محكمة

5.6K 117 1
                                    

ارتدت يدا "غانون"عن "دورا" كأنه لمس جمراً ، ثم تراجع إلى الخلف مبتعداً عنها ما دام يملك القوة لذلك.
كانت ساحرة. لابد أنها كذلك. إن "دورا كاماناغ" تسلب قلوب الرجال بنظرة واحدة منها ليصبحوا أسراها، ثم يشكرونها على ذلك. يظن "ريتشارد" أنه أسعد الرجال، و"جون" يعرف لماذا. قد لا تكون "باندورا" هذه سبب كل المتاعب في العالم، لكنها نوع من المتاعب على كل رجل عاقل أن يهرب منه.
شتم "غانون" أضلاعه المتصدعة، والأعراض الأخرى التي أضعفت جسمه حتى أعجزته عن الهرب ، والإنهاك الذي أضعف عزيمته إلى حد جعله لا يريد ذلك.
التقط الحبوب التي تركها له الطبيب، بينما استدارت "دورا" لتملأ له كوباً من الماء. كان من المفترض أن يشعر بالتعزية لرؤية يديها ترتجفان كيديه، لكنّه لم يشعر بالتعزية. وعندما ابتلع حبتين من الدواء، لم يكن واثقاً، من أنّه سيساعده كثيراً. كانت ألامه الجسدية مجرد عارض جانبيّ، مقارنة مع الألم الدائم في قلبه.
- "جون"...
كان يكره أن يسمعها تلفظ اسمه بهذا الشكل المتردد، البالغ الرقة. يكرهه ويتلهف إليه. واللهفة كانت الأسوأ.
- لا تقولي شيئاً، يا "دورا".
- أرجوك يا "جون".عليّ أن أخبرك بشيء.
لم يشأ أن يسمعها مهما يكن ما ستقوله.
- لا.
وأشاح بوجهه عنها فتمايل واهتز المطبخ حوله، فأخذ يدعو الله بصمت. . أرجوك، يا إلهي. ساعدني! وكأنما استجاب الله دعاءه، فقد أخذ جرس الباب يرن دون توقف. جمدا مكانهما لحظة، لا يأتيان حراكاً، ثم عاد الجرس إلى الرنين. فراحت "دورا" تسير عبر المطبخ. عندما مرت به، أمسك بمعصمها.
- عديني بشيء، يا "دورا".
همست بصوت أجش:
- لك ما تشاء.
.
- عديني بأنه مهما حدث لي، سترعين "صوفي"، وتحرصين على عدم إعادتها. .
أطلقت "دورا" شهقة صغيرة. ليس هذا بالرجل الذي يطلب المساعدة بسهولة. لكن، هاهو ذا يطلبها منها. . . يتوسل إليها.
- أعدك .
لكنّ عينيه الذهبيتين المتألقتين في وجهه المنهك طلبتا أكثر من ذلك.
- أعدك بأن أرعاها، يا "جون". سأبقيها سالمة لأجلك. وأقسم على ذلك.
- "دورا". . .
بقي لحظة طويلة يرتوي من جمالها الرقيق. كان يعلم أن عليه أن لا يلمسها. . . وأنه لو لمس وجهها ولو بطرف إصبعه سيؤدي به ذلك إلى ارتكاب حماقة، خيانة للصداقة. لكنه لم يستطع أن يمنع نفسه.
كان يرتجف شوقاً إليها، ولهفة إلى وضع ذراعيه حولها وإلقاء رأسه على كتفها، ونسيان نفسه في حلاوة دفئها. لكنه دعا الله طلباً للعون وها قد استُجيب دعاؤه. فإن هو أمسك بها الآن ستحلٌّ عليه اللعنة إلى الأبد.
رأت "دورا" المعركة المحتدمة في داخله. رأت عينيه تغيمان بالحرارة التي تفيض منهما فأدركت أنها كلها انعكاس لمشاعرها هي. لماذا ؟ إن "جون غانون" رجل غريب، رجل مليء بالأسرار. ومع ذلك، في اللحظة التي أضاءت فيها النور في مطبخ الكوخ  وسمعته يشتم مجفلاً، شعرت بذلك الخفقان غير العادي في قلبها. لقد سمعت ذلك الصوت الداخلي، الهادئ كأنفاس الطفل، متواصلاً كقطرات المطر، (هذا هو. . .إنه هو. . .هذا هو رجل منتصف الليل الذي يأتي في أحلامك الخفية. الرجل الذي ستتذكرينه حتى الموت ولو عشت مئة عام). أي شيء لم تجازف بعمله لأجله؟
كانت حرة تماماً ولديها البرهان على سرقته للطائرة، لكنها لم تغدر به. فقد عادت إلى الكوخ و واجهت رجال الشرطة الذين كانوا في انتظارها. ثم ذهبت تبحث عنه لكي تساعده وتساعد "صوفي".
رفعت يديها تحيط بهما وجهه. كان وجهه شاحباً. ولم تكن واثقة من منهما كان يرتجف أكثر. كل ما كانت تعرفه هو أنها ستحرك السموات والأرض لكي تسوّي أموره.
- "جـون". . .استمع إليّ. علي أن أخبرك شيء. إنه يتعلق بي و بـ "ريتشارد". إن ما عرفته عن هذا الأمر كلّه خطأ...
عاد الجرس إلى الرنين، وهذه المرة كان مرفقاً بدقات حازمة، فقال وهو يدفعها عنه:
- إنها الشرطة، يا "دورا". اذهبي قبل أن يحطموا الباب.
- الآنسة كاماناغ؟
.
لم يكن ثمة حاجة للبطاقة التي مدّ الرجل بها إليها. أدركت بالرغم من بذلته الأنيقة وربطة عنقه الحريرية، أنه كان "مفتش التحري رينولدز". ولم يكن وحده بل معه "الشرطية جونسون".
- هل يمكننا الدخول؟
والتفت إلى المرأة الشرطية يعرفهما ببعضهما البعض.
- هل لديك رخصة بالتفتيش ؟
كانت جامدة في مكانها محاولة أن تفكر.
- لم أتصور أنني سأحتاج إلى واحدة، يا آنسة "كاماناغ".
أريد فقط أن أتحدث إليك. إلا إذا كنت تفضلين الذهاب إلى المخفر. . .
- هذا ليس ضرورياً، يا حضرة المفتش. أظنني سبب وجودك هنا.
- السيد "غانون"؟ السيد "جون غانون"؟
كان "غانون" متمسكاً بباب المطبخ، فأومأ بالإيجاب. فأخذ المفتش يتلو عليه، بشكل رسمي، المخالفات القانونية المتهم بها، مع كلمات التحذير الرسمية المعتادة. منهياً بقوله:
- هلا تفضلت بالمجيء معي، يا سيدي. . .
فقالت "دورا" ساخطة:
- لا يمكنك أبداً أن تأخذه. ألا تراه مريضاً؟
- دعكِ من هذا، يا "دورا". لا تورطي نفسك.
وشهق ضاغطاً بيده على صدره وقد انتابه نوبة من السعال المؤلم.
- تباً لك، يا "غانون". فأنا متورطة فعلاً! (وعادت تواجه المفتش) لا يمكنك أن تأخذه وتلقي به في زنزانة. لن أسمح بذلك.
.
التفتت المرأة الشرطية إلى "غانون" تنظر إليه بإمعان، ثم قالت:
- إنه لا يبدو بصحة جيدة، حقاً، هل أصبت أثناء هبوطك بالطائرة، يا سيد "غانون"؟
كان جوابه أن ترنح "غانون" ثم تهاوى على الأرض ممدداً على السجادة.
انحنت "دورا" فوقه قبل أن تلتفت إليهما قائلة:
- أريتما؟ ماذا قلت لكما؟ هيا، استعملا ذلك اللاسلكي الذي تحملان واطلبا الإسعاف، الآن حالاً!
نظرت الشرطية إلى المفتش، لكنها لم تناقشها، وأخرجت جهاز اللاسلكي بينما كانت "دورا" تضع رأس "غانون" في حجرها إلى أن وصلت سيارة الإسعاف وأزاحها الممرضون بلطف ليتمكنوا من قياس النبض والتنفس ثم يضعونه على المحفة.
- أي شيطان. . .
رفعت "دورا" بصرها لترى شقيقها واقفاً على عتبة الباب المفتوح:
- "فيرغس"! ما الذي تفعله هنا؟
- تلقيت مكالمة من مفوض الشرطة يقول فيها إنك تجتازين مشكلة، فجئت لأرى أي نوع من الهراء أقحمت نفسك فيه الآن.
اندفعت تعانقه وهي تبكي وتضحك في وقت واحد:
- آه يا "فيرغس". لقد جئت في وقتك. (والتفتت إلى رجال سيارة الإسعاف) إلى أين تأخذونه؟
فأخبروها باسم أقرب مستشفى:
- هل تريدين المجيء معه ، يا آنسة ؟
.
طبعاً تريد. أنها لا تريد أن تدعه يغيب عن نظرها. لكنها لا تستطيع أن تترك "صوفي" حتى ولو جلس معها "فيرغس". إذا استيقظت الطفلة وأدركت أن والدها ليس موجوداً، ستكون بحاجة إلى شخص تعرفه، شخص تثق به.
- لا أستطيع ترك الشقة حالياً، لكنني سآتي حالما أستطيع. أخبروه بذلك حين يستيقظ، من فضلكم.
عند ذلك سألها "فيرغس":
- من هو هذا، وماذا جرى له؟
فقال أحد الممرضين:
- يبدو كأن لديه التهاباً رئوياً، يا سيدي. لكنه سرعان ما سيشفى.
قال المفتش بهزة من رأسه يخاطب الشرطية:
- اذهبي معه، يا "جونسون". ليس السيد "غانون" من نوع الرجال الذين يدعون الالتهاب الرئوي يعيقهم مدة طويلة.
فسألته "دورا" غاضبة:
- لماذا تقيد يديه إلى الحمّالة؟
- "دورا".
اقترب منها فيرغس بلطف وهو يضع ذراعيه حولها، ويقودها باتجاه غرفة الجلوس.
- لم لا تخبرينني عما كان يجري هنا؟ فلربما نستطيع القيام بشيء في هذا السبيل.
- عفواً يا سيدي. لكن، إن لم يكن لديك مانع، علّي أن أوجه إلى السيدة الشابة عدة أسئلة. أولاً هل الفتاة الصغيرة هنا، يا آنسة "كاماناغ"؟
لكن "فيرغس" تدخل قائلاً: "ومن أنت؟".
عندما أخبره المفتش، عاد يقول:
.
- حسناً، يا حضرة المفتش. إن شقيقتي في حالة صدمة. ولن تجيب عن أيّ سؤال قبل وصول محاميها. فإذا شئت أن تنتظر في صالة الانتظار في الأسفل، فأنا واثق من أن الناطور سيحضر لك كوب من شاي.
- آسف يا سيدي، لكن عليّ أن أعلم. هل الطفلة هنا، يا آنسة "كاماناغ"؟
- إنها نائمة، يا حضرة المفتش وأرجوك أن لا تزعجها.
- عليّ أن أبلغ مؤسسة الخدمات الاجتماعية. . .
وضعت "دورا" يدها على فمها:
- لا! لا يمكنك أن تأخذها من هنا. لقد وعدت "جون" بأن أرعاها.
- آسف يا آنسة، ولكن. . .
أدركت "دورا" أن المشاعر لن تفيد، فقالت:
- طلب مني والد "صوفي" بأن أهتم بابنته إلى أن يتمكن من القيام بذلك بنفسه. . .
- والد؟ المعذرة يا آنسة، لكن ذلك يتطلب إثباتاً. . .
كررت "دورا" قولها بصبر:
- لقد أخذوا والد "صوفي" إلى المستشفى للتو. وأنا الشخص الآخر الوحيد في هذه البلاد الذي تعرفه. وإن أنت أخذتها مني ستخاف وتشعر بالوحدة. وقد وعدت "جون غانون" بأنني سأرعاها، وسأفعل.
فقال "فيرغس" متدخلاً:
- في الواقع، يا حضرة المفتش، إن أفضل شيء لأختي وللطفلة هو أن يعودا معي إلى "مارلكورت".
وأخرج "فيرغس" بطاقته :
- أظن أنَّ بإمكانك أن تأخذ كلمتي وعداً بأن تقدم أختي نفسها إلى مخفر الشرطة مع محاميها صباح غد.
نظر مفتش الشرطة إلى بطاقة "فيرغس". ثم قال بضيق:
- صدقني، لست من يقرّر، يا سيدي.
- ليس عليك ذلك.
رفع سماعة الهاتف وقدمها إلى الرجل:
- اتصل بمفوض الشرطة وأنا واثق من أنه سيكلفني.
كادت "دورا" تشعر بالرثاء للرجل. فالتعامل مع شابة مضطربة هو شيء، والتعامل مع "فيرغس كاماناغ" ذي الطبيعة المستبدة، هو شيء أخر. قد تتخطى أختاه حدود اللياقة معه، وقد تغيظانه عندما ينشغل بهما ويقلق لأجلهما. لكنه بالنسبة إلى الغرباء هو رئيس "مؤسسة كاماناغ الصناعية"، وستحل الكارثة عليهم إن هم نسوا ذلك. . .
- هل تريد أن ترى "صوفي" لتطمئن إلى أنها بخير؟
فبدا على الرجل الارتياح:
- هذا سوف. . .(وأبدى إشارة تعني أنه قال كل شيء. كانت صوفي تنام بسلام وقد تأبطت دميتها). شكراً، يا آنسة. عليّ أن أبلغ "مؤسسة الخدمات الاجتماعية" بمكانها، طبعاً. وسأتركهم يوجهون أي اعتراض قد يكون لديهم، إلى السيد "كاماناغ".
.
سألت المفتش وهي ترافقه إلى الباب:
- كيف علمتم أن "جون" هنا؟
- آه، أنها الثياب. لقد اشتريت للطفلة بعض الملابس وقد أخبرت الشرطي الذي حقق معك أنها لابنة أختك. . .
- ابنة أخت زوج شقيقتي.
- نعم، وعندما وضع تقريره، عرف رئيس المخفر أنك كاذبة لأن زوجته كانت تذهب إلى عيادة الحوامل مع السيدة شيلتون، وهذا يعني أن ابنة أخت زوج شقيقتك عمرها فقط ستة أشهر. أما الثياب التي اشتريتها أنت فهي لطفلة أكبر بكثير من هذه السن.
ضحكت "دورا" ساخرة:
- لا أظنني سأكون مجرمة ناجحة، أليس كذلك ؟
- لا أرجو لك ذلك، يا آنسة!
***
في الصباح التالي، طلب "فيرغس" من سائقه أن يمرّ بهم إلى المستشفى عند عودتهم إلى "مارلكورت"، وذلك لكي تزور "دورا" و"صوفي" "غانون". وقد اتصلت بهم قبل ذلك فقيل لها أنه أمضى ليلة مريحة. . لكن لا شيء أكثر من هذا. أشاروا لها إلى الجناح الذي يرقد فيه، لكنها لم تستطع أن تراه، فسألت الممرضة المشرفة على القسم:
- إنني أبحث عن جون غانون. كانوا قد أحضروه في الليلة الماضية.
انحنت ثم حملت صوفي التي كانت تتململ عند ركبتها.
- ومن أنت ؟
- "دورا كاماناغ". وهذه ابنته "صوفي".
- آسفة يا آنسة "كاماناغ". لكن السيد "غانون" قال إنه لا يريد زائرين.
حدقت"دورا" إلى الفتاة لحظة، ثم قطبت جبينها: "المعذرة؟".
- إنه لا يريد زائرين.
- لكن. . .لا أفهم، فهذه ابنته. . . لا بد أنه يرغب في رؤيتها.
لكن الممرضة لم تتزحزح عن موقعها.
- أنا آسفة.
.
لم تستطع "دورا" أن تستوعب ما كانت تقوله الممرضة، وأخذت تنظر حولها كأن "غانون" قد يبرز فجأة بشكل ما، فينظر إليها بتلك الابتسامة الكسولة. لكن هذا لم يحدث.
لم تفهم شيئاً. ثم عادت لتدرك أنها ربما فهمت. لابد أنه ظنهَّا قد غدرت به، وأنها اتصلت بالشرطة أثناء نومه. قد يجعله هذا غاضباً منها، أما أن يرفض رؤية "صوفي"!
راحت "صوفي" تبكي، فاحتضنتها "دورا" تواسيها. ربما ظن أنها ستخاف من المستشفى. وقد يكون على حق في ذلك، سألت بعجز :
- كيف حاله ؟
- لقد أمضى ليلة مريحة . سيراه الطبيب مرة أخرى في ما بعد.
أرادت "صوفي" أن تتمسك بمئزرها وتهزها وتقول لها إن عليها أن تراه لأنها تحبه. . . وإن عليها أن تخبره. . . لكن المرأة لم تكن تفعل إلا ما أمرها به "غانون".
- هل يمكنني أن أكتب له رسالة؟ أم أنه منع ذلك أيضاً؟
قالت الممرضة بشبه ابتسامة:
- ليس كما أعرف. أتريدين أن تكتبي شيئاً الآن؟
- نعم. (ثم عادت فقالت): لا! (كانت بحاجة إلى أن تجلس وتشرح كل شيء كما يجب. لا أن تخط بضع كلمات على ورقة. . .أو. . . ربما هذا. . .هذا سيصلح) في الواقع. . .
دفعت الممرضة إليها قلماً وقطعة ورق، وقبل أن تتوقف لتفكر، كتبت ببساطة (صوفي سالمة.أحبك، "دورا") ثم أضافت رقم هاتف "فيرغس" وقبل أن تطوي الورقة وتناولها للممرضة قالت هذه الأخيرة:
- سأهتم بإيصالها إليه.
- شكراً.
ألقت "دورا" آخر نظرة حولها، متلهفة إلى رؤيته من خلال باب مفتوح حتى ولو لم يكن يراها هو. لكنَّها اعترفت بالهزيمة وتركت المستشفى.
استطاعت أن تكبح انعدام صبرها بصعوبة إلى أن وصلت "مارلكورت"، مسقط رأسها، إلى المنزل الذي يعيش فيه "فيرغس" هذه الأيام وحيداً، دون رفيق سوى خدمه. . وكانت واثقة من أن "جون" قد اتصل بها ليقول إنه فهم، ويطلب منها أن تعود لأنه بحاجة إليها. لكنه لم يفعل.
تلقى "فيرغس" اتصالاً من محامي "غانون"، يرتب أمر "صوفي" لكي تبقى تحت وصايته إلى أن تصدر نتيجة اختبار الدم. قالت "دورا" له بغيرة:
- ولماذا أنت؟ إنه لا يعرفك ولم يقابلك قط.
- إنه يحميك، يا"دورا" فهو مدرك جيداً أنه ورّطك في كل أنواع المشاكل. لا أظنك تدركين تماماً معنى ذلك.
كان عليها أن ترضى. وكان عليها أن تكتب رسالة طويلة توضح له فيها كل شيء. تخبره عن "ريتشارد"، وعن زواجه من أختها. تشرح له لماذا لم تخبره بالحقيقة. ثم كيف اقتفى رجال الشرطة أثره، وعرفوا مكانها.
لكن، بعد ثلاثة أيام مرّت كأنّها الدهر كلّه، عادت إليها الرسالة دون أن تُفتح. فاندفعت بتهوُّر عائدة إلى لندن، مصممة على محاصرة المستشفى إلى أن يسمحوا لها برؤيته، لكن دون جدوى.
كان قد خرج من المستشفى على مسؤوليته ولم يعد لديها أدنى فكرة عن مكانه. لكنَّ محاميه لم تدهشه رؤيتها، كما يبدو. لكنه هو أيضاً كان مقيَّداً بالأوامر، فلم يستطع مساعدتها.
.
كانت "دورا" تقف خارج مكتبه، تجهد ذهنها رافضة الاعتراف بالهزيمة. ظهرت موظفة الاستقبال التي قدمت لها فنجان قهوة عندما كانت تنتظر الدخول إلى مكتب المحامي. كانت امرأة شابة قرأت عن "دورا" في الصحف وأظهرت اهتماماً كبيرا بمرافقتها لقوافل الإغاثة. واقتربت منها تسألها:
- هل سبق أن ذهبت قط إلى المحكمة المحلية، آنسة كاماناغ؟
عقدت دورا حاجبيها:
- المحكمة المحلية؟
- أنا واثقة من أنك ستجدينها ممتعة. يوم الجمعة القادم، مثلاً. عند الساعة العاشرة تقريباً.
***
أمضت "دورا" الأسبوع التالي في تسلية "صوفي" متحدثة إليها طوال الوقت إلى أن أصبحت قدرة الطفلة على فهم اللغة الإنكليزية لا تُصدّق.
أخذتها معها للتسوّق، وحين أصبح الجوّ دافئاً، كعادته في شهر آب، أخذتها تعلمها السباحة في بركة سباحة "فيرغس".
لكنّها لم تتوقف عن التفكير قطّ في يوم الجمعة، آملة أن ترى"جون"، رغم خوفها من أن يكون غير راغب في رؤيتها مرة أخرى. لكنها ستجعله يصغي إليها. فهي تحبه.
- أسبح، "دورا"! "صوفي" أسبح.
كانت "صوفي" راكضة نحوها وفي يدها (نفاخات) السباحة لكي تنفخهما لها. فحملتها ووضعتها على ركبتيها تدغدغها حتى أخذت الطفلة تصرخ ضاحكة. كانت تصدر عنهما جلبة صاخبة جعلتهما لا يسمعان وقع الأقدام خلفهما.
- ما هذا كله؟
-"بوبي"، "ريتشارد"!
حملت "دورا" "صوفي" بيد واحدة، ثم عانقت أختها وصهرها بالذراع الأخرى.
- ما أجمل أن أراكما. متى عدتما؟
- الليلة الماضية. مرحباً يا حلوة.
قالت بوبي للطفلة برقة وهي تدعك وجنتها بلطف: "سمعت أن أحداثاً هامة تمرّ بكم"
قلبت "دورا" شفتها:
- لقد تحدثتما مع "فيرغس"؟
- نعم. هل يمكننا القيام بشيء؟
- هل تأخذاني إلى لندن غداً؟ ليس لديّ سيارة هنا ولديّ موعد في المحكمة المحلية.
- ماذا بالنسبة إلى "فيرغس"؟ ظننته قد تولّى زمام كل شيء؟
ما كان أخوها ليتأخر لو كان الأمر يتعلق به. لكنه كان مصمماً على أن تبقى بعيدة عن هذا الأمر.
- هذا صحيح. لكن هل تعلمين يا "بوبي" أنه نسي، بشكل ما، أن يذكر أن محاكمة "جون" ستكون غداً؟ ما هو السبب في رأيك؟
- هل سألته؟
.
- لا. ولم أخبره بأنني أعرف ذلك. ولو أخبرته لحرّك السماء والأرض لكي يمنعني من الذهاب.
- إنه فقط يريد أن يحميك، يا "دورا" أنتِ تعرفين الصحافة. . .لقد ذهبت إلى الكوخ هاربة منها. . .
- لا تهمني الصحافة. إنني ذاهبة سواء جئت معي أم لا.
- أنا لم أقل إنني لا أريد. لكن ... حسناَ، إنني، في الواقع، لا أستطيع. لدي اجتماع لا يمكنني أن ألغيه. . . وهو سبب عودتنا من الولايات المتحدة مبكرين. لكننا سنأخذك إلى المدينة، فأنزل أنا هنا وتذهبين أنت مع "ريتشارد" إلى المحكمة، أليس كذلك يا حبيبي؟
فقال:
- ما من مشكلة. لكن، ماذا بالنسبة إلى هذه الحلوة الصغيرة؟
- السيدة "هاريس" سترعاها. إنهما صديقتان حميمتان.
فضحكت بوبي:
- أراهن على ذلك. فالسيدة هاريس محبطة الأمومة، وانشغالها بهذه الصغيرة هو مكانها الطبيعي. أتظنينها ستحبني؟
- امنحيها فترة تعتاد فيها عليك. كنا نهمُّ بالنزول إلى البركة للسباحة. .لم لا تنضمين إلينا؟
ألقت "بوبي" على الماء نظرة شك فقالت "دورا":
- لا بأس بذلك. فقد فتح "فيرغس" الماء الساخن لأجل "صوفي".
- آه لابد أنه وقع في حبها، هو أيضاً. سأذهب لتغير ملابسي.
ثم ذهبت باتجاه غرفة تغيير الملابس، ترفل ثوب رائع من الحرير بلون القشدة والمشمش.
سألها"ريتشارد":
- كيف حال "جون"؟
- خرج من المستشفى، وعدا ذلك لا أعرف شيئاً عنه. إنه...
لم تستطع أن تكمل. . .لم تستطع أن تقول: إنه لا يريد أن يراني. فضّل البقاء بعيداً، لأجل قضية المحكمة.
أحس ريتشارد بترددها، فقال:
- لكنه ترك ابنته معك.
- مع "فيرغس"، في الواقع.
.
رفع "ريتشارد" حاجبيه، فابتسمت: "مؤسسة الخدمات الاجتماعية" أرادت أن تأخذها وتضعها في دار للعناية إلى أن تنتهي إجراءات إثبات الأبوة. لكنك تعرف "جون" اتصل ببعض الأصدقاء. ومن ثم أصبح حاله أفضل مما كان متوقعاً.
- ولديه جلسة في المحكمة غداً؟
- نعم. وأنا خائفة جداً يا "ريتشارد". قال إنهم يريدون أن يجعلوا منه عبرة لغيره منعاً من أن يتشبه به الآخرون.
وأخذت ترتجف فجأة بشدة جعلتها تضع "صوفي" على الأرض: " هل من الممكن أن يرسلوه إلى السجن؟".
- ستتغلبان على الصعاب. إنكما قويان بما يكفي لمواجهة ذلك. هيا، لا تدعي الطفلة تراك تبكين. ما اسمها؟
- "صوفي".
- إنها تشبه" جون" بشكل محيّر، كما ترين.
- حقاً؟
ضحكت وهي تذرف الدموع.
- عندما كان طفلاً، كان هزيلا ورزيناً. ماذا حدث لأمها. هل تعلمين؟
- أعلم أنها ماتت، فقط.
كان في صوتها كل الشكوك. فهي لم تستطع التخلص منها تماماً.
- لا بأس به، يا" دورا" إنّه رجل جيد.
- حقاً؟
كيف أمكنها أن ترتاب بأمره؟ لقد جازف بكل شيء لأجل "صوفي". لو أنها فقط استطاعت أن تثق به كلياً، لكان هنا معها الآن. . . معها ومع "صوفي".
أومأ "ريتشارد"، كان سؤالها مجرد كلمة تلقى دون انتظار جواب. ثم جلس القرفصاء ومدّ يده.
- كيف حالك يا "صوفي"؟ أنا " ريتشارد". أنا أعرف "بابا".
حدقت "صوفي" إليه لحظة، ثم ناولته ( النفاخات ) لينفخها. ضحك "ريتشارد" وأطاع على الفور هذا الأمر الصامت.
***
.
كانت المحكمة المحلية مزدحمة. محامون ببذلات قائمة، وكلاء قضاء، شهود ينتظرون الإدلاء بشهاداتهم. وكان "ريتشارد" و"دورا" منحشرين في الشرفة المزدحمة وعندما ازداد توترها أمسك بيدها:
- هل ستكونين على ما يرام، يا "دورا"؟
- ماذا ؟ آه، نعم.
وإذا بها تراه هناك، في قفص الاتهام. همست : " أواه، يا جون!".
وتشبثت بيد "ريتشارد" : " أواه، يا حبيبي المسكين!".
كان يبدو نحيلاً مرهقاً، إلى حدّ أسوأ مما توقعت. كان اللون الوحيد في بشرته ناجم عن تبدّد سمرته الناتجة عن التعرض للشمس ما منحه لوناً أصفر يوحي بالمرض. وكان ثمة ظلال قائمة حول عينيه وتحت وجنتيه. حتى إنَّ الشق الذي في ذقنه بدا أعمق، وأكثر وضوحاً.
قالت وهي تنهض قليلاً:
- كم يبدو مريضاً!
لفتت حركتها انتباه "غانون" فرفع بصره. .حدق إليها لحظة، ثم حوّل نظراته عنها متعمداً، ناظراً أمامه عندما بدأ القاضي كلامه:
- "جون غانون". لقد اعترفت أنك مذنب بالنسبة إلى التهم الموّجهة ضدك. .
سألت "دورا" بدهشة:
- متى؟ متى فعل ذلك؟
نظر "ريتشارد" إليها:
- الأسبوع الماضي بكل تأكيد. . .
رفع القاضي بصره إلى الشرفة بفروغ صبر، منتظراً الصمت. وعندما ساد السكوت، تابع يقول:
- لقد تلقيت عدداً مؤثراً من التقارير تشيد بصفاتك الحميدة، والظروف المخففة في هذه القضية. لكن، عليّ أن أقول، يا سيد "غانون"، إنك في لهفتك لتخليص ابنتك من مخيم اللاجئين، قد أظهرت عدم اكتراث متهوِّر وطائش بالقانون. . ( تابع الرجل قراءة القائمة بصوت منخفض رتيب، بدت معه لـ "دورا" التعسة أنها تحتوي على كل جنحة أو عمل بسيط قد يكون "جون غانون" ارتكبه منذ أن ترك المهد). و استناداً إلى هذا كله، ليس أمامي من خيار سوى الحكم عليك مدة ستة أشهر. . .
- كلا!
.
صرخت "دورا" وهي تقفز واقفة قبل أن يتمكن"ريتشارد" من منعها: " كلا!".
اندفع هذا الصوت من الشرفة الصغيرة المزدحمة إلى قاعة المحكمة حيث التفت الجميع ينظرون إليها.
- ستة أشهر.
كرر القاضي قوله، محملقاً في "دورا"، يتحداها أن تقول كلمة أخرى.
لكنها كانت أضعف من أن تقول شيئاً وهي تنهار على صهرها لا تعي شيئاً.
بقيت للحظة لا تدري أين هي، ولا ماذا حدث. ثم اندفع هول ما حدث إلى ذهنها دفعة واحدة، فحاولت أن تجلس.
- يجب أن أراه.
حملقت إلى الرجل الغريب الذي كانت يده القوية تمنعها من الحركة.
عادت تقول بسرعة :
- "جون غانون" يجب أن أراه، الآن.
- لا يمكنك ذلك، مع الأسف، يا آنسة. فقد ذهب .

أغنية كي يرحل للكاتبة ليز فيلدنغ حيث تعيش القصص. اكتشف الآن