الجزء 08

71 0 0
                                    


في ذلك الصباح وأشعة الشمس الذهبية تتسلل بين أوراق شجر النخيل الجافة.. أسراب من الطيور المهاجرة تلوح في الأفق بعيد، كانت ملكة تجلس تحت الشجرة التي تساقطت أوراقها ولم تعد ذات قيمة افتقدت الظل والإخضرار.. ظلت ملكة تحملق في ذهول في مزرعتها التي أدركها الجفاف وكادت تصبح صعيداً زلقاً.. لاح في الأفق ابنها شريف وصديقه كمال ابن التاجر إبراهيم وهم يرتديان زي المدرسة الثانوية في البلدة المجاورة. كان حمارها الهزيل يرقد عن كثب يلوك الأعشاب الجافة في امتعاض. جلس شريف وكمال جوار ملكة ووجهها يقطر بالإحباط، نظرت لها متسائلة.

- ماذا حدث .. الا توجد مدرسة اليوم؟!

أجابها شريف في حنق شديد وهو يمسح العرق الذي كان يتصبب منه.

- لا يوجد خبز اليوم ولم يتمكن العديد من الطلاب الحصول على وجبة الإفطار.

تنهدت ملكة في أسى وأخذت تحملق بعيداً.- إلى متى سيستمر هذا الحال.. الجفاف ساد المكان، احترقت المزارع عن بكرة أبيها، انعدم الوقود الذي يحرك ماكينة رفع المياه من النيل.ثم أردفت ملتفتة إلى كمال في نبرة عتاب.

- إني لا أرى سبباً واحداً يجعل والدك يخزن الوقود ويبيعه في السوق الأسود .. أنه الثراء الحرام بعينه..

أومأ كمال موافقاً في حياء شديد، فقد كان وهو نفسه غير راضي عن تصرفات والده التي تتسم بالأنانية والجشع، فهو يقوم بإحتكار كل شيء من الدقيق إلى البترول.

- أنا آسف جداً لكم جميعاً.. أنه أبي على كل حال.

ابتسمت ملكة في ود وهي تنظر إلى كمال الذي فاض الدمع من عينيه.. انها تعلم أن كمال ولد طيب.. حدقت ملكة بعيداً حيث كان يقف شاب نحيف وطويل القامة يقف عند سور المدرسة يكتب بالطلاء على الحائط.

- من ذلك عند سور المدرسة ؟!

-اظنه معاوية ود الزين.

التفت كمال وشريف ناحية المدرسة ثم انبرى شريف قائلاً في نبرة اعجاب.

- نعم أنه هو، يعمل مع البعثيين..

اردف كمال في توجس

- إنه مخلص كوالده المرحوم.. أني أخشى عليه أن يسمع بنشاطه رجال الأمن في المدينة..

أردفت ملكة في اعتزاز.

- انه كأبيه شجاع ..

كان والده رمز للوطنية والإخلاص طيلة حياته القصيرة في قريتنا، زينب أيضاً امرأة فاضلة.أخذ شريف يقلب صفحات كراسته حتى عثر على منشور.- قام معاوية بتوزيع هذا البيان ليلة أمس على طلاب المدرسة.تناول كمال الورقة وأخذ يقرأ لملكة التي كانت تستمع بشغف بعد أن تعلمت هذا النوع الجديد من الحياة.. نهض ثلاثتهم بعد اشتداد الهجير.. عبرو المزرعة الجافة وعند مشارف سور المدرسة حيوا معاوية الذي استدار إليهم مبتسماً.. ظلت ملكة تتأمله في اعجاب وطاف بذاكرتها عندما حضر الزين وزوجته زينب إلى القرية في ذات ليلة من ليالي يوليو الحارة. كان معاوية طفل رضيع، منذ أن حلت هذه الأسرة في القرية وحديث أهل القرية عنها لا ينقطع، كان الزين يعمل مدير للمدرسة الابتدائية.. رجل بمعنى الكلمة، ظل ملاذ القرية في أحلك الظروف.. حتى جاء اليوم المشؤوم.. ودع الزين أهل القرية في طريقه إلى الخرطوم، عندما تصعدت الأزمة السياسية في منتصف الستينات.. واندلعت ثورة اكتوبر . لم يدر الزين أنه كان يودع اسرته الصغيرة ويودع القرية الوداع الأخير، استشهد الزين في مظاهرات ثورة اكتوبر.. أصابه عيار ناري، مات متأثراً بجراحه وسطر للقرية تاريخ مشرق.. ومضت السنين وقامت زينب الحزينة بتربية ابنها معاوية، تربية وطنية على نهج والده لا يرضى بالظلم.. وقد كان.

الساقيةWhere stories live. Discover now