الجزء 09

73 0 0
                                    


كانت العصافير تملأ الجو تغريداً في ذلك الصباح البهيج في مباني جامعة الخرطوم العتيدة.. صابر وهند يسيران في أروقة كلية القانون والسعادة لا تسعها انتهاء المشوار الطويل وبرزت مشاريع والعمل والزواج أمامهما طريق ممتد في معالم لا نهائية.. جلسا في الكافتريا الهادئة يحتسيان عصير الليمون ويتسامران في المواضيع التي تهم كل خطيبين.. حدقت هند في قطعة الثلج التي كانت تدور في كوبها مع اهتزاز يدها المستمر

- أنتهت أيام الدراسة السعيدة يا صابر..

وجه إليها صابر نظرة حب عميقة، إنها ابنة عمه وزواجه منها أضحى من البديهيات التي لا تقبل الجدل.. منذ أن انتشله عمه عبد اللطيف من قريتهم الكئيبة لم يعد مرة أخرى ولم تجدي توسلات أمه آنذاك بالعودة معها.. كان يرسل خطابات من حين إلى آخر، صابر إنسان طموح.. لكن طموحه من ذلك النوع الخطر الذي يجعلك تتخلى عن كل شيء يربط بالماضي.. إن قريته كانت بمثابة الشوكة في أحلامه الوردية التي ظل يخطط لها وينسق لها سنين عديدة.. كثيراً ما كانت هند تناوشه بتذكيره لأهله وأسرته في القرية فيبين الامتعاض على وجهه ويعاتبها على ذلك..- نعم مرت الأيام كالخيال والأحلام.هند التي يعرفها جيداً تطرقت إلى الموضوع الذي يكره سماعه.

- هل ستعود إلى أهلك في طيبة ؟!

نظر إليها في عتاب.

- لم يعد لي أهل غيركم.. لك أن تتصوري إذا كنت لازلت هنا ماذا كنت أفعل الآن؟!

ضحكت هند وهي تتخيل صابر يعمل في المزرعة أو يدفع أمامه قطيع من الأغنام إلى المراعي جوار البلدة.

- ولم تأتي أمك ثانية منذ أن رفضت الرجوع معها.

- أرجوك يا هند، دعك من هذا .. أنا صابر صهر المستشار عبد اللطيف، لا داعي تذكريني بأشياء عفى عليها الزمن.

انفقا الساعات يتحدثان في مشاريع زواجهما المرتقب، سيفتح مكتب محاماة مستغلاً نفوذ عمه الجبار حتى يصبح محامي كبير يشار له بالبنان ثم ينجبا أطفال أصحاء متعافين يقومان بتربيتهم بالطريقة الحديثة، تعلم اللغة الانجليزية في الثالثة واللغة الفرنسية في الخامسة، سبحا في أحلامها طويلاً حتى تعالى آذان الظهر، نهض متجهين إلى مسجد الجامعة لأداء الصلاة مع بقية أفراد تنظيمهم، كان انضمام صابر إلى هذا التنظيم اليميني لشيء في فؤاد أم موسى.. في سبيل طموحاته المريضة ألقى جانباً كل ثقافته الاشتراكية التي تلقاها في سنين طفولته الأولى على يد المرحوم ود الزين، عندما كان ود الزين يقوم بتعليم أهل البلدة من جميع الفئات مبادئ الأفكار الاشتراكية، كانت اشتراكية ود الزين صوفية نابعة من وحي الآية الكريمة (ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون).. لا زال صابر يذكر أن ود الزين لا تفوته صلاة في المسجد، كان لكلامه مفعول السحر في نفوس أهل البلدة اللذين يكنون له كل احترام.. أفزع صابر خاطر آخر.. تذكر عندما عاد عثمان ود البشير بعد أن تخرج من جامعة الخرطوم، جاء وهو يرتدي ملابس التخريج الغريبة التي جعلته أشبه بالخفاش، كانت مثار ضحك أهل القرية والأدهى من ذلك أن كلاب أبيه الجزار لم تعرفه فأخذت تطارده وتعوي خلفه وهو يجري ويتعثر وينظر إلى الجميع في إزدراء، تعثر وسقط على التراب وعضه أحد الكلاب في مكان حساس جعله يتلقى علاج السعر المؤلم في مستشفى المدينة، ومنذ تلك الحادثة لم يعد ابداً إلى البلدة.. وأصبحت قضية يتداولها أهل البلدة على كالأساطير.. صابر لا يريد أن يلقي هذا المصير البشع. آثر أن يسدل الستار على الماضي الذي راح وانطوى.. لا بد أنهم في القرية قد نسوا صابر وبدأوا يتداولون أسطورة جديدة.

الساقيةWhere stories live. Discover now