك أن تقدمي إليه شراباً إذا شئت. هذا سيمنحك فرصة تخبريه فيها برأيك، ريثما أذهب أنا إلى المطبخ لأرى "صوفي".
استدار بسرعة واتجه نحو باب المنزل الأمامي.
سمعت صوت "ريتشارد" يقول:
- هل سمعت صوت أخيك؟
وكان متّجهاً من غرفة تغير الملابس نحو بركة السباحة.
- إنه هو.
- هذا مؤسف. ظننت أننا سنحجز البركة لنا، أنا وأنت، لبعض الوقت.
- لا أحد هنا الآن.
ابتسمت له بإغراء، ثم أطلقت صرخة سرور وهو يمسك بها ويرفعها عن الأرض، فأخذت تعانقه.
توقَّف "جون غانون" فجأة، وهو يستدير حول زاوية المنزل. كان "فيرغس كاماناغ" قد أخبره بأنّ "دورا" نائمة، وإلا لما كان خرج من السيارة. ليس معنى هذا أن "فيرغس" كان بحاجة إلى اقتناع أكبر بأن من الحكمة أن لا يتقابلا. كان واضحاً أنه لا يحب يشجع رجلاً كان على وشك أن يورط شقيقته في مشكلة خطيرة مع القانون، وفي مشكلة خطيرة بالنسبة إلى زواجها. . سواء كان يعلم أم أنه مجرد تكهن. . .لكنَّ "غانون"، لا يستطيع لومه لرغبته بأن يدخل إلى المنزل ويخرج منه بأقصى سرعة. إنها جراحة مؤلمة، لكنها ضرورية.
وكانت مؤلمة حقاً، أشبه باستئصال قلبه، أن يستلقي على سريره في المستشفى، سامعاً توسلها إلى الممرضة. أن يمسك برسالتها بيده دون أن يفتحها. أن يخبر محاميه أن لا يعطيها عنوانه مهما كانت الظروف. لكن هذا كان عملاً صائباً، وكان يعرف ذلك.
ومع ذلك، في أعماق روحه، كان الأمل ما زال يمتلكه. حتى اليوم، عندما التفت ورآها مع "ريتشارد". لقد صرخت حينذاك، لكنه كان يعلم أنه لا يستطيع مواجهة "ريتشارد"، لأن كل مشاعره كانت ستظهر بوضوح على وجهه. لن يتمكّن من إخفاء ألمه، أو شعوره بالذنب .
.
والآن، ها هو ذا يرى أسوأ كوابيسه أمامه. فهي هنا، مطوّقة بذراعي أقدم أصدقائه، وهو زوجها. الرجل الذي يحبها. يمكنه أن يتفهم ذلك، لأنه هو نفسه يحبّها. إنه يحبها حتى الجنون. إنه يعرف ذلك الآن تماماً مهما كانت شكوكه من قبل. كما يعرف أنه كان عليه أن يمتثل لوحي غريزته ويبقى في السيارة.
انحبست أنفاسه وارتفعت يداه تحلان ربطة عنقه بعد أن كادت تخنقه الغيرة، مستديراً ليهرب قبل أن يرياه.
- جون.
لقد فات الأوان. وقف، ثم استدار ببطء بينما كان "ريتشارد" يتوجه نحوه ماداً يده وعلى شفتيه ابتسامة عريضة:
- تباً لك. ما أحسن أن أراك. كما أن "دورا" كانت شديدة الانفعال والقلق لأجلك.
والتفت ماداً يده إلى المرأة التي خلفه:
- ها هو ذا "جون" هنا أخيراً، يا حبيبتي.
أرغم "جون" نفسه على الوقوف ليصافح "ريتشارد" كيلا يدع شيئاً من مشاعره تبدو وهو يستدير إليها قائلاً وهو يبتسم:
- "ريتشارد". . .
ثم سكت حائراً. لم تكن المرأة التي وراء "ريتشارد" هي "دورا". . . المرأة التي كان يعانقها "ريتشارد" لم تكن "دورا".
ثم قال "ريتشارد":
- أخبرتك بأنني أسعد رجل في العالم. ويمكنك أن ترى الآن السبب. .
والتفت نحو زوجته:
- "بوبي"، حبيبتي. هذا "جون غانون". هل تذكرين؟ كنت أريده أن يكون وصيفي في العرس لكنه كان مسافراً إلى بلاد أجنبية. أين كنت في عيد الميلاد، يا "جون"؟
- في رواندا، كما أظن.
كانت، ظاهرياً، تشبه "دورا". لهما الشعر الأشقر الطويل نفسه، والقوام الرشيق نفسه، لكنها كانت أطول وأكبر سناً، ومتألقة بشكل يناسب عالم الأزياء والجمال.
- بوبي؟
كرر الاسم كالمسحور. فقالت:
- أخت "دورا" الكبرى.
لكنه لم يستوعب الأمر. وأخطأت هي في تفسير ذلك فقالت:
- "باندورا" و"بوباي"، إنهما اسمان أسطوريان. وكانت أمنا تعشق الأساطير.
ابتلع ريقه، محاولاً أن يستوعب هذا.
- و. . كيف نجا "فيرغس" من اسم أسطوري؟
ضحكت:
- تقول حكايات الأسرة إنّ أمنا أرادت أن تسميه "بيرسو"، وهو اسم إله إغريقي كما تعلم، لكن والدنا أصرّ على رفض ذلك.
.
كان لا يزال ينقل نظراته بينهما.
- وأنت متزوجة من "ريتشارد"؟
فقالت ضاحكة:
- إن كان أخبرك بخلاف ذلك، فهو كاذب. وعليه أن يدفع غرامة.
وأخذت تدفع بزوجها إلى الخلف نحو بركة السباحة. فقال بسرعة جعلتها تتوقف عند حافة المياه:
- أين "دورا"؟ يجب أن أراها.
- لكنني ظننت. . . إن "دورا" في الطابق العلويّ، يا "جون". مستلقية على سريرها، لقد أغمي عليها في المحكمة. كان الأمر يفوق قدرتها على الاحتمال. . الحرارة وغير ذلك. لكنك تعرف ذلك، فقد كنت هناك .
- أين يمكنني العثور عليها؟ يجب أن أراها الآن.
كان يتكلم بإصرار، فابتسمت "بوبي":
- في الطابق العلويّ، الباب الثالث إلى اليمين.
أنهت كلامها ثم غاب الاثنان تحت الماء.
* * *
صعد "غانون" السلم الواسع المصنوع من خشب السنديان، ببطء. "دورا" ليست متزوجة من "ريتشارد"! بقي يردد هذه الجملة في ذهنه مرة بعد مرة. وما زال عاجزاً عن تصديق ذلك تماماً وفهم كيف حدث هذا الالتباس. افترض الشرطي أنها "بوبي" وناداها بالسيدة "ماريوت". وقد قبل هو ذلك دون سؤال. لكن، لماذا تركته يظن ذلك؟
الباب الثالث إلى اليمين. طرق الباب بخفة لكنه لم يسمع جواباً. وفي السكوت سمع انفجار ضحكة طفلة من المطبخ. "صوفي". لقد وجد "صوفي". لقد أحضرها إلى الوطن سالمة واجتاز بها كل المخاطر. ولن يمنعه الآن شيء تافه كالباب. أدار المقبض وفتحه. . وبعد ذلك لم يعد شيء مهماً. فقط أنه يحبها.
كانت نائمة وشعرها منتثر على الوسادة الذهبية الأطراف ومغطاة بملاءة. "الأميرة النائمة"! تشوّق إلى إيقاظها بقبلة. لكن هذه ليست قصة من القصص الخرافية، وهو ليس أميراً.
بدلاً من ذلك، ركع بجانب السرير مسنداً ذقنه على يديه. كان كل جزء منه يتلهف إلى أن تستيقظ لكي يأخذها بين ذراعيه. ومع ذلك كره أن يخسر لحظة الأمل الرائعة هذه. ما كان له أبداً أن يفقد "الأمل".
ثم لاحظ شيئاً غير عادي. كانت وجنتها مبللة. مدّ يده يلمس وجنتها بطرف إصبعه، ناقلاً طعم دموعها المالح إلى شفتيه. كانت تبكي في نومها.
.
قال يناديها برقة:
- "دورا". ."دورا"، يا فتاتي الحبيبة.
تحركت "دورا"، وفتحت عينيها. ظنت أنها سمعت"جون" يهتف باسمها. ومضت لحظة لم تستطع أن تقرر فيها ما إذا كانت نائمة أم مستيقظة. ثم، عندما استقرت عيناها على وجهه، أدركت أنها لا بد تحلم، لأن "جون" في السجن. ومن غير الممكن رؤيته. . .ومع ذلك هل يمكن للحلم أن يبدو واقعياً بهذا الشكل؟
لم تجرؤ على مدِّ يدها للمسه، خوفها من أن تتلاشى صورته الحبيبة. بدلاً من ذلك، همست: "جون"؟
- نعم، يا حبيبتي.
لقد ناداها بحبيبته. شعرت بأنفاسه على وجنتها وهو يقول هذه الكلمة ومع ذلك لم تجرؤ على التصديق. مدت يدها تلمس يده التي كانت على الملاءة بجانب يدها. . ثم عادت ترفعها بسرعة مليئة بالرعب من أن يكون ذلك مجرد تجسيد لشوقها البائس. خافت إن هي حاولت إمساكه أن تستيقظ ولا يبقى لها سوى الفراغ. سألها:
- لماذا تظاهرت بغير حقيقتك، يا "دورا"؟
إنه يتكلم مرة أخرى. هل يمكنها أن تجيب؟
- لأنني كنت خائفة.
- مني؟
- لا.
.
ومدت يدها تمسك بيده متلهفة إلى إقناعه:
- من نفسي. من مشاعري. . .أنا لست أحلم، أليس كذلك؟
هزّ رأسه وهو يأخذ يدها يضغطها على وجنته، مقبلاً أصابعها.
- لكنني لا أفهم. سمعت القاضي يحكم عليك. . .(جلست فجأة بعد ما استيقظت الآن تماماً): آه، يا إلهي. لقد هربت. .
وضع إصبعه على شفتيها يسكتها:
- لا! لا يا حبيبتي.
ثم نهض يجلس على حافة السرير ملامساً وجهها، وشعرها، قبل أن يجذبها إلى صدره يحتضنها: "لن أهرب أبداً. . .ألا تعرفين ذلك؟ فالأشهر الستة التي حكم القاضي بها عليّ هي مع وقف التنفيذ، لكنني ما زلت سجيناً. سجينك أنت، طوال الحياة".
وأخرج من جيب قميصه ورقة قدمها إليها. كانت تلك الورقة التي كتبتها له في المستشفى:
- هل كنت تعنين ما تقولين حقاً؟
رفعت رأسها ونظرت في عينيه:
- أنت تعلم أنني أعنيها. لماذا رفضت رؤيتي، يا "جون"؟ ولماذا أعدت إليّ رسالتي دون أن تفتحها؟
- أنت تعرفين السبب. كنت أظنك متزوجة ب"ريتشارد"، يا "دورا".
- لكن، لا بد أن "فيرغس"، أو غيره، قد أخبرك بالحقيقة.
وأطلقت شهقة قصيرة: "لكن، لم يفعلون ذلك؟ لا أحد غيرنا يعلم هذا. آه، يا "جون". يا ليتني كنت من الشجاعة بحيث أثق بك كلياً".
.
جاء دوره في الشعور بالحيرة:
إن لديك من الشجاعة ما يكفي عشرة أشخاص. لكنني لا أفهم. إذا كنتِ لا تظنين أن "ريتشارد" هو الذي كان يبقينا متباعدين، فلماذا، في رأيك، فضلت الابتعاد عنك؟
احمر وجهها: "كنت معتوهة. . ." .
لقد بدت شكوكها الآن تافهة وسخيفة للغاية.
- هيا، تكلمي. من غير الممكن أنني سيء إلى هذا الحد.
- لكن الأمر. ظننت. . .
لم يكن من السهل حقاً أن تعترف:
- ظننت أنك لا تريد رؤيتي بسبب الشرطة.
- الشرطة؟ وما دخل الشرطة في هذا الأمر؟
- كنت نائماً. وكان بإمكاني الاتصال بهم. فظننت أنت أنني ربما قمت بذلك. كان هذا السبب في منعك لي من الخروج إلى البقال.
- آه، نعم. فهمت .
- كنت على حقّ، في الواقع. ولو إنني لم أكن سأتصل بالشرطة، بل ب"فيرغس" فقط. ظننت أن بإمكانه أن يساعدك.
- لكنك لم تفعلي ذلك، حتى عندما كنت نائماً .
- هل أنت واثق من ذلك؟
- لقد أوضح رجال الشرطة كيف عثروا عليّ، بالنسبة إلى الملابس.
- أنا آسفة جداً.
لا تكرّري هذا القول. ليس هناك ما يجعلك آسفة. أنا من عليه أن يقدم كل الاعتذارات، وكل الأجوبة.
ركعت "دورا" على السرير ووضعت ذراعيها حول عنقه.
- لا يا "جون". ليس لديّ شكوك ولا أسئلة. إنك هنا الآن. وما خلا ذلك، لا أهمية له.
- حتى والدة "صوفي"؟ إنك لم تسأليني عنها.
- ستخبرني إذا شئت أنت ذلك. لكن هذا ليس واجباً عليك....
- لكِ الحق في أن تعلمي.
.
رفع ذراعيها من حول رقبته وأمسك يديها لحظة. ثم تركهما ووقف، وسار إلى النافذة ينظر إلى المناظر الريفية في آخر أيام الصيف. لم تحتج على ذلك. إن لديه شيئاً يريد أن يخرجه من صدره، وكم يسعدها أن تسمعه إن كان هذا سيجعله يشعر بتحسن. إنها تعلم الآن أن الشرف هو أمر طبيعي جداً لديه، ممّا يمنعه من إلحاق الأذى بأحدٍ عمداً. حتى وإن كان في ذلك ألم له.
نزلت من السرير ووضعت عليها معطفاً منزلياً وتكورت على الأريكة بجانب النافذة وذراعاها حول ركبتيها، منتظرة بصبر. قال أخيراً:
- كنا في قبو. . أنا و"إيلينا" فقط. كان ذلك مصادفة، فنحن لم نتعارف من قبل، لكننا ركضنا، نحن الإثنين، إلى الملجأ نفسه حين بدأ قناص بإطلاق النار. لم يكن من المفترض أن أكون هناك، لكن سيارتي تعطلت وكنت أبحث عمن يصلحها. .لم يكن من عادة أيّ قناص أن يبقى في المكان مدة طويلة، إذ من السهل تحديد مكانه. ظننت أننا سنبقى هناك ساعة أو اثنتين على الأكثر. لكن، عندما هبط الليل، راحت المدفعية تقصف، فوقعنا في الشرك. كان الجوّ بارداً للغاية، ولم يكن هناك ما نشعله للتدفئة. لكننا اشتركنا بما كان عندنا من طعام قليل، كان لدي بعض قطع الشوكولا، والماء. وكان لديها بعض الخبز. فقد كانت تشتريه حينها من الفرن. . .
- تعال اجلس، يا "جون".
ربتت على الأريكة بجانبها. فالتفت إليها. وابتسمت له .
- لا.
جلس بجانبها يغطي فمها بيده: " لا تبتسمي لي . ليس قبل أن تسمعي كل شيء".
ولم يرفع يده إلا بعد أن اطمأن إلى أنها أطاعته. قالت تشجعه:
- أخبرني إذاً عن "إيلينا". ماذا حدث؟
سألته فقط لأنه كان بحاجة إلى أن يخبرها، وليس لأنها كانت تريد أن تعلم. كان كل شيء واضحاً تماماً. شخصان محتجزان بمفردهما في قبو ببرودة الثلج، خائفان من أن تسقط فوقهما قنبلة في أي لحظة فيموتان. لذلك، جمعهما المودّة والخوف المشترك، وحاول كل منهما أن يخفِّف عن الآخر. ولا بدّ أنهما شعرا بارتباط مصيرهما برباطٍ وثيق. لكنَّ الحرب فرّقتهما قبل أن تلد "صوفي".
روى لها قصَّته، فكانت كما توقعت تماماً
أرادت "دورا" أن تعلم ما إذا كانت "إيلينا" شابة، جميلة. لكنها قاومت وخزة صغيرة من الغيرة. كانت تعلم أن هذا ليس هاماً. فما حدث لم يكن بدافع الحب. . بل كان بدافع الحاجة. .
- ثم انتهى القصف وكنا لا نزال حيين. وكان عليّ أن أكتب "تقريراً"، كما كان عليها هي أن تعثر على أسرتها، في مكان ما، وترى ما إذا كانوا أحياء. كان كل منا على عجلة للذهاب إلى مكان مختلف، لذلك افترقنا ليذهب كلٌ منا في اتجاه. كان ذلك من الأمور التي تحدث في الحرب. لكنني كتبت لها عنواني على قطعة من الورق وأعطيته لها. كان لدي شعور حينذاك بأنها قد تحتاجه.
- هل أحببتها، يا "جون"؟
.
- كنت أحبّ الاعتناء بها. أنا أحبّك أنتِ وسأتزوجك أنت.
- حقاً؟
كان لهذه الكلمات وقع جميل في أذنيها.
- لكن متى؟ ما زال هناك أمور كثيرة عليّ أن أقوم بها، وأناس كثر عليّ أن أساعدهم.
فقال بسرعة:
- لا قوافل إغاثة أخرى، يا "دورا". لا يمكنك العودة.
- لأجل "صوفي".
- لأجل "صوفي"، نعم. كذلك، لأنني أحبك، يا "دورا". لأنني لا أستطيع العيش من دونك.
ومرَّ بيده على خدها.
- لكن هناك أولاداً كثيرين مثل "صوفي". لا أستطيع أن أخذلهم. إنهم بحاجة إليّ .
نظرت إليه تريده أن يفهم أن ليس بإمكانها أن تترك ذلك ببساطة.
- إنهم سيحصلون علينا، نحن الإثنين. لقد طلبوا مني وضع كتاب بهذا الشأن، وربما أفلام تلفزيونية وثائقية.
- هذا رائع ، يا "جون".
- يسرني رضاؤك. لكن هذا سيستغرق وقتاً، ويمكننا معاً أن نكسب الكثير من المال.
- معاً؟
- أنا وأنت و "صوفي".
فقالت: "يمكننا أن نقيم مؤسسة إغاثة لمساعدة نساء أمثال "إيلينا" وأطفالهن. وربما نطلق عليها اسمها".
- أو اسم "صوفي".
أجابت موافقة: " أو"صوفي" ".
.
- والآن، يا "دورا"، هل عليّ أن أركع على ركبتيّ لكي تعطيني الجواب؟
- لا، حبيبي. ونعم، أرغب في الزواج بك.
- أكاد لا أصدِّق ما يجري. أنا لستُ أحلم، أليس كذلك؟
- لا، حبيبي. لستَ تحلم .
نظرت إليه بابتسامة خفيفة:
- لكنَّ ما ستراه بعد الزواج سيكون أقرب إلى الحلم.
- لا أستطيع الانتظار.
ورأت في عينيه الذهبيتين بريقاً من السعادة والأمل. . .والحب.
مالت برأسها إلى الوراء تنظر إليه من خلال أهدابها المسدلة بطريقة لم يطق معها صبراً، فأخذها بين ذراعيه، يضمُّها إلى صدره بقوّة ولهفة. عانقها طويلاً، شاعراً بالحرية، في أن يجعلها تعلم مقدار حبِّه لها. وقال:
- إنني أحبك، وأظنني أحببتك منذ اللحظة التي رأيتك فيها واقفة و"صوفي" بين ذراعيك، ساخطة من الجرأة التي اقتحمتُ فيها البيت.
اتسعت عيناها:
- لم يكن الأمر كذلك. كنت ساخطة لأنك أحضرت طفلة معك أثناء اقتحام البيت. . .لكن، رغم ذلك، أدركت أنك مختلف. وأنك رجل أحلامي. . حبيبي آتياً إليّ في سكون الليل. أنت على حق يا "جون". أكاد لا أصدِّق ما يجري. أهو الحبّ من النظرة الأولى؟ (وتابعت) أحببني وعدني بأنك لن تتوقف أبداً عن حبّي.
وعدها "جون غانون"، ووعدها، ووعدها.
* * *
- "بابا"!
رأت "صوفي" أبيها يعبر الشرفة، فانزلقت مبتعدة عن "ريتشارد"، وأخذت تسبح بنشاط إلى السلم. وكان أبوها قد وصل إليه ورفعها إلى أعلى يضمها إلى صدره غير مكترث بالمياه التي تقطر منها. وقالت له:
- أنا أجيد السباحة.
فقال ضاحكاً:
- هذا ما أراه.
أخذ المنشفة التي ناولته "بوبي" إياها، ثم لفّها بها، مجففاً وجهها.
- من علمك كل هذا؟
- "بوبي" و"غاسّي".
.
- "غاسّي"؟
- أظنها تعنيني أنا.
اقترب "فيرغس" وهو يحمل صينية عليها كؤوس.
- لقد تعلمت هذا الاسم من الفتاتين، كما أظن. وهما تظناني لا أعلم.
- أين "دورا"؟
- ستكون هنا بعد دقيقة.
رأى "جون غانون" التحدي في عيني "فيرغس كاماناغ" فقابله بمثله قبل أن يومئ نحو الشراب.
- هل أنت فقط مسرور لأنني سأبقى على العشاء، أم أن شراب الورد هو للاحتفال بشيء خاص؟
- إن الوقت الطويل الذي أمضيته في الطابق العلويّ، من الأفضل أن يعبِّر عن شيء خاص. ألا تظن هذا؟
فأجابه "جون":
- هل يصلح العرس لأن يكون شيئاً خاصاً؟
توقف "فيرغس" لينظر إليه بهدوء:
- عرس؟ أليس هذا أمراً مفاجئاً نوعاً ما؟ ألا يمكننا أن نبدأ بخطبة؟ خطبة طويلة جداً؟
- بصراحة، يا "فيرغس"، كان هذا أطول أسبوع في حياتي. لكن، عليك أن تسوّي هذه المسألة مع "دورا"، إذ يبدو أنها مستعجلة نوعاً ما.
- "فيرغس"!
استدار الاثنان عندما خرجت "دورا" إلى الشرفة خلفهما. توجهت إلى أخيها ووضعت ذراعيها حوله وقبلته:
- يا لك من أخ حبيب، شكراً لإحضارك "جون" إلى هنا سالماً. كنت واثقاً من أنك لم تكُن راضياً عنه، لكن، كيف يمكنني قط أن أشك في حبك؟
تنحنح "فيرغس"، وقال:
- "صوفي"هنا، وأنت هنا.فإلى أين كان سيذهب؟
.
لكنه، للحظة قصيرة هادئة، ألقى على "جون غانون" نظرة أنذرته بألا يقوم أبداً بأيّ شيء قد يؤذي أخته. ولا بد أن الجواب الذي رآه في وجه الرجل قد طمأنه، لأنه فجأة، ارتسمت على وجهه ابتسامة عريضة وأخذ يسكب شراب الورد في الكؤوس.
- هيا بنا، جميعاً. لقد سمعتم الرجل. هذا احتفال.
فسألته "صوفي":
- ما معنى إي. . إي إحتفال، يا "غاسّي"؟
لم تستطع "بوبي" و"دورا" أن تنظر الواحدة منهما إلى الأخرى. بينما سعل "ريتشارد". لم يحدث قط أن دعا أحد "فيرغس كاماناغ" بلقب "غاسّي" في وجهه.
- احتفال، يا حلوة، احتفال. إننا نحتفل عندما يحدث شيء خاص. ( وأخذ الطفلة من "جون") الكبار ذلك مع شرب شيء اسمه (ش ر ا ب ا ل و ر د) ويمكن للصغار الحلوين أمثالك أن يشربوه معنا أيضاً. . .أو يشربوا الحليب. . .ما رأيك؟
فتمتمت "بوبي":
- هذا إفساد للبهجة.
بينما تابع "فيرغس" منمّقاً:
- حليب بالفريز أو ربما بالموز. مع بسكويت بالشوكولا. هيا بنا نذهب ونسأل السيدة "هاريس" إن كان لديها بعضاً منه لأجلك.
- أتعلمين؟ أظن أن الوقت قد حان لكي يتزوج "غاسّي". (قالت "دورا" ذلك عندما توارى "فيرغس" داخل البيت، وألقت على أختها نظرة طويلة وقد ضاقت عيناها) قبل أن يستقر به الأمر في إحدى دور المسنّين.
- أو أسوأ من ذلك. كأن يبدأ بتربية القطط بدلاً من الأطفال ليتسلّى.
وضعت "بوبي" يديها حول خصرها كأنها تحميه. أجابت "دورا" مفكرة:
- لا أظن أنَّ القطط ستمنعه من الزواج. كما أنِّها تسبب له حساسية. وهكذا، لا بد من الزواج. لا أدري لماذا لم يفكر في ذلك من قبل.
فتمتم "جون":
- من المؤكد أنه قادر على أن يفكر بنفسه بذلك.
.
تأبطت "دورا" ذراعه:
- كان المسكين "فيرغس" مشغولاً برعايتنا طوال حياته، محاولاً جهده إبعاد المشاكل عنا، ممّا جعله غير قادر على البحث عن زوجة مناسبة. إنه ليس من النوع الذي يعثر على واحدة في يوم عاصف. فهو أكثر تنظيماً من أن يتصرف بهذا الشكل. . .ثم أي نوع من الفتيات يبلغ بها الطيش حد اقتحام "مارلكورت"؟
فقال "ريتشارد " متدخلاً:
- ربما عليكما، أنتما الاثنتين، أن تبحثا له عن زوجة. وعلى كل حال، عندما تجدان المرأة المناسبة، لن يستغرق الأمر وقتاً على الإطلاق.
فسأله "جون": "لم لا"؟
ضحك "ريتشارد": " ألم تخبرك "دورا"؟ إن الحبّ من النظرة الأولى هو ميزة آل "كاماناغ". ما إن تعجبهن، حتى لا تجد لك من مهرب. ثم هل تعرف ما خطر لي الآن عدا ذلك؟".
فسألته "بوبي": "حسناً ماذا؟".
- لا شيء مهم، سوى أنّهم يقولون، الثالث هو الثابت. ولا أدري لماذا لا ينطبق هذا القول على الأعراس؟
ورفع كأسه: "نخب من نشرب الآن؟".
قالت "بوبي": "الأعراس عموماً".
قال "جون": "عرسنا بشكل خاص".
فقالت "دورا" باسمة للرجل الذي تحب: " نخب كل عرس. والأسرع هو الأفضل".

.

تمت بحمدالله

أغنية كي يرحل للكاتبة ليز فيلدنغ Where stories live. Discover now