٧- حب لا تريده.

576 16 0
                                    

لم يكن الصباح في زانادو, بعد تلك الحفلة الليلة , يختلف عما يكون في لأي منزل أخر ..حيث
كان فريق التنظيف يدور في قاعة الرقص الكبيرة ,وفي المطبخ كانت مارغريت تعيد الأواني
والأدوات المتكومة إلى فوق رأسها , إلى مكانها.
راقبت أليدا الفوضى , ويداها على خصرها :
_هل هناك فرصة لتناول الفطور ؟ أم هذا مستحيل ؟
نزلت مارغريت عن مقعد خشبي مرتفع ,ومسحت يديها بمئزرها :
_الفطور .. اجل .. ولكن لست أردي أين ستأكلين .
صمتت قليلاً مفكرة ثم ابتسمت :
_لدي فكرة .. أخرجي في نزهة .. أجل ؟
_سأذهب في نزهة .. أجل! في الواقع لم أر من بالم بيتش شيئاً يذكر .. ربما أجد دراجة هنا ..؟
_يحتفظ كالب بدراجة في الكاراج للسيد بن .. بإمكانك استخدامها .. لماذا لا تذهبين
إلى الكاراج لتتفحصيها , بينما أحضر لك سلة نزهات ؟
وجدت الدراجة خفيفة الوزن ,سريعة , اعجبتها كثيراً .وعادت لتجد مارغريت تقفل حاوية صغيرة , هكذا اندفعت بعيداُ عن زانادو متجهة إلى ممر الدراجات الشهير في بالم بيتش .
مرت بصف طويل من المباني المرتفعة .. كان رياضيو الصباح يركضون في ممر للمشاة ملحق بالشاطئ .. حين اقتربت من الجسر الذي يقطع "لايك وارث"رأت أن ممر الدراجات المعبد , يسير بمحاذاة المياه الزرقاء الساكنة.
لم يكن هناك راكبو دراجات غيرها في الممر .. وهذا ما جعلها تستمتع أكثر في جولتها ..كان الجو عابقاً برائحة الملح , والشمس تلسع ظهرها , توقفت عند مقعد خشبي مواجهة الخليج.
أعجبها المكان بهدوئه وخلوه من البشر , فاختارته لتناول فيه فطورها , وقررت أن تجلس
على الأرض وتضع الطعام على المقعد الخشبي .
فتحت السلة لتجد قطعة قماش رقيقة مضلعة فرشتها فوق المقعد .. ثم وزعت الطعام فوقها,
وصبت عصير برتقال طازج من إبريق عازل .
بعد الوجبة الفطور أحست بالشبع والارتياح , فأغمضت عينيها وأسندت ظهرها إلى المقعد , تنعم دفء الشمس.
قال لها صوت :
_آه .. أنت أفضل حلاً الآن كما أرى .
فتحت عينيها .. وجدت رجلاً مسناً بهالة شعر بيضاء ينحني أمامها .. لم تجد صعوبة في تذكره , إنه تشارلز والترايت الذي حاول مساعدتها ليلة أمس في الحفلة , صديق زانادو كما قال بن .
ابتسمت له بارتباك ورفعت يدها تغطي عينيها من وهج الشمس .
قال :
_ أتسمحين لي بالانضمام إليك ؟ أنا أمارس المشي الصباحية .. لكنني أحياناً أتوقف لأرتاح .
_اجل .. تفضل .. يجب أن أسألك الصفح عن تصرفي غير اللائق ليلة أمس .. لاشك
أنني بدوت مثل ساندريلا الهاربة من الحفلة الراقصة .
ضحك الرجل المسن :
_ربما .. ثم إنني أرسلت الأمير الوسيم ليفتش عنك .. فهل وجدك ؟
ردت بخفة :
_أجل ,لكن الحذاء الزجاجي لم يناسب قدمي وابتسم تشارلز والترايت :
_أرى أنك لست جميلة فقط .. بل جريئة كذلك .. من الأفضل لبن أن يجد حذاء زجاجياً آخر
يناسبك .. آه.. كدت أنسى بما أننا لم نتعارف رسمياً يجب أن أقدم نفسي ..
أنا تشارلز والترايت .. وانت كما عرفت أليدا برايس .
_أنا سعيدة للفرصة المتاحة لي لأظهر لك أنني لست حمقاء طائشة كما بدوت بالأمس .
_كان معك كل الحق في ذلك الإحساس , فالأميرة غالباً ما تتمادى في الاستهتار بمشاعر الأخرين
لم تعلق فقد قررت تبني أسلوب بن في تجاهل سلاطة لسان الأميرة .. وأكمل تشارلز :
_أرجو ألا تعممي حكمك على الأميرة ليشملنا جميعاً , واعلمي أن معظمنا أشخاص طيبون
في بالم بيتش .. اخبريني أليدا , ألديك وقت فراغ هذا الصباح ؟ أريدك أن تأتي معي إلى منزلي .
أعجبت أليدا تشارلز .. وظنت أنه من الممتع حقاً قضاء بعض الوقت معه , لكن من الممكن أن يحتاجوا إلى مساعدتها في زانادو ..
فبدأت تقول مترددة :
_حسناً .. انا ..
_لاطفي رجلاُ مسناً أليدا .. ثم إن لدي شيء مثير للاهتمام أريك إياه .
قررت أليدا الذهاب معه وذلك رغم شكلها بأن تكون هذه دعابة .. فأعادت ترتيب سلة النزهة , ووضعتها فوق الدراجة , ثم جرتها إلى جانب تشارلز , تكيف خطواتها مع خطواته البطيئة..
بعد مسافة قصيرة وصلا قرب سياج مرتفع .. عند زاويته بوابه عالية .
أشار تشارلز إليها لتدخل طالباً منها أن تسند دراجتها إلى جذع شجرة .. أمسك يدها يقودها
إلى ممر مرصوف بالحصى , تتدلى فوقه مراوح النخيل الخضراء الرشيقة ..لمحت أليدا بركة صغيرة
من وراء ستار من النباتات الشوكية , وسمعت سقسقة الماء فوق الصخور .
بعد لحظة , رأت قمة مستنبت يرتفع فوق الأشجار وتوقف تشارلز عند الباب , ليفتحه .
كاد المنظر يخطف أنفاس أليدا .. المستنبت الزجاجي كان ممتلئاً بآلاف النباتات المزهرة من كل نوع وجنس ولون وحجم !
تنفست بذهول :
_كم هي جميلة ! لم أر في حياتي شيئاً كهذا !
_لقد تقاعدت في بالم بيتش منذ خمس وعشرين سنة ,اشتريت يوماً نبتة "أوركايديا" وحيدة .. لمجرد الفضول .. وأحببتها فاشتريت واحدة أخرى , ثم بنيت بيتاً زجاجياً صغيراً للاستنبات ,
وهذا مكنني من الحصول على المزيد منها .. حتى أصبح لدي أربعة مستنبتات , وخمسة آلاف
نوع من "الأوركاديا" ..
سارا معاً عبر المجال الأخاذ للمستنبت.
ثم دخلا دائرة معزولة من الأشجار , خرجا منها إلى بركة شاهدتها أليدا من الممر ..
شاهدت عدة بطات بيضاء تسبح بوقار على سطحها وكان بالإمكان رؤية السمك الذهبي
هنا وهناك يلمع تحت أشعة الشمس .
جلسا حول طاولة قديمة , مصنوعة من جذع شجرة سرو كانت تقف عند طرف البركة . أخرج
تشارلز عدة قطع خبز من جيبه وأعطى بعضها أليدا .. ثم أخذا يقطعان الخبز ويرميانه في الماء ,
حيث كانت البطات تلتقطه بسرعة .. ما هي ألا لحظات حتى ظهرت فتاة سوداء العينين
بثياب خادمة من مكان غامض من قلب الشجيرات الشائكة .وتركت لهما صينية شاي مثلج ,
وقطع كيك صغيرة على الطاولة .. ثم اختفت بالسرعة التي ظهرت فيها .
بعد أن انتهى الخبز, تجاهلت أليدا و تشارلز زعيق البط , واستقر في مقعديهما يراقبان
المياه تتدفق من شلا صناعي صغير , تتناثر رذاذاً في البركة تحته .
قالت أليدا مبدية أسفها :
_كان هذا رائعاً .. كنت بحاجة إلى الابتعاد عن زانادو قليلاً .
_يفهم من كلامك انك مأسورة في زانادو .. أو متورطة كثيراً في مشاكل بن .
إنه محق في ظنه , هذا ما فكرت فيه أليدا , ثم قالت :
_لكنني لا أستطيع منع نفسي من حب زانادو , والرغبة في إنقاذه .
_أفهم هذا .. كل من يحب زانادو يشعر بذلك , لكن لا تقلقي ..لدى بن عدة بدائل يمكن أن يجربها
وأنا لست مقتنعاً بعد بأن زانادو سيزول عن الوجود .
_أتعرف ان بن لا يثق بي وأنه يظن ان مايس جاء بي إلى زانادو لأكسب صداقة أخيه
كي أنقل إليه ما ينوي فعله ؟
هز تشارلز رأسه :
_قال لي بن شيئاً من هذا ليلة أمس .. ولقد نويت ان أقول له إنك فوق الشبهات , إذا كان هذا يريحك
فأنا أرى بلا ريب أنك تحبين زانادو .
أحست بامتنان لثقته فيها :
_شكراً تشارلز .
تابع مفكراً :
_أتعلمين ,, أن ارتياب بن بمن حوله خارج عن إرادته , إذ أنه عانى الكثير وعاش
طفولة تعيسة , وهو الآن على خلاف مع اخيه .. ولا تنسي أنه فنان , فنان ممتاز .. له مزاجية الفنانين.
_لا شك عندي انه فنان ممتاز .. لقد رأيت بعضاً من رسوماته التي تركت عندي تأثيراً كبيراً نادراً ما شعرت بمثله .
_لقد اشتريت بعضاً منها أنا وهو نتشارك اهتماماً بالفن والأنتيكات , وأحب ان أستثمر مالي مع
فنانين سينالون الشهرة يوماً .
قالت باقتناع :
_بن سيكون مشهوراً .. لا ريب في ذلك .
جلسا برهة بهدوء يراقبان جمال الحديقة .. قالت أليدا :
_يجب أن اذهب الآن .. لقد امضيت وقتاً جميلاً .
_سأرافقك حتى البوابة .
عادت على زانادو والسعادة تغمر قلبها , لم يكن التنظيف قد انتهى , فجلست مستقرة في هدوء حديقة المنحوتات تعرض نفسها لأشعة الشمس .. حملت معها كتاباً ومنشفة فرشتها على إحدى الدرجات الحجرية العريضة .
كان أمامها منحوتة رخامية مكتوب عليها انها من صنع "بولكا" ونوت ان تدرسها .. لكنها سمعت طقطقة
قفل باب وراءها .
قال مايس :
_ها أنتِ هنا .
التفتت إليه فوراً وغطت عينيها من وهج الشمس المنعكس على الجدار الأبيض .
_لم أكن أعرف أنك تبحث عني .
_كنت أرغب في وداعك قبل أن أسافر .
_وهل أنت مسافر اليوم ؟
_سأذهب إلى المطار بعد نصف ساعة .. مارغريت توضب لي حقيبتي الآن .
جلس قربها على الجدار المنخفض .. وأكمل حديثه :
_لقد افتقدتك ليلة أمس .
عادت بها الذاكرة إلى الأميرة وهروبها المتسرع , وتساءلت ماذا سمع مايس :
_ما ظننت أنك ستلاحظ أنني رحلت .
_ألاحظ ؟بالطبع لاحظت .. أردت الرقص معك .. لقد أحسست أنني خدعت لما رأيتك تمضين
وقتك مع أخي .
أشاحت نظرها عن عينيه الحادتين بارتباك .. في الأيام القليلة الماضية , كانت مشاعرها
في عذاب مستمر حتى انها كادت تتجاهل اهتمام مايس بها ..في الوقع , ظنت أن تقربه منها لم يكن جاداً مع ذلك , هاهو الآن يحاول إعادة علاقتهما .. تلك العلاقة التي لا تريد لها أن تنمو وتكبر
لسبب لم تفهمه , أو بالأحرى تحاول تجاهله .
قال :
_سأغيب بضعة أيام ..بإمكانك متابعة عملك كالعادة , أنا مسرور جداً لما أنجزته حتى الآن ..و أفكر حين أعود أن أبعدك عن لوحة الكتابة .
شعرت بشيء ما في داخلها يدفعها لأن تتمرد , انه لا يقيم وزناً لرأيه , ويعتبر قبولها
أمراً مسلماً به .. فهزت رأسها نفياً :
_مايس .. أنا لا أظن ..
_هذا صحيح .. لا تظني شيئاً .. حين أعود من آسبن ,سوف نمضي معاً وقتاً لن تنسيه أبداً
سأصطحبك إلى الرقص , وإلى أفخم المطاعم .. سأشتري لك المجوهرات لكن الوقت لا يتسع للكلام عن ذلك الآن .
نظر إلى ساعته :
_حان وقت ذهابي .. تأكدي هذا أليدا .. أريدك أن تكوني في انتظاري حين أعود .
نظر إليها لحظة ولدت لديها انطباعاً أنه ممثل ينتظر التصفيق , ثم عاد إلى المنزل .. مهما كان
يأمل أن يكون تأثير عرضه , إلا أنه لم يكن ليناسب ذوق أليدا .. وجاء وكأنه مزيف .
متنهدة ,بدأت تجمع قبعتها الواسعة . وكاتبها , وهي تسير عائدة رأت تايثي تسرع نحوها ..ترنح
مشيتها كان ينبئ أنها غاضبة .
اشتعلت عينا تايثي بشرارات خضراء وهي تسد طريق أليدا , وقالت بصوت مليء شراً :
_أريد ان أكلمك .
_ما لأمر .. تايثي ؟
_بشأن بن .. أريدك أن تبتعدي عنه .
ضحكت أليدا ضحكة ضعيفة :
_هذا أمر صعب , فكلانا يعيش هنا .. على أي حال , أظن أن بن هو من يقرر .. ألا توافقينني الرأي ؟
_لا. لا أعتقد ذلك ..فالجميع في بالم بيتش يعرف أنني و بن متفاهمان .
ارتفع صوتها مع غضبها :
_الجميع تايثي .؟الجميع ما عداه ربما .. اعذريني أرجوك .. أنا داخلة إلى المنزل .
نظرت إليها بكراهية شديدة :
_ستبقين بعيدة عنه , إذا كنت تريدين الأفضل لك .
لم تزحزح تايثي جانباً إلا حين خطت أليدا خطوة ثابتة إلى الأمام .. ودخلت مرفوعة الرأس
تشعر بالفخر والوقار .. لم يفتها وهي تقطع العتبة ان تصفق الباب وراءها بحزم .
فجأة أحست بالتعب من المواجهة فاستندت إلى الباب وأغمضت عينيها .. مايس أولاً ثم تايثي .. املت جادة ان لا يخبئ لها اليوم مزيداً من المفاجآت .
كعادتها حين تشعر بالتوتر , تلجأ إلى المحيط , رمت كتابها على مقعد خشبي في الردهة .. ثم فتحت الباب الأمامي الكبير وأقفلته خلفها بحذر .
تجاوزت كابينة بن .. بعد لقائهما الأخير لم تكن مستعدة لرؤيته .. على مسافة قريبة من الشاطئ
فرشت المنشفة فوق الرمال .. المحيط يبدو مغرياً اليوم .. ودون لحظة تردد غطست في مائه ..
سبحت بمحاذاة الشاطئ خمسين متراً , ثم أدركت أنها ابتعدت عن مكان منشفتها , فاستدارت عائدة
ثم وقفت تمسح الملح عن عينيها .
كان المحيط هادئاً , يكاد سطحه لا يتحرك .. غطت عينيها بيدها , وقررت السباحة إلى المياه العميقة , سبحت إلى أن أحست بتشنج غير عادي لعدة عضلات لا تستخدمها عادة فاستدارت ثانية نحو الشاطئ ولم تلاحظ الطيف الطويل القامة الواقف عند حافة الماء إلا بعد ان وطأت قدماها الرمل .. تقدم بن ليلف منشفة حول كتفيها .
ابتسمت له وقالت ممازحة :
_تتجسس عليّ ثانية ؟
انضم إليها فوق الرمل الناعم :
_بل أراقبك .. ليس من الأمان حقاً أن تسبحي وحدك.
ساد الصمت للحظات قبل أن يضيف وعيناه تحدقان إلى الأفق البعيد :
_لقد تحدثت مع تشارلز والترايت .
_وهل أقنعك أنني لا أتجسس عليك .. لحساب أي كان ؟
_لقد جادلني بدفاع جيد .
_لكن .. هل صدقته ؟ بن .. يجب أن أعرف .
نظر إليها بعينين حائرتين ثم بدا وكأن شيئاً في داخله ذاب , فقال :
_أريد أن أصدقه أليدا .
مال نحوها مستندا ً رأسه إلى ذراعها السمراء , ثم راح يتأمل بإمعان قسمات وجهها
وفي نظراته شوق عارم , ثم استقام ليحيطها بذراعيه ..
قالت بثبات :
_بن .. أعطيك كلمة صدق شريفة .. أنا لم أتجسس يوماً لمصلحة مايس .. أقسم لك .
رأت علامة التصديق بارزة في هدوء عينيه , فأغمضت عينيها تسترخي بين ذراعيه .. واستسلمت للأحاسيس الغامرة التي أصبحت مألوفة جداً لها , وأسندت رأسها إليه , لا تريد فراقه ..وهمست :
نحن بدون خجل .. نتصرف هكذا على الشاطئ أمام أنظار الجميع .
رفع رأسه لينظر على طول الشاطئ :
_الجميع .. في هذه الحالة , هم مجرد طائر بجع , وعدد من طيور الزمار .. أوه.. وأربعة طيور نورس فضولية , لكن بإمكاننا الذهاب من هنا إذا كنت تريدين ذلك .
ساعدها على نفض الرمال عن منشفتها ووضع القبعة على رأسها , ابتسمت له بغبطة وهي ترى تعبير وجه يزداد عمقاً ..ثم تلاشت بسمتها وهي تنظر إلى عينيه , وأحست أنها تكاد تقع , تغرق رأساً على عقب في أعماقها .
أمسك يدها لحظة ثم وضعها على وجهه .. استدارا كشخص واحد وسارا يداً بيد على حافة البحر , دون كلام تاركين وراءهما أثراً مضطرباً لأقدامهما لن تدوم أكثر من لحظات حتى يمحيه الموج.
كانا مستغرقين جداً بأفكارهما حتى أن أياً منهما لم يلاحظ العينين الخضراوين بلون البحر ,
الطافحتين بدموع الغيرة .. اللتين كانتا تلاحقان تحركهما من خلف ساتر الرياح المكسو بأشجار النخيل .
تسلل الكابوس خلسة إلى منامها وكأنه ضباب ليلي يتفوق على كل منطق .. كان هناك مجدداً
تلك الموجه الضخمة تلوح في الأفق رمادية كالفولاذ .. وتتقلب عليها وهي تقف إلى جانب والدها قرب الشاطئ .. كانت تحس بأصابع أعماق المحيط المقزز تشدها إلى الأسفل فالأسفل , , وبالإحساس الخانق المألوف في حلقها .. أخذت تصيح مقاومة , وهذا ما سمح لماء البحر بالدخول
إلى رئتيها .. تملكها ذعر عظيم وآلم أعظم زاد من وطأتهما ذلك الإحساس بالخسارة الذي انتابها حين مدت يدها دون وعي إلى يد والدها .. ولم تجد إلا السراب .
صيحتها الممزقة أيقظتها من منامها .. كانت الدموع لا تزال رطبة على خديها ومفارش السرير
مكورة بشكل فوضوي إلى جانبها .. ولزمها لحظات طويلة مرعبة لتدرك أنها سالمة في
غرفتها في زانادو .
حاولت يائسة أن تهدى روعها , دخلت الحمام متعثرة الخطى ورشت وجهها بالماء البارد آملة أن تبعد عنها الإحساس غير المنطقي بالخوف الذي ملأ قلبها .. نظرت في المرآة فإذا بوجه غريب مفزوع شاحب ومرهق يحدق إليها بغرابة.
لم يكن الفجر قد بزغ بعد .. إنه وقت مبكر على تناول الفطور .. فتحت الستائر قليلاً بما يكفي
لتنظر إلى كابينة بن .. لكنها لم تشاهد أية حركة على الشاطئ .. ليس أمامها سوى العودة
إلى النوم .. هكذا ملست مفارش السرير وعادت إليها تضع رأسها على يديها , تدحق إلى النور الرمادي المتسرب.
ذلك الكابوس مجدداً وهي التي ظنت انها تجاوزت خسارتها لأبيها .. ما تحتاج إليه هو بن حالاً
فهو وحده القادر على محو الإحساس بالرعب عنها ..
بعينين مغمضتين , تصورت مرة أخرى المنظر الذي شاهدته ليلة أمس , حين أراها بن ما أنجزه
في رسم صورتها قادها عبر الكابينة المظلمة إلى غرفة عمله وأدار النور ليضئ الغرفة قرب النافذة كانت الحمالة وقماشة رسم صغيرة عليها .
رسمها بحيث يبدو غامضة متكبرة , امرأة قوية ذات شخصية فذة.. لكن عينيها كانتا الأبرز في اللوحة كلها .. واسعتان معبرتان واثقتان مع ذلك تخفيان ألماً سرياً .
قال لها بن :
_أظنني التقطته .. ذلك البعد المراوغ الذي يجعل من هذا الرسم لوحة بدلاً من مجرد صورة
جميلة .. وبالطبع هي تحتاج إلى جهد إضافي لإتمامها .
أحست بصدمة لأنه تكمن من الدخول إلى أعماق مشاعرها قالت :
_إنها .. إنها جيدة جداً .
وفكرت , قد تكون هذه اللوحة وراء الشهرة المتوقعة لبن ..وأغرب أن تكون لي !

على باب الدمعWhere stories live. Discover now