عناق باللوز والسكر

5.3K 127 1
                                    

حدقت "دورا" بالرجل , ثم لوّحت بيدها باستعلاء , مشيرةً إلى الباب المهشم :
- أتعني أن كلَّ ما جرى الآن سببه أنّي لم أشأ, الليلة الماضية ,أن أضيّع وقت الشرطي "مارتن" بإصلاح خطأه عندما ظنَّ أنني شقيقتي؟
- شقيقتك؟
التفت إلى "مارتن". لقد قام الشرطي الشاب بعمله جيداً ,فلم تشأ أن تتسبَّب له بأي مشكلة ,لكن إذا وصل الأمر إلى حد المفاضلة بينه وبين "صوفي" فلن يكون أمامها خيار آخر . . لكن, لا ضرر من الاعتذار, وبشكل مؤثر أقرَّت بفعلتها :
- ربما كان عليّ أن أوضح الالتباس. لكنَّ الوقت
كان متأخراً جداً . . وكنت أنت مشغولاً جداً . .
وتابعت متناسية أنّه عرض عليها الدخول لتفتيش الكوخ : "أنا شقيقة "بوبي" . . "دورا كاڤاناغ" !
ومدّت يدها تصافح الشرطي حسب التقليد , فتردَّد لحظة ,
ثم صافحها :"إنني مسرورة جداً لأنَّ الفرصة سنحت لي لأشكرك على قدومك لتفقُّدي الليلة الماضية . إنه حقاً أمر يبعث على الاطمئنان الشديد أن يشعر المرء بمدى اهتمامك" .
أشارت إلى الباب قائلة : "أظنني شريكة في عصابة تستعمل كوخ شقيقتي كمخبأ . . . " .
أو محتجزة رغم إرادتك بواسطة رجل بائس .لقد رأيت الجريدة .
.
وأومأ إلى الصحيفة المحلية : "لم نستطع الاتصال بك تلفونياً ,ثم علمنا أنَّ الخطَّ مفصول . . ." .
- آه , لا ! لا أظنك اعتقدتَ . . . كم هذا محرج ! كان الأمر كله مجرد عبث . لقد رفعت الغطاء لأتفقَّد الشريط . . .
وهزت كتفيها بارتباك : "الأفضل أن أتصل بشركة الهاتف لإرسال مهنيّ لإصلاحه" .
فقال الرقيب: " هذه فكرة حسنة . هل تسكنين هنا بشكل دائم , يا آنسة "كاڤاناغ"؟ " .
- ليس تماماً . أتيتُ إلى هنا لبضعة أيّام فقط . إنَّ لندن ترهق الأعصاب نوعاً ما , فأعطتني "بوبي" المفاتيح قبل أن تذهب إلى الولايات المتحدة , لآتي إلى هنا إذا شئت الاستجمام .
كانت أختها قد أحضرت لها المفاتيح , قائلة :
- لم لا تمضين في الكوخ أسبوعاً أو اثنين أثناء وجودنا أنا و"ريتشارد" في أميركا ؟ لا أحد سيعرف مكانك هناك , ستجدين وقتاً كافياً للتفكير في ما ستفعلينه في المستقبل بهدوء تام . هل أخبرتك أن "فيرغس" سيأتي إلى لندن ليعيدك إلى " ماركورت" , لكي تبقي تحت نظره ؟ إنه دائم القلق عليك .
- دائم القلق عليّ! إن ما يحتاجه شقيقنا هو زوجه تثير قلقه حقاً .
ونظرت "دورا" إلى رجلي الشرطة وهي تتذكر كلمة أختها(هدوء تام).
- حسناً لن أؤخركما طويلاً , أيها السادة . أظنكما حريصين على القيام بأعمال أكثر أهمية.
لكنهما لم يتحركا : "هل بإمكانك أن تثبتي أنك شقيقة السيدة "ماريوت"؟ " .
حدقت بالرقيب قائلة :"هذا صحيح , إن كان ذلك ضرورياً " .
.
لم يجب , فشهقت قائلة : "لا أعتقد أنك ما زلت تظن أنني أخفي ذلك الرجل ؟".
فقال "بيت": لا . . .لا. . ." .
لكن الرقيب لم يبد بمثل هذه الثقة .
- إنهم لم يتحدثوا عنه كثيرا في الصحيفة .هل هو رجل خطير حقاً؟
تظاهرت بالخوف.ولم يكن ذلك صعباً, لأن خوفها كان شبه حقيقيّ.
- نحن لا نعلم هُويَّته ,يا آنسة"كاڤاناغ" . لكنّه قد يكون لصاً .
أخذ الأكياس البراقة من على الأريكة وألقى نظرة على محتوياتها :
- كنت مشغولة , كما أرى .يبدو أنك اشتريت المتجر بأكمله .من هو الطفل المحظوظ ذاك ؟
فقالت أول شيء خطر في ذهنها :"ابنة أختي" .
- ابنة أختك ؟ لم أكن أعرف أن للسيد والسيدة "ماريوت" أولاداً .
- هذا صحيح إنها ليست ابنة أختي تماماً ,بل ابنة أخت زوجها "لوري" . وهي تعيش في الجانب الآخر من القرية .أمها هي "سارة شيلتون" ,وزوجها يملك عدداً من الشركات . . .
فقال الشرطي "مارتن" بحماسة :
- أنا أعرف من تكونين . أنتِ تلك المرأة التي كتبت عنها جميع الصحف . سيدة المجتمع التي كانت تساعد اللاجئين .
وفجأة , ارتسمت ابتسامة عريضة على وجه الرقيب :
- طبعاً لقد شعرت بأنني رأيتك في مكان ما .
بدا الكدر على وجهها :
.
- لا تقل إنَّك ظننتَ نفسك قد رأيت صورتي من بين صور المطلوبين من العدالة . لا عجب في شكوكك .
ضحك الرقيب , لكن , كما لو أنَّها لم تبعد عن الحقيقة , وقال :
- بكت زوجتي حين رأتك على شاشة التلفزيون . لا أدري إن كنتُ أستطيع أن أحصل لها على توقيعك .
- يسرني ذلك .
نظرت حولها تبحث عن شيء مناسب , وهي متلهفة إلى رحيل الرجلين . عادت بعد لحظات وناولت الرقيب ورقة من دفتر ملاحظات أختها, وقد وقعت عليها اسمها . ثم أدركت أن "مارتن"
يحدق إلى شيء ما , فخارت قواها . ماذا تراه رأى؟ كان القاموس الذي اشترته . ووضعته مع الثياب في الكيس , فانزلق منه عندما ألقى به الشرطي على الأريكة .
قال برهبة :"حتى إنك تتعلمين اللغة ؟" .
تمكَّنت من افتعال الضحك . نعم, تمكَّنت من ذلك حقاً :
- ليس تحديداً . لكنّي ظننت أنّ ذلك قد يفيدني أثناء رحلتي القادمة .
.
* * *
أغلقت "دورا" الباب الخلفي خلف رجلي الشرطة , ثم استندت إليه بضعف. لقد ظنَّت أنهما لن يخرجا أبداً . كان جهاز"مارتن" اللاسلكيّ هو الذي قطع حديثهم في النهاية . فقال وهو يتجه نحو الباب :
- إنهم يطلبون منا العودة إلى المخفر , يا حضرة الرقيب .
- سأخرج حالاً .أنتِ بحاجة لمن يصلح لك الباب يا آنسة "كاڤاناغ".
- لا تقلق .لديّ من أستدعيه لذلك .
- نعم . حسناً ,إذا شاءت أختك أن تقدم شكوى , يمكنها أن تملأ ورقة رسمية لهذا الغرض في المخفر .
- لا أظن ذلك . كنتما تؤديان الواجب لا غير .
- الحقيقة أننا كنا مهتمين بسلامتك . ظننا أنه سرق سيارتك , وأنك قد تكونين مصابة , أو أسوأ من ذلك ربما .
- حسناً , إنني , كما ترى, في أحسن حال .
لكن ,أين"غانون" و"صوفي"؟
- إذا اشتبهت في أي أمر , اتصلي بنا , يا آنسة "كاڤاناغ".
- بكل تأكيد .لا بد أن رجلكم المطلوب قد ابتعد أميالاً الآن .
- هذا ممكن. لكنَّ المجازفة ليست من الحكمة في شيء .
- لن أجازف .إذا رأيت شيئاً سأتصل برقم 999 دون تأخير .
.
- إذا حدثت حالة طارئة , لا تترددي .وهذا هو رقم مخفر الشرطة المحلية .
أخرج بطاقة كتب عليها اسمه ورقم المخفر, وقال :"ثم استدعي شركة الهاتف وأصلحي جهازك , أو أستدعيهم أنا إذا شئت .
وأشار إلى الهاتف الخلويّ الموضوع على الأريكة :"هذه الأشياء تخذلك عند الحاجة الماسة اسأليني أنا عن ذلك . .".
أخذت منه الهاتف وفتحته , قائلة:
- هذا جيّد . سأقوم بذلك على الفور.
- حسناً, إن ساورتك أيّ شكوك , اتصلي بي في المخفر فآتي حالاً.
ثم ناولها البطاقة .
- هذا لطف منك .
ودعتهما حتى السيارة, وكانت قطرات ثقيلة من المطر قد بدأت تتساقط. لكنَّها وقفت تنظر إلى "مارتن" وهو يعود بسيارته إلى الخلف ثم يستدير حول سيارتها "الميني" بعناية ملحوظة .وظلَّت تراقبهما إلى أن ابتعدت السيارة ودخلت الطريق العام مسرعة باتجاه القرية .عند ذلك فقط عادت إلى الكوخ ,تشعر بساقيها تهتزان , وهي تغلق الباب خلفها. ثم استجمعت قواها أخيراً, وصاحت:
- "غانون" لقد ذهبوا. (تردد صدى صوتها في المنزل الخالي. فصعدت السلالم "غانون" (وفتحت الأبواب لا أدري أين تختبئ, لكن بإمكانك أن تظهر الآن.
ساد الصمتُ . . ولا شيء آخر.
.
دخلت الغرف التي فتّشها رجلا الشرطة. لكنها كانت واثقة, بشكل ما, من أنه سيبرز من تحت السرير :"غانون"! .
دخلت الحمام الذي استعملته سابقاً , ورأت الموسى على الرف. لم يكن هذا عملاً حذراً, لكنها لم تكن تتوقع أن تفتش الشرطة البيت.
نظرت إلى الهاتف الخلويّ الذي لا تزال تحمله بيدها. لقد أخذته من يد رجل الشرطة دون تفكير. وكان هو قد التقطه من على الأريكة وناولها إياه, وأدركت فجأة ما يعني هذا.
لم يجب"غانون" لأنه ليس في الكوخ. لقد عثر على الهاتف, فظنّ أنها غدرت به. لا عجب أن الشرطة لم تقبض عليه.صرخت قانطة:
- آه . ."جون"! .
وعندما ازداد هطول المطر بغزارة على النوافذ, أسرعت تهبط السلالم. عليها أن تجده, أن تجد"صوفي" الصغيرة. إنَّ"غانون" قادر, دون شك, على العناية بنفسه, لكن يجب أن لا تكون "صوفي"خارج البيت في مثل هذا الطقس الممطر وهي مصابة بالسعال. ستصابُ بالتهاب رئويّ. وقد تموت أيضاً, وسيكون هذا ذنبها هي. واختطفت معطف"بوبي" المعلق خلف الباب وخرجت تحت المطر. في أي طريق تراهما ذهبا؟
إن كان قد علم مسبقاً بقدوم الشرطة, فإنَّه سيتوارى بعيداً عن الطريق, وعن الكوخ. دارت حول المخزن وأخذت تنظر حولها. كانت الأجمة أول مخبأ ممكن بعد الحقل, ومن ثم ممر قديم يؤدي إلى القرية.
من المحتمل أن يسلك هذا الطريق إذا أراد بلوغ شبكة المواصلات.
وبالنسبة إلى رجل بإمكانه القيام بسرقة طائرة, فإنَّ الاستيلاء على سيارة ليس بالأمر الصعب. لكن لديه الآن ما يكفي من المتاعب. لا يعني هذا أنها تهتم بما قد يحدث له, بل كان اهتمامها منصباً على"صوفي" .
.
عادت إلى الكوخ, وأخذت حقيبتها وأكياس الملابس التي اشترتها ل"صوفي", ثم ألقت بها على مقعد سيارتها الخلفي وخرجت بها إلى الطريق.
* * *
كان"غانون" رافعاً ياقة سترته للاحتماء من العاصفة المفاجئة, وقد خبَّأ"صوفي" تحتها وهو يسير ببطء, بعد أن تعب من الركض في الحقل .
لم يصدق مدى حماقته. كان عليه أن يستولي على سيارته ونقودها في الليلة الماضية ويولّي هارباً .وقف للحظاتٍ يتّكئ إلى جذع شجرة كي يستعيد أنفاسه بعد أن أثقله حمل"صوفي" . من تراه يخدع؟ لم يكن في الليلة الماضية, قادراً السير ميلاً واحداً دون أن ينام خلف المقود. لذلك, لم يكن أمامه خيار آخر سوى البقاء في الكوخ. قالت الطفلة باكية:
- "دورا" . أريد "دورا".
أخذ يلامس رأسها بعطف. منذ فترة كان هو نفسه يريدها, لكن الرجل الحكيم يتعلق بحلم واحد مستحيل في كل مرة.
* * *
سارت "دورا" بسيارتها على الطريق ببطء, تحدق بصعوبة عبر زجاج السيارة الذي راحت مياه المطر تنهمر عليه بقوّة. حاولت أن تتذكر اتّجاه ذلك الممر المؤدي إلى الطريق العام فرأت إشارة صغيرة خضراء وبيضاء تشير نحو أجمة نباتاتها مفرطة في النمو.اتّجهت نحوها وأوقفت السيارة .
.
من المحتمل أنَّها لم تره. فهي لا تعلم منذ متى ترك الكوخ, لكن الممرّ يلتف متعرجاً في الغابة. كانت قد سارت فيه في يوم من أيّام فصل الشتاء الماضي, عندما جاءت لتناول الغداء مع"بوبي". وإذا كان"غانون" لا يعرفه جيداً, فمن الجنون أن يسير فيه. كانت تعلم أنَّه إذا رأى سيارتها, سيظن أنَّها تنصب له فخّاً, وسيدخل فيه متوارياً عن الأنظار فيضل طريقه.
أبعدت سيَارتها وأوقفتها تحت شجرة عتيقة .لكن هذا الحلّ أيضاً لن ينفع. لأنه إن كان يظنها قد خدعته, فلن يقترب منها .
خرجت من السيارة, وأقفلتها, ثم جذبت المعطف فوق أذنيها وعادت راكضة نحو الممر الضيق. لم يكن له أيّ أثر. حسناً, لا أحد يسير في مثل هذه الطريق الضيِّقة الموحلة سوى رجل أحمق وهارب. لكن, إذا لم يأت هو إليها, عليها هي أن تذهب إليه.
كانت قد توغَّلت داخل الغابة مئة ياردة أو نحوها حين أخذت تناديه برقة : "غانون" . أنا "دورا".
بدا الصمت المسيطر في الغابة غير عادي. سارت في طريق صغير, ونادت :
- غانون . لقد ذهبت الشرطة. أنا لم أستدعهم. لم أستدع أيّ إنسان.
أريد أن أساعدك .
شعرت بالتوتر يتملكها. كانت واثقة من أن هناك من يراقبها. ظنت في البدء أنه "غانون",وأنه يتوخى الحذر. إن بإمكانها أن تفهم ذلك.
لكن, خطر لها فجأة أنه قد لا يكون "غانون". ربما لم يكن هو الذي سرق الطائرة. ربما هناك رجل آخر قانط حقاً, مختبئ من الشرطة وبمقدوره أن يفعل أي شيء لكي يتمكّن من الهرب. ثم شعرت بوجود أحد خلفها .
.
استدارت وهي تطلق صرخة رعب صغيرة فرأت شخصاً واقفاً في الممر الضيق .لم يكن "غانون" : "صوفي"! .
كانت "صوفي" , بجسمها الصغير ملتفّة بسترة رجل, وقد غطى الوحل قدميها العاريتين. لكن, عندما تقدمت إلى الأمام لتحمل الطفلة, وتأخذها إلى مكان دافئ آمن, شعرت بأحد يقبض عليها من الخلف. وامتدَّت يد رجل فوق فمها, وأخرى حولها ممسكة بذراعيها كي لا تتحرك. تمتم غانون :
- لا تحدثي صوتاً يا "دورا" .
ولم تكن لتستطيع ذلك لو أنها حاولت. كان بإمكانها أن تقاتله لكي تستعيد حريتها, لكنها لم تفعل. لقد تفهمت حذره. كان ممسكاً بها بحزم, لكنه لم يؤذها ولم تكن هي تريد أن تؤذيه, أو أن تخيف "صوفي". وهكذا بقيت جامدة تماماً. وظلّا على هذه الحال للحظات بدت بلا نهاية .
ثم أخذ يبعد يده عن فمها تدريجياً, وسألها :
- ماذا تريدين؟
أجابت بحذر
- لا شيء . كل ما أريده هو أن تكون "صوفي" آمنة. ركنتُ سيارتي في الطريق . ووضعتُ فيها ملابس لها وخمسمائة جنيه في جيبي, مع المفاتيح .
لم يقل شيئاً فتابعت تقول :"أنا أعرف أنك وجدت الهاتف الخلويّ, "غانون". وأنا لا ألومك لظنك أنني استدعيت الشرطة . لكنني لم أفعل. لم أستدع أحداً".
- لم لا؟
كانت نبرته مشكِّكةً, لكنّ قبضته عليها تراخت, فاستدارت تواجهه وقد مالت قليلاً إلى الخلف لترفع بصرها إلى وجهه. كان مبللاً بأكمله, وقد التصق قميصه وبنطاله بجسده. بدا متجهماً من شدّة الألم. عليه أن يكون الآن في الفراش, بدل أن يهيم وفي عهدته فتاة صغيرة .
.
أجابته قائلة :
- لأنني مجنونة . تحتلُّ أخبارك الصفحة الأولى في الجريدة المحلية. .لقد افترضتُ على الأقلِّ أنّها أخبارك. الطائرة المسروقة؟
قال عابساً :
- ليست مسروقة. بل استعرتها من صديق .
- بدون إذن منه , كما كنت تريد أن تستعير الكوخ.
- سأصلحها وأعيدها له, بحق الله, حالما أنتهي من تسوية أموري لكي تبقى "صوفي" هنا. سيتفهم "هنري" الأمر.
- مثل "ريتشارد"؟ لديك كثير من الأصدقاء المتفهمين, يا "غانون".
- كنت سأفعل الشيء نفسه لأجلهم, وهم يعلمون ذلك.
- ليس من داخل السجن. . .
.
والتفتت قليلاً إلى الوراء وهي تسمع صلصلة طوق كلب, لكنها توقفت وهي تراه ينحني يحمل"صوفي". لكن, عندما حبس أنفاسه من الألم, حملتها هي بدلاً منه. ثم رأت الكلب.
كانت كلبة صغيرة بيضاء وحمراء تقفز أمام سيدتها. وكانت الكلبة هي "بوني"وسيدتها هي مدبرة منزل "بوبي".
- إنها السيدة"فولر". يجب أن لا تراني, يا"غانون".لأنها ستعرفني.
حملت"صوفي" واستدارت لتركض, لكن"غانون" أمسك بخصرها وأدارها نحوه. وعندما ركضت الكلبة نحوهما, قافزة على قدمي "دورا", أمسك بوجهها بين يديه وعانقها.
أطلقت شهقة صغيرة, وحاولت الانفلات منه, لكن ذراعيه اشتدتا حولها وهو يضمُّها بخشونة.
حين أمسك"غانون" بها وعانقها, لم يكن يشغل ذهنه سوى فكرة واحدة, هي أن يخفي وجهها ويحميها من الخطر الذي جرّها إليه بغفلته . لكن, في الوقت الذي نادت فيه السيّدة"فولر" كلبتها بتوتُّر, تأمرها مسرعة بالسير خلفها, كان قد نسي كل شيء عن السبب المنطقي الذي دفعه لمعانقة "دورا". وضاع في بهجة شعوره بذراعيه تضمَّانها إليه ورائحة بشرتها الزكيّة والدفء الذي سرى في عروقه متحدياً برودة المياه المنهمرة عليهما.
.
تململت"صوفي" ففصلتهما أخيراً عن بعضهما البعض. وعندما تراجعت"دورا" إلى الخلف وقد احمر وجهها من الخجل, همست الطفلة ل"غانون" بكلمات لم تسمعها, فأسكتها محذراً.
- لا تسألي.
فرفعت"دورا" رأسها :
- لماذا؟ ماذا قالت؟
تجنب النظر في عينيها, ورأت الإحمرار يسري على وجنتيه هو أيضاً .
إذن, فالأمر يتعلق بعناقهما . ضحكت, لكنها لم تُلحّ :
- هيا بنا نذهب من تحت المطر .
أخذ "غانون" يحدق بوجهها. لم تكن غاضبة بل فرحة. لم يفته أن يلاحظ أنها بعد برهة, بادلته عناقه بحنان دافئ .
أشاح بوجهه. إنَّ استعارته كوخ صديق له أو طائرته كان أمراً معقولاً, لكن أن يستعير زوجته أمر آخر. ما من صديق متفهِّم إلى هذا الحد, حتى وإن كانت الزوجة شريكة في ذلك .قال :
- قد تعود الشرطة.
- ربما, لكن ليس قبل فترة. لقد شعروا بنوعٍ من الحرج لتحطيمهم الباب. أنا لم أستدعهما, يا"غانون" .
- لماذا أتى منهم إذن عدد كبير هذا الصباح؟
- عدداً كبيراً؟ منذ متى يُعدُّ اثنان عدداً كبيراً؟
- كان في السيارة اثنان ربما, لكن كان هناك عدد كبير في الشاحنة الصغيرة التي تبعتهما. وقد تمكّنت من الهروب في الوقت المناسب. لقد حاصروا المكان قبل أن يحطموا الباب ويدخلوا .سمعت ذلك من الأجمة.
- لم يذكر الاثنان اللذان كانا في انتظاري شيئاً عن هذا الأمر.
- هل أزعجوك ؟
.
- في الواقع, لا . ليس عندما عرَّفتهم بنفسي . لكن الخوف تملكني عندما أصرّا على الدخول إلى الكوخ .ظننتك موجوداً هناك.
- أي عذر قدّماه ؟
- قالا إنهما يتحريان حول جرس إنذار انطلق في الليلة الماضية.و....
- وماذا ؟
- يبدو أنهما ظنا أنني متواطئة معك.
كادت تذكر الالتباس الذي حصل حول هويّتها. كانت تعلم أن عليها
الاعتراف له بذلك , فهي لا تستطيع أن تدعه يظنّ أنّ زوجة صديقه تسمح لأيّ غريب بمعانقتها . لكنّ الوقت الآن ليس مناسباً .
لم تكن بعد مستعدة لذلك. وربّما يظن أنها تشجعه لمعاودة الكرّة مرّة أخرى .
نظر إليها, ثم قال :
- ربّما يعلمون أنني صديق لـ" ريتشارد". وفي هذه الحال , سيكون
الكوخ أول مكان يفكّرون في تفتيشه.
- وهل يعرفون من تكون ؟ لقد نفت ذلك الجريدة .
- قد لا يعرف الصحافيّون كل التفاصيل . ولكنّ الشرطة ربّما لديها فكرة, وقد يعودون . أنا آسف, يا "دورا". لقد تسببَّتُ لك بالكثير من الإزعاج.
- يمكنك أن تضيفني إلى قائمة أصدقائك ولن تقلق بعد ذلك بسبب هذا. وما من داع أيضاً لأن تقلق بالنسبة إلى الشرطة , فنحن لن نمكث في الكوخ . أنا عائدةٌ فقط لأحكم إقفال الكوخ , ثم نذهب إلى شقتي في لندن .
شقتها؟ لماذا لم تقل ( شقتنا )؟
وصلوا إلى السيارة ,وانتظر إلى أن فتحتها ثم أجلست "صوفي" في المقعد الخلفي بعد أن دفعت الأكياس على الأرض. وقالت له :
- يوجد دمية في أحد الأكياس . لم لا تعطيها إيّاها ؟
.
عثر على الدمية ووضعها في يد "صوفي" التي نظرت إلى "دورا" وابتسمت بخجل وهي تتمتم ببضعة كلمات. حثت ذاكرتها فوجدت نفسها تقول باللغة الغرازنية أهلاً وسهلاً).
سألها "غانون" والشك يكسو ملامحه:
- من أين تعلمت هذا ؟
هزت كتفيها:
- سبق أن ذهبت إلى غرازنيا. أنا أفهم ما تحاول القيام به وأنا متعاطفة معك. صدقني, ليس عليك أن تكذب علي, أدخل بحق الله قبل أن تنهار .
اتجه نحو باب السائق, لكنها قالت بحزم :
- أنا من سيقود .
نظر إليها مفكراً ولم يجادلها. بل صعد إلى المقعد بجانبها حيث جلس متكوِّراً على نفسه بحيث تكاد ركبتاه تلمسان ذقنه . قالت له:
- يمكنك أن تحني الكرسّي إلى الخلف قليلاً .
فأحناها إنشاً أو اثنين .
انطلقت على الطريق لتقف بعد دقائق أمام الكوخ .
- يمكنك أن تجفف جسمك وتغير ملابسك ريثما أحاول إغلاق الباب .
لم يضيّع الوقت . وحين عاد وجدها تحمل الهاتف الخلويّ وتحاول أن تطلب رقماً. حدّق بها لكنها تجاهلته وتابعت عملها .
.
- "سارة"؟ أنا "دورا". كيف حال "لوري"؟
اعتادت "سارة" إطالة الحديث عن ابنتها وذكائها وجمالها, لكنّ "دورا" كانت على عجلة من أمرها:
- هذا رائع. قبليها عني. " سارة ", عزيزتي .لا أدري إن كان بإمكانك أن تقومي بخدمة لي. تحطّم الباب الأمامي للكوخ بسبب حادث بسيط , وهو بحاجة إلى نجار وشخص لإصلاح القفل بسرعة . كما أن الهاتف معطل هو أيضاً .
وابتسمت لـ " غانون" وهي تضيف :" فليباركك الله يا حبيبتي. أرسلي إليَّ قائمة بالحساب".
أنهت المكالمة ثم نظرت إلى "غانون"في تأمُّل :
- أتعرف "سارة" ؟
- أخت "ريتشارد"؟ رأيتها مرة واحدة .
- إنها ماهرة في إصلاح كل شيء. كان عليك أن تزورها هي .
- لم أكن أنوي زيارة أي شخص يا "دورا".
- كل شخص يعاني من مثل ما تعانيه أنت هو بحاجة إلى تلقي كل عون يستطيع الحصول عليه . هل نذهب؟
.
- كان مرافقاً فظيعاً , يجفل كلما أسرعت في السير . وكانت هي سائقة مغامرة فراح يصرخ أحياناً وهي تدور عند المنعطفات بسرعة بالغة. خاصة عندما
أخذت تسابق سيارة سوداء على منعطف خطر, وفازت .
- لا بأس , يا "غانون" . يمكنك الآن أن تطلَّ برأسك بأمان.
تمتم حمداً لله .
- هل تقودين دائما بهذا الشكل ؟
- أي شكل؟
كانت ملامحها تعكس براءة خالصة لكنها لم تخدع "غانون" لحظة واحدة. وعادت تعذبه ذكرى عناقهما الدافئ.
- هيا , يا حبيبتي.
وأمالت مقعدها إلى الأمام وأخذت تلاطف " صوفي " لتخرج من السيارة. لكن المشكلة أن "صوفي" كانت طوال الرحلة تعبث بالأكياس وترتدي كل ما استطاعت إخراجه , ولم تتمكّن من ارتداء أيّ من الثياب بشكل صحيح . قال "غانون":
- الأفضل أن أحملها.
- هذا هراء , إنها بخير.
وأجلست الطفلة على الرصيف :"حسناُ, قد لا تكون بخير ولكنها استطاعت ارتداء المعطف" .
ثم حملتها "دورا" وعانقتها : "إنها تبدو رائعة . سآخذها أنا إذا استطعت أن تحضر الأكياس" .
قال الناطور : " مساء الخير, يا آنسة "كاڤاناغ" " .
دخلوا إلى الردهة المبنى كاللاجئين القادمين من سوق خيرية.
- هل أستطيع تقديم المساعدة ؟
.
- لا . نحن بخير ,يا "براين". لكنّي سأكون شاكرة إن أحضرت لي علبة حليب.
- نعم , سأحضرها لكِ مع بريدك طالما أنَّ يديك مشغولتان .
- شكراً لك. آه, براين , إذا سأل عني أحد فأنا غير موجودة في البيت وأنت لا تعلم مكاني .
- كان السيد"فيرغس كاڤاناغ" يسأل عنك يا آنسة . لقد اتصل بك عدة مرات . أظنه يعتقد أنك في بيتك يا آنسة ولكنك لا تجيبين على الرسائل التي يتركها لك على المجيب الصوتي.
- سأستمع إليها عندما أدخل. لكن , حين أقول إنني لست في البيت,
فأنا أعني هذا تماماً .خصوصا بالنسبة إلى أخي.
تجنب"براين" النظر إلى "غانون" عن كثب .
- نعم يا آنسة. لن يزعجك أحد.
تبعها "غانون" إلى المصعد متجهماً بعض الشيء .
- سيظن أنَّك تقيمين علاقة غرامية .
- ربما . لكنه لن يخبر أحداً.
- يبدو أنك واثقة من ذلك بناء على تجارب سابقة. أليس كذلك ؟
التفتت إليه :
- يا إلهي ! كم أنت فظ يا "غانون" ! لا تنس أنّي شريكتك في كل جرائمك . يمكنك على الأقل أن تظهر قليلاً من التهذيب.
- إنه مكان جيِّد .
كان يحاول أن يلاطفها , لكنها نظرت إليه وهي لا ترى ذلك كافياً.
السبب ربّما أنَّ رأسه يكاد ينفجر بالأسئلة .أسئلة كانت تبعد مشاكله عن تفكيره.أضاف "غانون" :
- في المرَّة الأخيرة التي رأيت فيها " ريتشارد " كان يسعى جاهداً للخروج من مشكل مالية عديدة. وكان هذا سبب ترك " إليزابيث" له.
.
- لقد تركته لأنها تزوجته لأجل لقبه, واكتشفت, بعد فوات الأوان, أنه لا يملك مالاً يتناسب مع اللقب .. كان عليها أن تصبر, لأن الأمور تحسنت بعد أن فضلت عليه صاحب المصرف .
- يمكنني أن أفهم ذلك .
خرجوا من المصعد إلى الطابق العلويّ. وضع الأكياس في الردهة ثم نظر من الباب المفتوح إلى نافذة جميلة تطل على النهر.
خطر له أنّ " ريتشارد ماريوت" في الواقع ناجح جدا هذه الأيام بلا شك, لأنّ الاحتفاظ بزوجة مثل "دورا" يُعد ترفاً يكلفه غالياً .
لكنَّ هذا لا يعني أنّ تحسن وضعه المالي قد نجح في جعل عروسه سعيدة, إذا أخذنا في الاعتبار الطريقة التي تجاوبت بها مع عناقه.
.

أغنية كي يرحل للكاتبة ليز فيلدنغ Where stories live. Discover now