خاطىء او قديس

5.9K 130 0
                                    

- ماذا كنت تعملين في غرازنيا تحديداً , يا "دورا" ؟
كانا في المطبخ, وقد جلس"غانون" على مقعد عالٍ يشرب فنجاناً من القهوة لاستعادة توازن أعصابه بعد قيادة "دورا" للسيارة. أما "دورا" التي كانت ثلاجتها خالية من كل ما يؤكل, فقد أخذت تبحث في خزائنها عن علبة حساء كانت واثقة من وجودها في مكان ما.
وكانت"صوفي" في غرفة الجلوس تقيس كل قطعة من الملابس وهي تنظر إلى التلفزيون بفرح عارم .
- تحديداً ؟
.
ولم تلتفت. لقد حان وقت قول الحقيقة. لكنَّها لم تكن متلهفة إلى الاعتراف بأنها كانت تكذب على "غانون" . . .حسناً, لم يكن ذلك كذباً حقيقياً . .
لقد تركته يظن ما يريد في ما يتعلّق بها و ب"ريتشارد" . كانت غاضبةً منه عندما وصلوا إلى الشقة فلم تشأ الكلام. إلّا أنها علمت بضرورة فتح الموضوع الآن .
- أو بالدقة, إذا شئتِ .
- كنت في قافلة تنقل المساعدات .
عثرت على الحساء وحصرت اهتمامها في قراءة قائمة مكوِّناته. وعندما لم تسمع جواباً منه, التفتت إليه مضيفة :"ثلاث شاحنات, في الواقع ".
كان ينظر إليها بذهول بالغ :
- هل قدت شاحنة إلى غرازنيا ؟
.
- ليس طوال الطريق . كانت القيادة مناوَبةً بيننا. لكن, لا بأس في ذلك يا"غانون". فأنا لم أتّبع أسلوب السير الذي أتّبعه في لندن .
قالت ذلك لظنها أن طريقة قيادتها السيارة هي ما كان يهمه . إلّا أنّ ما كان يعنيه هو شيء آخر .
- وتركك "ريتشارد" تذهبين؟ ألا يتابع الأخبار؟ رباه , "دورا". هل لديه أيّ فكرة عن الخطر الداهم هناك؟
آه ,إنها الفكرة القديمة نفسها .لماذا تشغل الفتاة الحلوة نفسها بالقيام بأعمال كريهة خطرة , في حين أنّها تستطيع أن تكون أكثر نفعاً إن هي اهتمّت بتجميل وجهها ؟ يا للرجعية .
فكّرت أن "جون غانون" وشقيقها يمكن أن يشكِّلا ثنائياً , أو ربما ثلاثياً إذا اعتبرنا أنّ رأي صهرها "ريتشارد" ليس بأفضل من رأيهما .
- لم يعلّق "ريتشارد" كثيراً على هذا الموضوع .
ذلك لأن "بوبي" ذكّرته بحزم أن ما تفعله أختها ليس من شأنه . كما أن بإمكانه ترك الاهتمام بكلّ شيء مزعج ل"فيرغس" .ذلك أنّ تربيته لأختيه الأصغر سناً, بعد وفاة والديهم, منحه بمرور السنين سلطة كافية عليهما .
.
لكنها كانت في هذه المناسبة دون جدوى .
- أتظن"صوفي" ستحب هذا؟
أرته علبة الحساء, مرجئة الاعتراف بالحقيقة قليلاً.
- ليست "صوفي" صعبة . إنها تأكل أي شيء .
- سأفتحها إذن. لا بد أن هناك بعض الخبز في الثلاجة .
ما الذي حدث لها؟ إنه لا ينفك يمنحها الفرصة للكلام. فلماذا لا تستطيع التلفظ بالحقيقة التي تقول :
لست في الواقع زوجة "ريتشارد", ولست متزوجة على الإطلاق! ما هي الصعوبة في ذلك؟ ربّما لأنَّ زوال ذلك الحاجز سيمكّنه من معرفة السبب الحقيقي الذي جعلها تعانقه بتلك الطريقة, وستصبح مضطرة لمواجهة ذلك , فهو لم يتراجع عنها إلّا لأنّها زوجة صديقه الحميم "ريتشارد ماريوت". لقد خطر لها سابقاَ أنّ "غانون" قد يشعر ببعض السرور إذا علم أنّها ليست زوجة "ريتشارد". . .
سخرت من خداعها لنفسها وهي تفتح باب الثلاجة لتخرج منها رغيف خبز. وأحسَّت بجسدها يرتجف حين استعادت ذاكرتها الدفء الذي غمرها في حضنه بالرغم من برودة الطقس والمطر.
هل هذا هو السبب الذي يمنعها من إطلاعه على الحقيقة ؟ لأن استسلامهما للمشاعر سيصبح أكثر سهولة؟ كانت واثقة من معرفته لهذه الحقيقة التي سيستغلها لمصلحتها إذا ما سمحت له بذلك. ولم تكن تخادع نفسها. . . إنّ رجلاً يختطف طفلاً, ويسرق طائرة ويقتحم منزل صديق له ثم يحتجز زوجته, لن يتردد في إغوائها إذا ظن أن في ذلك فائدة له .
.
لقد توقف عن الجدال بعد عناقه لها مباشرة. ووافقها على ما تريد.
واثقاً من أنها أصبحت عوناً له, وأنا لن تغدر به بعد أن أصبحت كالعجينة بين يديه .
ربما كان على حقّ. فهي ستبقى كالعجينة. . .لكن غضبها جعلها تصحو من أحلامها, وتعود إلى الأرض.
ما خلا معرفته بصهرها. كان في الواقع غامضاً تماماً بالنسبة إليها. فهي لا تعرف من هو وما هي مشكلته. وأي مشكلة تلك التي أصبحت تواجهها الآن. . . لأنها حالت دون اعتقال رجال الشرطة له, وكذبت عليهم لأجله. . .وهاهو ذا الآن في شقتها بدعوة منها, وقد سمعها تطلب من "براين" أن يبعد عنها كل الناس بمن فيهم شقيقها. وكان ذلك خطأً منها, لأن "فيرغس" هو الرجل الوحيد الذي تحتاج إليه حالياً. . .لأنه يعلم تحديداً ما يتوجَّب عليها فعله. لكنَّ الخطر الوحيد هو أن يستدعي الشرطة, وهذه الخطوة هي ما ينبغي القيام به. وسيكون على حق في ذلك.
إنَّ المساعدة في إيصال مواد الإغاثة إلى شرق أوروبا كان عملاً معقولاً بالمقارنة مع ما تفعله الآن. ففي اللحظة التي اجتاز فيها هذا الغريب عتبة الكوخ, فقدت, كما يبدو, ما منحها إياه الله من عقل.
تابع "غانون" :
.
- هل حدث بينكما جدال حول هذا الأمر؟ بالنسبة إلى قيادتك لشاحنة الإغاثة؟ وهل هذا هو سبب نومكما في غرفتين منفصلتين؟
جمدت"دورا" مكانها. بينما سارع يقول على الفور:
- آسف. هذا ليس من شأني. لا تكترثي بسؤالي هذا.
ابتلعت ريقها, شاعرة بالذنب. . .الآن. . .أخبريه الآن. . .
- أنا و"ريتشارد". . ."ريتشارد" ليس. . .
- لم أستطع إلَّا أن ألاحظ أنكما لا تنامان في سريركما الزوجي.
قررت أن تقوم بالعمل الصائب وتعترف بغلطتها . هل هذا ما حرَّك فضوله إلى هذا الحد؟ هل ظنَ أنَّها استجابت لعناقه, لأن سرير الزواج كان مهجوراً, وكانت هي تتصرف بحرية في كلِّ
الأمور؟
لكنها, أيضاً, لم تتصرف كأنها عروس مغرمة بعريسها حين عانقها . . .
كانت استجابتها لعناقه غلطة سيئة فات أوان إصلاحها, لكنها ستلتزم بعدم تكرارها. صفقت باب الثلاجة بعنف واستدارت إليه :
- أنتَ على حقّ, يا"غانون" .فهذا ليس من شأنك. أنت من عليه أن يقدِّم تفسيراً منطقياً لكلّ شيء.
وضعت رغيف الخبز على المنضدة وأخذت تقطعه إلى شرائح : "لم لا تحاول القيام بشيئين في نفس الوقت؟ فبينما تقصّ عليّ ما جرى لك, يمكنك أن تكون نافعاً بفتح تلك العلبة" .
قد تبقي هذه المهمّة يديه مشغولتين, على الأقل. قال متجاهلاً أسئلتها :
- كما أنك مازلت تستعملين اسم عائلتك أنت.
انحدرت عيناه إلى يدها اليسرى الخالية من خاتم الزواج: "أنا أعرف أن هذا الأمر ليس إلزامياً. لكن, لا تبدين أنك من المطالبات بمساواة الرجل بالمرأة" .
لسوء الحظّ , لم تستطع أن تشغل فمه عن هذا الموضوع بالسهولة التي شغلت بها يديه.
- حقاً؟ كيف أبدو إذن؟
شعرت بخطاها فهي تتصرف الآن بشكل ينفعه هو ويضرّها. لكنها من البشر وتريد أن تتعلم.
- لم أحدّد بعد .
.
لم يكن قد أجاب بعد , بشكل مباشر, عن أبسط الأسئلة.
- حسناً , أعلمني حين تحدِّد موقفك . ويسرني أن أخبرك بمدى بعدك عن الصواب .
تقابلت عيناهما لحظة في معركة بين إرادتين. ثم نزل"غانون" عن المقعد المرتفع, وتناول العلبة يفتحها وهو ينظر إلى "دورا".
كانت نظرته متأملة, تحتوي على مغزى استقر في أعماقها, وجعلها تدرك أنها على حق في عدم إخباره بالحقيقة . لا بأس. لقد ساوره الشكّ إذن في أن يكون "زواجها" يواجه بعض المشاكل . لكنه , على الأقل, ما زال يظنها متزوجة , ومن رجل يدعي أنه صديقه. وهكذا سيمتنع عن القيام بعمل أحمق. إلا إذا شجعته هي . وهي لن تفعل ذلك .
لو أنها فقط تعلم المزيد عنه , ولماذا يحتاج إلى عونها. لقد سمحت حتى الآن لغريزتها بأن تقودها, فأخبرتها, رغم كل البراهين المعاكسة, بأنه يشبه الملائكة. لكن النساء ما زلن يخدعن أنفسهن دائماً منذ حواء. ولعلها تخدع نفسها الآن .
لم يكن واثقاً بها تماماً. وقد أجاب عن أسئلتها بأسئلته, ليتحاشاها, محتفظاً بأسراره .
رباه, هذا هو الدور التقليدي الذي تلعبه المرأة في كل مسرحية مثيرة .
لو كانت تشاهد هذه القصّة في أحد الأفلام السينمائية, لألّحت على المرأة الغبية بأن تخبر الشرطة, وتخرج من هناك, تهرب . .
لا يمكنها أن تقول إنها لم تتلقَّ تحذيراً سابقاً. فمنذ يومها الأوّل في الحضانة, علموهم شيئاً واحداً. . .أن لا يتحدثوا قطّ قطّ . . .إلى
الغرباء .
لا بأس ,"غانون" لم يقدم لها الحلوى. . لكن هل هذا صحيح؟ كان طعم عناقه لوزاً بالسكر وشوكولا وجيلي. .كل ذلك في حبة واحدة.
ندمت على تعليماتها ل"براين" بأن لا يخبر شقيقها بوجودها في البيت. قد يبقى "فيرغس" إلى الأبد يذكرها بعملها الغبيّ هذا, ويراقب كل حركة تقوم بها طوال السنوات العشر التالية بسبب جنونها. لكنه يفعل ذلك لأنه يحبها ويريد أن يحميها . . .
.
حسناً, ربما لم يفت الأوان بعد للاتصال به. لقد أصبحت ثقة "غانون" بها كافية إلى حد يسمح لها بالخروج لشراء ملابس ل"صوفي" , ومن المؤكد أنه لن يعترض على ذهابها إلى البقالة لتملأ ثلاجتها. عليهم أن يأكلوا. قالت له :
- عليَّ أن أخرج لشراء طعام .
- لكن الثلاجة مليئة كما تبدو لي .
قالت بحدة: " إننا بحاجة إلى بيض وحليب وجبن, وعصير برتقال لأجل صوفي. إنَّ جريدة مسائية كذلك ليست فكرة سيئة. وربما عليها أن تتناول بعض الڤيتامين أيضاً. لا أريد أن أنتظر إلى أن يذوب الثلج عن الطعام لكي نأكله . فقد مضى وقت طويل على تناولنا الفطور, ولابد أنك جائع" .
- عرفت أحوالاً أكثر سوءاً .
- في غرازنيا؟
- هناك, وفي أمكنة أخرى. كنت إلى وقت قريب مراسلاً صحفياً في وكالة أخبار, أخبار الحروب على الأخص . هذا إن كنت تريدين أن تعلمي .
- وماذا تعمل الآن ؟
- إنني مراسل حرّ. على الأقل حيث الأخطار موجودة.
- ابق هنا إذن وأطعم "صوفي" ريثما أخرج أنا للتسوّق .
- في الواقع, لا أظنّها فكرة جيِّدة يا "دورا".
- لن أتأخر .
حاولت أن تخفي ارتجاف أطرافها وصوتها. لم تفكر من قبل في احتمال أن يحتجزها في شقتها. ألم تفعل ما فيه الكفاية لكي تقنعه بأنها تسانده في مشكلته ؟ مهما تكن تلك المشكلة.
- كم ستتأخرين؟ في المرّة الأخيرة التي ذهبت فيها للتسوّق جاءت قوات الشرطة.
فتملكها الغضب :
- قلت لك إنّ ذلك لم يكن خطأي. . .ثم إنّك لست الوحيد المتورّط يا "غانون", فقد كذبت أنا أيضاً عليهم.
.
- وها أنت غيرت رأيك الآن. أنا لا ألومك يا "دورا", لكنك تتفهمين تحفظي بالنسبة إلى تركك تغيبين عن نظري مرة أخرى. إن كنت تريدين أن تتبضَّعي فأنا واثق من أن ناطورك الودود سيسره أن يساعدك ويمكنك أن تطلبي منه إحضار جريدة مسائية أيضاً, فلربما أحتلُّ الصفحة الأولى .
قالت بفزع :
- هل هذا محتمل؟ إن كان هذا صحيحاً سيعرفك الناطور. وسيكون هو الذي يستدعي الشرطة .
كان من المفترض أن تسرّها هذه الفكرة, لكنّ أيّاً من هذا لم يحدث. قال بابتسامة شبه ساخرة :
- لا أظن ذلك. . . أنا لا أبدو بمظهر حسن تماماً.
حاولت أن تهز كتفيها لا مبالية :
- على كل حال, سأنزل وأطلب منه ما أريد.
لم يكن خداعه سهلاً.
- لم لا توفرين طاقتك وتستعملين الهاتف الداخلي؟
رفع السماعة يقدمها لها. بدا لها مصمماً على عدم تركها تغيب عن نظره مرة أخرى . ابتلعت ريقها بتوتر :
- هل فصلت الهاتف الخارجي ؟
لقد كان قبل قليل يطوف أرجاء الشقة يتفحص تجهيزاتها.
- لا, لأنني سأحتاج للهاتف.
- لتتصل بالمزيد من أصدقائك المتفهمين؟
حمّلت صوتها كل ما أوتيت به من ازدراء وترفُّع: "يحتاج الرجل إلى كل الأشخاص الذين يمكنه الحصول عليهم. وتستطيع ربّما الاتصال ب"ريتشارد" أيضاً. فقط إن كان يتساءل عن مكانك. أم أن الأمور بينكما ساءت إلى حدّ القطيعة؟" .
رفع يديه كأنّه يدافع عن نفسه حين حملقت إليه وقال:
- لا بأس. أعرف أن هذا لا يعنيني لكنه كان صديقاً جيداً عندما احتجت إلى مساعدته. لكنَّ زواجاً فاشلاً يتسبَّب بما يكفي من المشاكل بالنسبة إلى أيّ شخص .
- هل تتحدث الآن عن خبرة شخصية؟
- لا, فهذه واحدة من الأخطاء القليلة التي لم أقترفها بعد. لكنني رأيت ما فعله هذا ب"ريتشارد".
  - لا داعي لأن تقلق لأجله, يا "غانون". إن "ريتشارد" سعيد مثل غيره من الرجال الذين يستحقّون السعادة .
- هل يمكنك أن تضمني ذلك؟
- اسأله. لا أظنه يخالفني الرأي. أحب أن أتصل به وأجعله يخبرك بذلك بنفسه. لكنني لا أستطيع فهو مسافر طوال الوقت . ويغيّر مكانه بين يوم وآخر .
- ألا يتصل هو بك؟
- ربما يحاول أن يتّصل بي في الكوخ .
قالت ذلك دون وخز من ضمير, وقد تلاشت كل نية لديها في إخباره بالحقيقة . لقد قامت بما يكفي من الحماقات في الساعات الماضية, فلا داعي لأن تزيد الأمور سوءاً. وأضافت :
- لا يستطيع طبعاً الاتصال .
لم يفكر "غانون" لحظة بالاعتذار, فسألها:
- وماذا عن الهاتف الخلويّ؟
هذه هي المشكلة. ما إن تبدأ الأمور بالتحسن, حتى تفلت من يدها.
فقالت أول شيء خطر في ذهنها :
- هذا الهاتف جديد و"ريتشارد" لا يعرف رقمه. قد يتصل ب"سارة" فتخبره بأنني هنا .
- لكنك لم تخبري "سارة" بأنك قادمة إلى هنا .
- حقاً؟ حسناً, ستتكهن بذلك أو هو الذي سيتكهن .
أجابها بهدوء وقد بدا واضحاً أنه لم يصدّق كلمة مما قالت. وكان لا يزال ممسكاً بسماعة الهاتف .
- هل ستعطين تعليماتك إلى "براين" ؟
- وهل أملك الخيار ؟
- لا, مع الأسف .
لم تُرد أن تواجه عينيه القاتمتين المتفحصتين لحظة أخرى, فاختطفت السماعة من يده ثم أدارت له ظهرها وهي تتّصل بالناطور الذي أجاب فوراً .
.
- "براين", "دورا كاڤاناغ" تتكلّم . هل لك أن تطلب من البقال عند الزاوية أن يرسل لي بعض الخضار, من فضلك؟ سأعطيك قائمة بذلك.
أخذ "غانون" يراقبها وهي تعدّد للرجل مطالبها. كانت ترتجف متوترة. حسناً, ليس هذا مستغرباً. فقد عانت كثيراً خلال الساعات الماضية. لقد سبب لها ذلك الكثير من الإرهاق. لم تكن حتى الآن قد طرف لها جفن, لكنها, فجأة, أصبحت متوترة.
فضَّل أن يتظاهر بجهله السبب في ذلك. لكنه أمضى سنوات عديدة في دراسة الأشخاص الذين يحاولون إخفاء مشاعرهم. لقد تغيرت منذ اللحظة التي عانقها فيها في تلك الطريق الموحلة وبادلته هي عناقه. وتساءل إن كان ما أزعجها هو خيانتها لزوجها في لحظة جنون .
كانت هادئة أثناء قيادة السيارة وسط لندن. لكنَّ الوقت لم يكن مناسباً للقلق حينذاك. فقد كان جُل همِّه أن يصلوا إلى مقصدهم سالمين. . . وأن يعدّ الوقت الذي سيمضي قبل أن يزداد الألم سوءاً إلى حد يمنعه من التنقل . لكن منذ أن أُغلق باب شقتها خلفهم , بدأ توترها يزداد .
كانت مستعدة للهرب في أول فرصة, وهو ما لن يسمح لها به. إن "صوفي" بحاجة إليها. وهو بحاجة إليها أيضاً. . . وحاول أن يتجاهل هذا الصوت الملح في داخله, لكن الصوت رفض الانصياع. . . إنه يريدها. . .نعم. . .إنه يريدها أكثر مما أراد أي امرأة أخرى في حياته. هاهو يشعر الآن وهو ينظر إليها مركزة اهتمامها على ما قد تحتاجه ليوم أو يومين, بنوع من الانجذاب الشديد الذي اعتقد أنه تخلَّص منه .
.
"ريتشارد" صديقه, و"دورا" زوجة صديقه . ولن تغني الملائكة له أغاني الحب السعيد. عليه فقط انتظار اللحظة الكئيبة التي ينتهي فيها من تسوية أموره والخروج من ورطته هذه, ولا يتبقّى سوى القيام بما هو صائب والرحيل. لكن أوان رحيله لم يحن بعد وأضلعه تريه نار جهنم من الألم, كما أن الشك يحيط بمستقبل "صوفي" .
ألقت السماعة والتفتت إليه بتمرد:
- لابد أن كل شيء أصبح على ما يرام الآن.
- بالتأكيد. لقد طلبت ما يكفي لخمسة آلاف شخص .
هزت كتفيها :
- حسناً , لا نعلم متى يزورنا أولئك الخمسة آلاف, وقد يكونون جميعاً مرتدين ملابس رجال الشرطة وخوذاتهم. والآن, بما أن هذا الحساء لن يسخّن نفسه , سأسخنه أنا. وأثناء عنايتي ب"صوفي" يمكنك أن تقوم باتصالاتك الهاتفية .
- هل أنت حريصة إلى هذا الحد على التخلص مني؟ حسناً, لا أستطيع لومك . أعدك بأن لا أبقى ثانية واحدة أكثر مما تتطلبه الضرورة .
- ليس لي أي خيار آخر, أليس كذلك ؟
لم يكن هذا يعني أنها تريده أن يرحل . برغم كل شكوكها , لم تكن تحب أن تخادع نفسها . ما كانت تريده حقاً هو أن تعانقه, وتساعده في تحسين أموره . لم يتملكها مثل هذا الشعور نحو أحد من قبل طوال حياتها . هذا ما جعلها تشعر بالضعف وهي رازحة تحت رحمة مشاعر لا تفهمها. أو ربما فهمتها جيداً لكنّها لا تريد أن تعترف بها. وأضافت :
- لكنني لا أريد أن أكون خارجة على القانون , يا"غانون". أريد تسوية الأمور. وذلك لأجل "صوفي" وأجلي .
- إذن فلدينا الهدف نفسه .
- هذا جيّد. لا أظنك إذن ستمانع إن استدعيت طبيبي وجعلته يفحصها بشكل شامل .
التفتت تنظر إليه, وقد اعتصر قلبها رغم غضبها. كان جلده مغبرّاً, ومرارة الألم ظاهرة حول فمه. . ذلك الألم الذي يرفض الاعتراف به. عليه أن يرى الطبيب, هو أيضاً. لكنها لن تقول شيئاً الآن بل تركت مناقشة ذلك حتى يأتي الطبيب ويساندها .
.
- قي الواقع , ليست فكرة سيئة .
كادت تنهار من الصدمة. وقد بدا ذلك على وجهها فابتسم وقال: "أريد أن نقوم باختبار للدم . وكلما أسرعنا في ذلك, كان أفضل".
- اختبار للدم؟
- لا داعي لقلقك الزائد هذا. كل ما أريده هو أن أثبت أن "صوفي" ابنتي, ممّا يعني أن لها الحق في أن تكون هنا.
ابنته!
- ابنتك؟ لكنني ظننت. . .
- ظننت أنها مجرد لاجئة اختطفتها من بلدها دون أوراق رسمية؟
تمتمت تقول: "شيء كهذا. . ".
- هل لأن الشيء نفسه خطر في ذهنك عندما كنت هناك؟
أشاحت بنظراتها عنه. خطر لها ذلك بالفعل, فهي تشعر بالخزي من كونها جزء من عالم يترك الأطفال يتألمون بهذا الشكل.
وتابع قائلاً :
- أنا أعلم مدى صعوبة ترك الأطفال, صدقيني. لكن هذا أفضل. لأن بلادهم ستكون بحاجة إليهم. إلى كل واحد منهم. . .
رفعت رأسها تقاطعه :
- هذا إن بقوا أحياء. . .
- سيعيشون .
ومدّ يده ملامساً خدّها بأنامله, فأجفلت من لمسته. كوّر أصابعه في قبضةٍ متراخية كأنها الطريقة الوحيدة للسيطرة عليها, قبل أن تسقط يده إلى جانبه, متابعاً :"طالما أنَّ أشخاصاً مثلك يقفون إلى جانبهم" .
فقالت متحدية :" إن كان هذا رأيك, لماذا لم تترك "صوفي" مع أمها؟".
- لم يكن هذا ممكناً .
- لماذا؟
فقال بضيق:
- دعكِ من هذا, يا"دورا". إنها قصة طويلة . ألم يجهز ذلك الحساء بعد؟
بقيت تحدق فيه لحظة, ثم عادت تلتفت إلى القدر لتطفئ النار تحته.
- يكاد يجهز. هل يمكنك وضع شريحتي خبز في المحمصة ريثما أحضر "صوفي"؟
كانت "صوفي" قد ارتدت قميصاً مقفلاً داكن الزرقة وبنطالاً طويلاً. ورغم الجو المكفهِّر الملبد بالغيوم, وضعت على رأسها قبعة للشمس . وكانت جالسة على الأرض أمام جهاز التلفزيون تقلّبه من محطة لأخرى بواسطة جهاز التحكّم عن بُعد .
.
أخذت "دورا" جهاز التحكّم من يدها, تاركة فيلم الكرتون على الشاشة, ثم انحنت لتنزع بنطال الطفلة قبل أن تعثر على جورب قصير لها وحذاء خفيف في كومة الملابس . بذلت جهداً كبيراً لحملها على ارتدائهما والطفلة تترنّح من ناحية لأخرى كيلا تفوتها ثانية من الفيلم الكرتوني, ممّا ساعدها على التخلص من تلك الأسئلة المتسابقة في رأسها إلى ما لا نهاية . وعندما انتهت حاولت أن تأخذ "صوفي" لتغسل لها يديها, لكنّها عجزت عن إقناعها فاضطّرت "دورا" إلى حملها .
رأت "دورا" أن الطفلة قد تحسنت عشرة أضعاف عما كانت عليه الليلة الماضية . إنَّ تأمين الطعام والدفء والدواء لها, ساهم في تقديم العون لها. لكنها لا تزال عازمة على عرضها على الطبيب .
لا تزال تريد بعض الأجوبة, خاصة عن والدة "صوفي".أرادت أن تعلم ما جرى لها, سواء كانت القصة طويلة أم لا, فهي لا تريده أن يخفي عنها ذلك إلى الأبد. ما إن وصلت إلى المطبخ, حتى أخذ الهاتف في الرنين. وقفت تنظر إلى "غانون" مترددة . فسألها :
- ألن تجيبي ؟
- إن المجيب الصوتي يعمل. وسيحفظ لي المكالمة .
رباه لا تدعهم يقولون أي شيء يكشف حقيقتي !
رفعت "صوفي" تضعها في مقعد عالً, وناولتها ملعقة وهي تسعى جاهدة لأن لا تستمع بينما كان صوتها يطلب من المتكلم ترك رسالة .
وجاءت المكالمة :
- "دورا" أنا "ريتشارد". لقد تكلمت لتوّي مع "سارة" فقالت إن بعض المشاكل طرأت في الكوخ, ممّا جعلك تتركينه بسرعة. . .
وقبل أن تلتفت, كان "غانون" قد اجتاز الردهة وأمسك بالهاتف :
- "ريتشارد" . . .أنا "جون". . ."جون غانون" . . .
- "جون" ؟
.
ساد الصمت بينما كان "ريتشارد" يستوعب ما سمعه .
- ما الذي تفعله في شقة "دورا" ؟
- آسف, لكنني أنا المشكلة. كنت قد اقتحمت كوخك الليلة الماضية لأنني كنت بحاجة إلى مكان هادئ أمكث فيه عدة أيام . ولم يكن لديّ فكرة عن وجود أحد فيه . . .
- يا إلهي! لابد أنك جعلت "دورا" المسكينة تموت خوفاً!
- ليس بنصف مقدار ما أخافتني هي . علمت أنّ من واجبي تقديم التهنئة. لم أكن أعلم أنك تزوجت مرة أخرى .
- ماذا؟ آه, نعم. يوم عيد الميلاد. كنت سأجعلك شاهد زواجي لو كنت أعلم مكانك. سأجعلك تشعر بالملل عندما أحدثك عن مدى سعادتي بعدما أعود من الولايات المتحدة.إن كنت لا تزال موجوداً.
- لقد ولَّت أيام تجوالي, يا"ريتشارد". إنني أنتظر رؤيتك بشوق.
كان يحاول التغلب على الغصة في صوته وفي حنجرته, ولم يكد يُفلح . فأرغم نفسه على تكرار الكلمات بثبات : " أنتظر رؤيتك بشوق ".
- هذا عظيم . أخبرني يا "جون". لماذا اقتحمت الكوخ ؟ هل المشكلة امرأة ؟
- إنه أمر كهذا. فلنقل فقط إن مكاني غير محدّد إلى أن أسوي أمراً أو اثنين . وقد تلطفت "دورا" باستضافتي مع ابنتي عدة أيام. . . أرجو أنّك لا تمانع .
.
- ولماذا أمانع إن لم تمانع "دورا"؟ ماذا . . .(وقبل أن يفكر "غانون" بجواب ما, وضع ريتشارد يده على السماعة لحظة, وابتعد صوته متحدثاً بشكل غير مفهوم مع شخص) اسمع . عليّ أن أذهب يا "جون". سنتحدث عن كل شيء عندما أعود. يبدو أن لديك الكثير لتقوله . هل قلت "ابنة"؟
- نعم .
- حسناً, مهما كانت الورطة التي وقعت فيها, فإن "دورا" لها. إنها شجاعة وحازمة, وهي تعرف الكثير من الناس . إلى اللقاء عندما أعود. يا "جون" .
- ألا تريد أن تتحدث إلى . . .
لكنه أقفل الخطّ. أعاد السماعة إلى مكانها بعناية بالغة. كان "ريتشارد ماريوت" رجلاً أمضى جون حياته يتطلع إليه بإعجاب . لقد رآه ينهار عندما فشل زواجه فوضع اللوم على "أليزابيت" دون تردّد. لكنه أخذ يتساءل الآن إن كان على صواب. إن أي رجل يعامل زوجته بمثل هذه اللامبالاة , لا يستحق حبها ووفاءها.
.
كانت "دورا" تنتظر مترقبة بهدوء, وقد بان في عينيها نوع من التوجس .
- "ريتشارد" أرسل إليك تحياته مع حبه .
حاول أن يعكس صوته ما أمكنه من مشاعر .

- حقاً؟
تملكها الشك في ذلك. فهو لم يقل سوى ما ظنها تريد أن تسمعه, كيلا تشعر بخيبة أمل. وتأثّرت بذلك بشكل غريب. تابع "غانون" :
- لقد استدعوه حين كان على الهاتف .
قبض يديه بشدّة كيلا يتقدم نحوها ويأخذها بين ذراعيه, ويعانقها ويحبها كما ينبغي أن تُحب بدلاً من اختلاق أعذار لزوجها. إن أي اجتماع لا يمكن أن يمنع "ريتشارد" من الكلام مع زوجته .
- يبدو أنه لا يمانع في مكوثي هنا .
- لمَ يمانع ؟ أنت صديقه .
كادت لا تصدِّق أن كذبها لم ينكشف .
- هذا ما قاله. يبدو أنه يثق بك. . .وبي. . .
- ليس لديه ما يمنعه من ذلك .
تقابلت نظراتهما لحظة فشعرت "دورا" بقلبها يخفق وهما يتذكران تلك اللحظة في الغابة حين لم يفكر أي منهما في"ريتشارد". بالنسبة إليها, كان ذلك مفهوماً. . .أما بالنسبة إليه. . حسناً, يبدو أن "غانون" يعيش حالة من الارتباك والتوتّر محاولاً أن يختار بين أن يكون خاطئاً أم قديساً .
.
رن جرس الباب , فتوجَّه نحوه , ليريحها من عنف نظراته المتفحصة التي جعلت أنفاسها تتدافع وساقيها لا تقويان على حملها.
- يريد الرجل في الباب بعض النقود مقابل إحضاره الطعام .
- إنها في حقيبة يدي . يمكنك أن تأخذ ما تريد .
كان صوتها يرتجف قليلاً . مرة أخرى, التقت عيناهما للحظات قصيرة فوق رأس "صوفي" :
- لا أظنها فكرة جيِّدة, يا "دورا". أنتِ لا تعرفين إلى ما قد تؤدي إليه دعوة كهذه .
ناولها الحقيبة وقد بدا التوتُّر في صوته .
.

.

أغنية كي يرحل للكاتبة ليز فيلدنغ Where stories live. Discover now