شيء ما انتزع ((دورا )) فجأة من نومها العميق.لقد اخترق مسامعها صوت غريب ,متخللا أصوات الليل المألوفة في الريف .
كانت قد لجأت إلي الريف بحثا عن الراحة , لكنها بعد ضجيج لندن . وجدت الليلة الأولى التي أمضتها وحدها في كوخ ( ريتشارد ) و ( بوبي ) موحشة , رغم اعتياد أذنيها علي أصوات الريف المختلفة . وأدركت أن ما كانت تظنه في البداية سكونا تاما, ما هو في الواقع إلا مجموعة من الأصوات الخافتة.
استلقت الآن في سكون تام, تستمع إلى مجموعة الأصوات الليلية المألوفة . خرير النهر الرقيق الذي لا يبعد عن بابها أكثر من مئة ياردة ,و انسياب مياه المطر من الميازيب ببطء ,والوقع الرتيب لقطرات المياه المتساقطة من الأشجار التي تتلقى انهمار المطر .
.
كان يخترق هذه الأصوات المائية صراخ بطة مذعورة من شيء ما.... أتراه ثعلب ؟ في المرة الأولى التي سمعت دورا فيها أصوات الليل الغامضة الغريبة, تجمد الدم في عروقها, لكنها الآن, بعد مرور أسبوع على وجودها في الكوخ و لم تعد تشعر بالجبن إلى هذا الحد.
نزلت من سريرها وأسرعت إلى النافذة, على أتم استعداد لقذف المقتحم بسبابها وما تصل إليه يدها.
لكن المنظر الذي تكشف أمام ناظريها , في تلك اللحظة , كان بروز القمر بين السحب , ليلقى الضوء علي حدبات البط النائم , و السكينة البالغة التي كانت تكسو ضفتي النهر .كان كل ذلك يدل علي عدم وجود أي مخلوق , و إن يكن ثعلبا .
وضعت مرفقيها لبرهة علي عتبة النافذة ,مسندة ذقنها علي راحتيها . ثم مالت إلى الأمام تستنشق هواء الليل المفعم بشذا أزهار العسل الجبلية الممتزج بشذا الورود . أخذت تختزن هذه الروائح التي كانت تمثل لها وطنها انكلترا , بعد ما واجهته من رعب يثير الغثيان في مخيمات اللاجئين.
و من بعيد , لمع البرق يتبعه هزيم الرعد المنخفض . ارتعشت (دورا ) وأغلقت النافذة وتناولت معطفها المنزلي الحريري , بعدما أدركت أنها لن تستطيع الخلود إلى النوم والرعد يقصف في الأجواء . قررت النزول إلى الطابق السفلي , حيث يمكنها أن تدير الموسيقى التي تغطي ذلك الضجيج . أما النوم فتستطيع العودة إليه في أي وقت تشاء .وهذه هي إحدى المزايا الكثيرة للوحدة , بما في ذلك رقم تليفون لا يعرفه سوى اقرب المقربين من الأسرة .
.
فتحت باب غرفة النوم وخرجت ... ستعد أولا كوب شاي وبعد ذلك ....
وإذا بها تسمع ذلك الصوت مرة أخرى , فأدركت إن الذي أيقظها لم يكن صوت رعد .
كان صوتا أشبه بالسعال...سعال خفيف لطفل صغير .... وكان قريبا كأنه آت من داخل الكوخ .
لكن ما هذه السخافة ! . فالكوخ يحتوي علي جهاز امن شامل كان صهرها قد ركبه بعد أن قام باحتلاله متشرد لفترة ما .ولن يتكرر ذلك مره أخرى مع أي لص عادي , كما أنها واثقة من أنها لم تنس أي نافذة مفتوحة . لكن , لعلها مخطئة !
مالت من فوق درابزين السلم متنصتة , فلم تلتقط أذناها سوى الهدوء التام .
أتراها تخيلت صوتا ما ؟ نزلت درجة .كان الكوخ يبعد عن اقرب طريق عام عدة أميال , وكان المطر يهطل بغزارة طوال المساء .ما من عاقل يخرج طفلا من بيته في هذا الوقت المتأخر , خاصة إذا كان الطفل مريضا . نظرت في ساعتها , لكن الظلام كان دامسا فتعذرت عليها الرؤية . لا بد أن الوقت قد تجاوز منتصف الليل بكثير .
نزلت درجة أخرى. قد يكون الصوت صادرا من حيوان صغير فضاعفه سكون الليل العميق .ومع ذلك بقت مترددة في نزول السلم .
و إذا بهزيم الرعد يجلجل فترتد به العاصفة من فوق التلال . نسيت كل شيء وهبطت السلم بسرعة بالغة ولجأت إلى غرفة الجلوس .لكم ما إن مدت يدها إلى زر الإضاءة , حتى أدركت أن الرعد كان أخر مشاكلها . ارتدت يدها إلى فمها المنفغر من الذهول . انساب ضوء القمر من النافذة ليسكب الضوء علي طفلة صغيرة بان التعب علي وجهها الهزيل .
.
كانت واقفة في وسط غرفة الجلوس . وخيل إلى ( دورا) للحظة مخيفة أنها رأت شبحا . ثم سعلت الطفلة مره أخرى لم تكن (دورا )علي معرفة بهذه الأمور , لكنها كانت واثقة من أن الأشباح لا تسعل .
كانت الطفلة ترتجف تحت الدثار الرقيق الذي يلف جسدها , وكان شعرها الداكن الرطب مشعثا وقد التصق بوجهها الشاحب , كما كانت قدماها عاريتين تماما . بدت هذه الطفلة من التعاسة بحيث لم تر دورا مثلها خارج مخيمات اللاجئين .
جمدت في مكانها للحظة لا تدري ما عليها فعله . لم يكن الخوف ما شعرت به تحديدا , لكن الشجاعة خانتها جراء ظهور هذه الطفلة الغريبة بهذا الشكل المفاجئ وسط غرفة الجلوس في بيت شقيقتها . وبدت عيناها كبيرتين للغاية وسط وجهها النحيل وهي تحدق إلى ( دورا) , فشعرت بشيء ما يحمل علي القلق في جمود هذه الطفلة الحذر .
ثم استعادت فجأة حسها المنطقي السليم , وخطر لها أن ما من سبب يدعو للخوف .فهذه الطفلة بحاجة إلى دفء وراحة بغض النظر عن المكان الذي أتت منه . تقدمت منها و أخذتها بين ذراعيها , تضمها لتعيد إليها الدفء من حرارة جسمها .
اتسعت عينا الطفلة بخوف وصمت , وظل جسدها متصلبا . لكن (دورا) أخذت تخفف عنها كما تفعل مع أي مخلوق صغير خائف . وتمتمت بصوت لا يكاد يعلو عن الهمس (( لا بأس , حبيبتي , لا تخافي! حدقت الطفلة مجفلة ويد (دورا) تمر علي جبينها لترفع خصلات شعرها الرطبة . كانت بشرتها حارة وجافة , ووجنتاها متقدتين بشكل مرضي بالرغم من شحوبها .
يجب على هذه الطفلة أن تكون في فراشها ألان في ليلة عاصفة كهذه , بدل أن تهيم علي وجهها وتدخل بيوت الغرباء . كما أنها بحاجة إلى طبيب .
تمتمت (دورا) : (ما اسمك , يا حلوه ؟).
... وتركت ما تبقى من أسئلة إلى الوقت المناسب .خاصة ذلك المتعلق بطريقة دخولها إلى الكوخ .
.
حدقت الطفلة بها لحظة , وبصوت يجمع بين التأوه و الأنين , تركت رأسها يسقط على كتف (دورا) . كان وزنها خفيفا , و يعود في معظمه إلى الدثار المبلل الذي ألقت به (دورا ) بعيدا , ودثرت الطفلة بمعطفها الحريري . من تراها تكون ؟ ومن أين ....؟
بقي السؤال معلقا في رأسها عندما سمعت صوت ارتطام مفاجئ آت من وراء باب الغرفة , ثم تعالى صوت رجل يطلق الشتائم .
يبدو أن الطفلة لم تكن وحدها . وقررت ( دورا) فجأة , بعد أن تملكها غضب عنيف , أن تتحدث إلى هذا اللص الذي يخرج طفلة مريضة معه في مغامراته الليلية . و دون الاكتراث بالخطر المحتمل من هذا الضيف غير المرغوب فيه , فتحت الباب علي مصراعيه وأضاءت النور .
_ أي شيء ....؟
كان الرجل الدخيل واقفا أمام خزانة وفي يده مصباح , فاستدار وهو يطرف بجفنيه من النور المفاجئ , رافعا يده الممسكة بالمصباح ليظلل عينيه .
فرأى (دورا) وهتف قائلا : ( رباه , من أنت ؟)
تجاهلت (دورا) أن الرجل يفوقها طولا بكثير وقد بدا قادرا على رفعها بالسهولة نفسها التي رفعت هي بها الطفلة بين ذراعيها . و تجاهلت كذلك مظهره الرث كأنه أمضى أسبوعا ينام في العراء وأجابته بحده : (من الذي يريد أن يعلم ؟) .
تصلب الرجل أمام هذا الهجوم .
_ أنا ....
و فجأة انزل ذراعه التي كانت امام وجهه وراح يبتسم .
.
كانت شقيقة (دورا)تمثل في الإعلانات وعارضة أزياء مما جعل (دورا ) قادرة علي تمييز الابتسامة المهنية المتكلفة . رأت نوعا من الطيبة في هذا الرجل و هو يتقدم نحوها وقد بدا عليه الارتياح و الهدوء :آسف لم اقصد الصياح , لكنك أخفتني .
- أنا أخفتك ؟
نظرت إليه دهشة من هدوء أعصابة ثم تمالكه نفسها وسألته : (كيف دخلت إلى هنا ؟)
_اخترقت القفل بمثقاب .
اعترف بذلك بصراحة و دون ارتباك و هو يتأملها بفضول . وأضاف : (ظننت الكوخ خاليا ).
كيف يخترق القفل و يعترف بذلك باسما دون أبداء أي ذرة من الخجل أو الندم ؟ أن أي لص عادي كان سيلوذ بالفرار . وأحكمت ذراعيها حول الطفلة التي استقرت علي وركها ...و لكن اللص العادي لا يصحب معه أطفالا مرضي في مغامراته الليلية !
_حسنا المنزل غير خال,كما ترى , فانا اسكن هنا .
قالت ذلك متجاهلة تواجدها المؤقت هنا في غياب أختها .
.
عندما عرضت عليها (بوبي ) استعمال الكوخ أثناء غيابها هي وريتشارد ,طلبت منها التصرف كما لو انه بيتها لكن الرفاهية تصحبها المسؤولية . و ها هي ذي ( دورا ) الآن ترى أن الوقت قد حان لكي تضطلع بالمسؤولية بشكل جاد .وهكذا , حملقت إلى هذا الدخيل , رافضة التأثر بما كان عليه هذا المتشرد الفارع القامة , ذو الابتسامة المتقنة , الذي يبحث بلا ريب عن مكان جاف يبيت ليلته فيه .
كررت قولها ( أنا اسكن هنا , ولا اؤجر غرفا سواء كان ذلك باجرة أم لا , لهذا , من الأفضل لك أن ترحل )
تلاشت ابتسامته فجأة : ( سأذهب حين أصبح مستعدا لذلك و .....)
فقاطعته : (قل ذلك للشرطة . فسيصلون إلى هنا في أي لحظة الآن .)
وحين علا صوتها , تصاعد بكاء الطفلة بشكل واهن متألم جعل (دورا) تلتفت إليها و هي تحتضنها برفق وتملس على شعرها .
_ماذا تفعل في الخارج مع هذه الطفلة المريضة , وفي هذه الساعة المتأخرة من الليل ؟ كان يجب أن تكون في السرير .
هدأت الطفلة تحت لمساتها .
.
-سأضعها فيه تحديدا بعد أن اسخن لها بعض الحليب ....
قال ذلك بتوتر , مثبتا بذلك شكوكها . و أشار برأسه إلى علبة حليب كرتونية موضوعه علي المنضدة , وأضاف : ( لم أتوقع ان أجد أحدا هنا )
_سبق أن قلت هذا .
تجاهلت (دورا ) صوته الذي بدا متناقضا مع بنطالة الجينز الممزق والملون بالوحل , وكنزته القذرة التي تعلوها سترة جلدية لا بد أنها كلفته مبلغا باهظا , لكنها الآن باتت بالية من خشونة الاستعمال . يظل المتشرد متشردا و إن تحدث بلكنة تلامذة المدارس الخاصة .
_أظنك كنت عازما علي البقاء دون إذن مسبق .
بدا الضيق علي ملامح الرجل و هز كتفيه : (لا , طبعا . إن (ريتشارد ) لا يمانع في مكوثي هنا لعدة أيام .
-ريتشارد !
وارتفع حاجباها لدى تلفظه باسم صهرها بكل حرية .
_اعني (ريتشارد ماريوت)صاحب هذا البيت .
_أنا اعرف من هو ( ريتشارد ماريوت ). وأرجو المعذرة أن خالفتك الرأي بالنسبة إلى ردة فعله .فانا اعلم رأيه السيئ في مقتحمي البيوت عنوة .
بدا المرح علي وجه الرجل الدخيل عند سماعها وأجابها : (إلا إذا كان هو الفاعل ...فهو الذي علمني كيف ادخل إلى هنا ).
قال ذلك محدقا في عينيها في تحد فقالت باحتجاج : ( يستعمل ريتشارد مهاراته لاختيار أجهزة الإنذار وليس لاقتحام البيوت ).
.
_هذا صحيح .
اخذ (غانون) يتأمل المرأة الشابة التي كانت تتحداه بإصرار . فهي إما مجنونة , وأما أكثر خشونة مما تبدو عليه بكثير . كانت ترتدي قميص نوم من الساتان , ملتصقا علي جسدها بشكل مثير . أما المعطف الذي كان بإمكانها ستر نفسها به , فقد أحكمت لفه حول (صوفي)ليدفئها . حسنا , أن اشد النساء قساوة لهن نقاط ضعف . وهو أمر وجد نفسه هذه المرة فقط مرغما علي استغلاله لمصلحته . تقدم خطوة إلى الأمام. لكنها لم تتراجع , بل بقيت في مكانها و أخذت تحدق إليه . فقال : سأخذ (صوفي ) .
و إذا بالاهتمام يتوهج في عينيها بدلا من العداء . اخذ يقاوم شعوره بالذنب لما كان يوشك علي القيام به , لكن ابنته كانت في حاله لا تطاق و سيبذل كل ما في وسعه في سبيل سلامتها .
_تأخذها ؟
_لقد طلبت منا الذهاب .
ومد يديه إلى الطفلة , لكن (صوفي) شعرت بالانزعاج و أخذت تتذمر من النعاس بينما اخذت المرأة بها إلى الخلف و هي تضمها إلى صدرها , تؤنبه بحيرة ( لا . لا يمكنك إخراجها . إن حرارتها مرتفعه .)
_حقا؟ ووضع يده علي جبين الطفلة ثم هز كتفيه مذعنا ( قد تكونين علي حق . فقد مرت بأيام صعبه .)
ثم وضع يديه برفق تحت إبطي الطفلة كأنه يريد حملها , و قال ( لكن لا تقلقي , سنتدبر أمرنا بطريقة ما)
شعرت ( دورا) بقلبها ينفطر , وتبدى علي وجهها الصراع الداخلي الخاطف الذي أظلمت منه عيناها . كانت تريده أن يذهب , لكن ضميرها منعها من إخراج صوفي في مثل هذه الليلة الهوجاء . ثم قالت بعد أن انتصر ضميرها ( يمكنك أنت الذهاب , لكن ليس هي . أظنك كنت تريد تسخين بعض الحليب لها ؟)
.
نظر إلى علبة الحليب الكرتونية علي الخزانة إلى جانب زهرية تحتوي علي أزهار ذابلة حسنة التنسيق , علقت بقربها سترتان رثتنان علي مشجب خشبي .
كان المكان , في المرة الأخيرة التي زار فيها هذا الكوخ , عبارة عن غرفة صغيرة . لكنه الآن أصبح منزلا أنيقا من الحجر المتوج بالقرميد .
ارجع نظره إلى المرأة الشابة متوقعا , أن تطلب منه البقاء في أي لحظة , لأجل الطفلة . لقد آن الأوان لتذكيرها بأنه صديق ريتشارد . علق مصباحه اليدوي علي خطاف خلف الباب حيث وجده . كان هذا , علي الأقل , ما لم يتغير منذ رحلة الصيد تلك ... ثم التقط علبة الحليب ...
_نعم , هذا صحيح .
و أشار إلى الخزانة المفتوحة التي تحتوي علي الأحذية بدلا من المقلاة وغيرها من الأواني المماثلة التي كان يبحث عنها .
_كنت في الواقع ابحث عن قدر صغير لتسخين الحليب حين أقلقت راحتك . ماذا حدث للمطبخ ؟ ومتى ركب ريتشارد مولد الكهرباء ؟
أجابته (دورا) باختصار ( ليس هذا من شانك ).
بات واضحا لها الآن سبب تفحص الرجل للخزانة في الظلام , إذ لم يخطر له أن يبحث عن زر مصباح كهربائي . لربما رأى الكوخ من قبل , لكن ليس في ألاثني عشرا شهرا الماضيه لكن ذلك لا يعني أن ادعاءه معرفة ريتشارد أثار اهتمامها . إن أي شخص قريب من هذا المكان يعلم أن هذا الكوخ ملك لريتشارد ماريوت . ثم ما أهمية ذلك ؟ انه ما يزال مقتحما له .
قالت : ( لم اعرف اسمك ).
_جون غانون.
.
مد يده ليصافحها حسب العادة , كأنهما في حفلة كوكتيل وليس في مواجهة غريبة بعد منتصف الليل , كان ينبغي خلالها أن يكون منكمش بسهولة , بل العكس . فقد راحت عيناه تطوفان بإعجاب علي شعرها المشعث فوق المعطف الحريري المنسدل , و أظافر أصابع قدميها المطلية باللون الوردي . ثم نظر إلى وجهها , وقطب جبينه قائلا : ( هل تقابلنا من قبل ؟) .
لقد قابلت العديد من الناس حين عادت من البلقان . فكان الغرباء في الشارع يتحدثون إليها و الصحافيون يسعون وراءها ليكتبوا عن (تلك ) التي تركت عملها الاجتماعي لكي تقود شاحنات الإغاثة عبر أوروبا . إن اكتشف هويتها سيعرف أن الحظ حالفة لثقته برهافة إحساسها وطيبة قلبها . إن الحاجة إلى الهرب من هذا كله هي التي دفعت (دورا) للجوء إلى الكوخ فما الفائدة الآن من إثارة الموضوع ؟ من الأفضل إلا يتذكر أين رآها من قبل . لذلك تجاهلت يده الممدودة إليها . لم تكن تريد التزام التهذيب مع مجرم اقتحم بيت شقيقتها , رغم رقة صوته وعينية البنيتين وذقنه المشقوق بشكل جذاب , و إن كانت لم تحلق منذ أيام . كانت العينان البنيتان تطوفان بكل حرية علي تفاصيل جسدها . وبما أنها كانت تحمل الطفلة بين ذراعيها , لم تستطع التحرك بحرية لارتداء معطفها . لكنها عندما لاحظت عينيه المحدقتين في أظافر قدميها الوردية , أرجعت قدميها إلى الوراء وحجبتهما عن النظر وقالت : ( ليس الوقت مناسبا للتعارف ) .
أجابها بمرح باد على وجهه ( هذا صحيح . سأحاول بشكل أفضل ).
_لا تزعج نفسك .
.
فقال و هو ينظر إليها بتأمل (ليس من عادتي اقتحام البيوت عنوة . لكن من أنت ؟) .
حاولت (دورا) جاهدة كبت رغبة تملكتها في الاستفسار عن عاداته , وسألته : هل يهمك من أنا ؟ هز كتفه : ( لا أظن ذلك . لكن اسمحي لي بان أقول انك تعتبرين تقدما كبيرا بالنسبة إلى ما كانت علية إليزابيث . فهي ما كانت لتضيع وقتا على عمل تافه مثل طلاء أظافر القدمين .)
يا له من رجل قليل التهذيب . لم يكفه اقتحام البيت عنوه , بل اخذ يغازلها . ومع ذلك , بدأت تتقبل تدخله بحياة صهرها الخاصة . سألته مستفهمة ( إليزابيث ؟) .
-إليزابيث ماريوت , زوجة ريتشارد . تلك المرأة التي تنقصها المخيلة . ذلك النقص الناتج عن جشعها , والدليل علي ذلك تخليها عنه لأجل صيرفي .
_صيرفي؟
_اعني صاحب بنك , وليس الصراف الذي يجلس خلف المنضدة . لم أظن قط انه سيبيع بيته .
-ما الذي جعلك تظن انه باعه ؟
نظر حوله : هذا النوع من الأغراض لا يلائم ذوقه .
ابتسمت (دورا) بدورها : ربما أنت لا تعرفه جيدا كما تظن .
ألقى عليها نظره أخرى متأمله , ثم هز كتفيه : هل اسخن الحليب ؟ أم تسخنينه أنت ؟ أرى الأشياء كلها قد نقلت من مكانها .
لم يرد بذلك أن يريحها من حملها. بل وجد أكثر عرضه للإقناع وهي تحمل ( صوفي) بين ذراعيها .
-المطبخ من هناك.
.
نظر غانون حوله. كانت الألوان دافئة بلون الأرض . فقال وهو يمد يده إلى قدر نحاسية ويضعها بجانب الموقد : ( لقد توسعتم إلى داخل المخزن . هل بات كل شيء الآن بهذا الشكل ؟ )
_بأي شكل ؟
_بشكل الذي يحاكي ما نجده في مجلة (طراز العصر) .
_ أنا لا اقرأ أي مجلات من هذا الطراز . لهذا لا يمكنني الحكم .
لم يكن بالطبع في نية (دورا ) الخوض في حديث عن الديكور الداخلي مع لص وضيع . لكنها راجعت نفسها ... فالرجل من الارتياح و الرضا بحيث لا يمكن وصفه باللص الوضيع . أخذت تحملق إليه , لكنه لم يتأثر بذلك علي الإطلاق . بل هي التي كانت تبذل جهدا كبيرا لمواصلة التحدي . حولت نظرتها إلى الطفلة , وسألته : (هل قلت إن اسمها صوفي ؟ و هل هي ابنتك ؟).
_نعم
استدار ليسكب بعض الحليب في القدر . قالت بإلحاح : ( وهل تعلم أن حرارتها مرتفعه ؟)
_سبق أن ذكرت هذا .
_يجب أن يراها الطبيب.
_لدي بعض حبات من المضاد الحيوي لأجلها . كل ما تحتاجه ألان هو غذاء جيد وراحة تامة .
_هل هذه هي طريقتك في توفير هذا لها ؟ يجب أن تكون هذه الطفلة ألان في البيت مع أمها , وليس مع جوال يطوف بها الأنحاء في منتصف الليل ....
.
قاطعها قبل أن تقول رأيها في نوع الجوالين الذي ينتمي إليه هو , وألقى عليها نظرة جانبية تظهر جهلها بما تتحدث عنه : ( أهذا ما تظنينه ؟ ) .
من المحتمل أنها تجهل ذلك . لكن ما تعرفه جيدا أن علي (صوفي ) أن تكون ألان في بيتها . وعادت تنظر إلى الطفلة المرهقة التي توشك أن تستسلم للنعاس . كان من السهل أن تصعد بها ( دورا ) إلى غرفة نومها و تضعها في سريرها الدافئ . سألته ,وهي تقاوم بصعوبة الرغبة في القيام بذلك : ( كيف تعرفت إلى (ريتشارد ) ؟) .
_ كنا في مدرسة واحدة .
-حقا ؟
-حقا.
لم تكن (دورا ) تعلم تماما ما عليها توقعه . ربما تعارفا عن طريق عمل (ريتشارد) في مجال الأمن . أما أن يكونا في المرتبة نفسها , فهذا أمر يستدعي إعادة النظر فيه , لكن في المدرسة ! (ألما ميتر ) نفسها حيث يتعلم أولياء العهود . سألته مشوشة الذهن : ( من المؤكد انه يكبرك سنا ؟).
_بثماني سنوات أو ما شابة . كان هو صبيا من التلامذة القدماء بينما كنت أنا من تلامذة السنة الثانية الذين راحوا يرمونني بالكلمات الجارحة حين اكتشفوا أن أمي لم تكن متزوجة . لا أظن أن ذلك يحدث كثيرا هذه الأيام .
قالت وقد صعب عليها تصور هذا الرجل صغيرا عاجزا : ( لا . هل آواك ريتشارد تحت جناحه ؟)
_إن من طبعه حماية الضعفاء .
نظر إليها متسائلا (اعتقد أن ريتشارد يكبرك كثيرا . ما الذي يفعله لأجلك ؟ ) .
_أنا ؟
أضاف و هو ينظر إلى الإصلاحات المكلفة : ( لا أظنه يتحمل كل هذه المشقة ليؤجر البيت فحسب , فهل آواك أنت أيضا تحت جناحه الرقيق أم .....) .
كادت توضح له بسخط انه متزوج من أختها التي تكبرها بسبعة أعوام و حين قاطعها طرق حاد ومتكرر علي الباب الخلفي .
.
أنت تقرأ
أغنية كي يرحل للكاتبة ليز فيلدنغ
Romanceفي اللحظة التي اجتاز فيها غانون عتبة كوخها، فقدت دورا ما منحها الله إياه من عقل.... ليس السبب في مساعدتها له خوفها منه، ولا وقوعها أسيرة سحره المدمر... بل فقط من أجل الفتاة الصغيرة المريضة التي يحملها بين ذراعيه! لكن هل تخدع نفسها؟ إن رجلاً يختطف...