الجزء السادس عشر

47 4 2
                                    

المنزل
كلمة واحدة ولكنّها دافئة جدّاً .. موازية لكلمة الأمان ..
حينَ كُنتُ صغيرة كان اعتقادي دوماً أنّ المنزل هو ذاك المُكعب الّذي يوضع فوقه القرميد .. كنتُ أضعهُ في كُل رسماتي وأنثر فوقه كُل الأشياء الطفوليّة الّتي كانت تجعلُ المنزلَ مثاليّاً بنظري ...
كبرتُ وأدركتُ أنَّ المنزل ليس جدراناً وأسقف..
أنَّ حُضن أُمّي بعدَ يومٍ مُتعب منزل
أنَّ ثرثرتي الطويلة مع أُختي منزل
أنّ صوت أبي حين يفتح الباب ويدخل منزل
أنّ المنزل شعور وانتماء
نظرتُ من النّافذة حيثُ يجلسُ غيث على الأرجوحة وأنا أفكّر
الآن قد عادَ لي المنزل..

لقد ندمتُ بعدما احتضنته .. أصابني إحباطٌ شديد جعلني أدخل البيت مُجدداً وأُغلق الباب في وجهه
أيّاً كانت أسبابه .. لا أستطيعُ مسامحته بهذه السهولة على تركي
كان فقط كُل شيء صعب .. غيابه وتركي لمنزل العائلة وما فعلته بي ميرال
تراكمت الحقائق المرة والأشياء السيئة في قلبي فأصبحتُ هشّة جدّاً
لذلك احتضنته .. كانت فقط لحظة ضعف
كنتُ أُبررُ لنفسي لأنّني رغم كل ما قاسيته بسببه لم أكن قادرة على إفراغ سخطي عليه
لم أسمعه حتّى .. لم أترك له فرصة كي يبرر نفسه لي ..لأنّني فقط متعبة .. من كُل شيء ومن كُل الحقائق ..
فتحتُ هاتفي لأجد مكالمات فائتة من الجميع ..أُمّي عمر ليلى وحتّى سيلين
انقبضَ قلبي خشيةً .. أكرهُ هذا الشّعور الّذي ينبّئني بالأشياء السيئة
كان آخر اتصال من سيلين .. لقد مضى وقتٌ طويل مذ رأيتها ..ما الذي تريده منّي ؟
اتصلتُ بها بتردد فأجابتني بنفس الثانية ..
"شوق عليّ رؤيتك حالاً " نبرةُ صوتها تلك ..يا إلهي
لقد حدث شيء سيء
"ما الذي تريدينه ؟" سألتها بهمس ..
لقد أخذتُ نفساً لتوّي ..لقد دخلت بعضُ الطمأنينة قلبي بعدَ زمن طويل ..هل سأعودُ لنقطة الصفر من جديد؟
لم تجبني سيلين فقط بقيت تصرُّ على رؤيتي باستمرار
تنهدّتُ بتعب وأخذتُ معطفي كي أذهب لمنزلها
خرجتُ من المنزل وأغلقتُ الباب .. "إلى أين أنتِ ذاهبة "
سمعتُ صوته المتعب من ورائي
" اتصلت سيلين وكانت صوتها باكياً  وَ .." سكتُّ حينَ أدركتُ
غيث هُنا وأنا أجيبه بشكل طبيعي وكأنّ شيئاً لم يحدث وكأنّه لم يفصل بيننا جبال وبحار ومسافات شاسعة وكأنّ السّنة ونصف هي دقائق معدودة وهذا جعلني أتلوّى بصمتٍ حاقد أتجاهله وأمضي في طريقي
ولكنّه تقدّم أمامي يمشي باتّجاه سيّارته .. هل يظنُّ أنّني سأركب معه ؟
ركب سيّارته وركنها أمامي يقطعُ عليّ الطّريق .. زفرت بسُأم ..أتجاهله وأمضي في طريقي مرة أخرى
ولكنّه أوقف السّيارة أمامي مُجدداً وعندما لم أستجب له نزل منها ووقف يقابلني
مسحَ وجهه بكف يده وبعثرَ شعره ..عيناهُ الّتي تلمع تنبئني بكونهِ على وشَك فِقدان أعصابهِ
"هل ستهربين مُجدداً ؟ هل سنحل أمرنا بالتّجاهل شوق ؟ هل يجب أن أترجّاكِ كي نجلس ونتكلم كالبشر ؟" كان يتكلمُ بحنق .. أنفاسهُ مضغوطة .. أعصابُه ..جذعه
وكأنّه يكبتُ مشاعراً سامّة داخل جسده حتّى خرجت حروفه مضغوطة ومكبوتة
" انظروا من يتكلم .. الهرب والاختباء خبرتُك أنت ..أنا أتعلمُ منكَ فقط " نظرتُ له بحقد هذه المرّة ..نظرتُ لأثر كلماتي على قلبه من نظرةِ عيناه المنكسرة
أنا أعلمُ كم أجرحه حينَ أنظرُ له بهذه الطّريقة ولكنّني لم أصرخ به بعد ..لم أفرغ حنقي عليه لذلك عليه أن يتحمّلني
" سنتكلم حينَ تعودين شوق .. لن تهربي منّي للأبد .. والآن اصعدي السّيارة وتذكّري أنّ هذا المنزل في الغابة ولن تجدي سيارة أجرة بهذه السهولة "
كدتُ أنطق ليفتح الباب بجانب السائق قائلاً "ولا تعاندي حبّاً بالله لمرّة واحدة فقط "
لو لم أكن قلقة على سيلين لكنتُ جادلته حتّى مطلع الفجر ..ركبتُ بصمت وطوال الطّريق لم أنبس بحرف ولا همسة ولا نفس  .. وكأنّني غير موجودة
" صمتُك قاتل شوق " همس لي فنظرتُ له بطرف عيني لألاحظ تجهم ملامحه ويده الّتي تقبضُ على عجلة القيادة بقوّة حتّى ظهرت عروقه النابضة بوضوح
لقدَ اعتادَ ثرثرتي حتّى استنكرَ صمتي
تجاهلته مجدداً .. مادام الأمر يعذّبه سأفعله .. رُغم أنّني بذلك أؤذي نفسي أيضاً ولكنّني لم أعد أهتم..
حينَ وصلنا نزلتُ بسرعة أغلقُ ورائي الباب وأمضي دونَ أن ألتفت له ..
ثمّ وقفتُ في منتصف الطّريق ألتفتُ كي أعودَ له لأراهُ يتقدّمُ منّي أساساً
"أنت " أخبرتهُ دونَ أن أنظرَ إليه أُناديه
"أنت ؟أعتقدُ أنّني أمتلكُ اسماً " أخبرني بنفاذ صبر وهو يتقدّم منّي
نظرتُ داخل عيناهُ هذه المرّة وقد أصبحنا نقابلُ بعضنا البعض
" ليسَ لديك اسمٌ لديّ الآن ..لا في قلبي ولا في روحي .. حينَ ردّدتُ اسمك في كوابيسي وحينَ استيقظتُ بفزع  بعدها.. لم تكن بجانبي
لذلكَ أقسمتُ ألّا أنطقَ باسمك مُجدداً "
كان صوتي مجروحاً، وكأنّه يخرجُ من زجاجٍ مكسور وليسَ من حبالي الصوتية..
أجرحُه مرة أخرى .. أشعرُ بتداعي حصونه أمامي ..بالانهيارات الّتي يخفيها بثباته المزيف
لم أكن قاسية هكذا، ولا بعُمري تخيّلتُ أن أُصبحَ بهذه القسوة معه بالذّآت..
"شوق أرجوكِ " كان صوته متهدج أجشّ وهو يقبضُ على يدي ويناظرُني برجاء
"ليسَ الآن " 
" هل ستهربين مجدداً "
"ابقى في منزل الغابة سأتكلم معك في أمرٍ مهم حين أعود "  أخبرته ثمّ مضيتُ في طريقي
إنّه محقّ أنا أهرب
أنا أهربُ من ضعفي تجاهه ومقاومتي الضعيفة أمامه ..
أنا أهربُ لأنّني خائفة من مسامحته .. أخافُ أن أعفو عنه وأعود له بسرعة ثمّ حينَ يرفعني للقمة يتركني مجدداً ..لستُ واثقة من شيء و خائفة من كل شيء ..
كدتُ أطرق باب منزل سيلين لتفتحه هي لي بسرعة ..نظرتُ لدموعها الكثيفة بتشوش لتباغتني بحضنٍ قويّ ..
كنتُ أرتجف .. قلبي وجسدي بأكمله يرتجفان .. خوفاً وهلعاً ..
هذه المرّة الأولى الّتي أرى بها سيلين بهذه الحالة  وما يثير هلعي كوني أشعرُ بأنّ الأمر يخصّني
لم أبادلها العناق .. لم أكن قادرة على ذلك وكأنّ سلاسل حديدية تقيّد يديّ بالأرض
"ما الّذي حدث سيلين ؟" سألتها بهمس لتشدّ يديها حولي أكثر وتبكي أكثر
كانت تغمغم بكلمات غير مفهومة ولكنّني التقطتُ كلمة واحدة
"ميرال " .. كلمة واحدة  .. اسم واحد جعلَ أعضاء بطني تتخبطُ ببعضها وترسل لحلقي شعور غثيان مُرّ وسامّ
ابتعدت عنّي سيلين بهدوء ولكنّها لازالت قريبة منّي تنظرُ لعينيّ .. تبتلعُ غصتها ببطء وتمسكُ كتفاي وكأنّها تعلم أنّني على وشك الانهيار
وكُلّما أرادت البوح تصمت وصمتها كان يثيرُ أعصابي ويبعثر تعقلي
"تكلّمي " كززتُ أسناني أّنبئها أنني على وشك الانفجار
نظرت لي نظرةً فارغة وهي تهمس " لقد فقدناها "
"لقد قُتِلَتْ "
ضحكة صاخبة خرجت منّي  .. ضحكتُ بصخب حتّى اختنقت .. حتّى أصبحت أنفاسي متقطّعة مسلوبة .. كانت سيلين تنظرُ لي بملامح مشدوهة 
اقتربتُ منها وأنا لازلتُ أضحك .. أمسكتُ بتلابيب معطفها بأيدٍ مرتجفة
توقفت عن الضحك أنظرُ لها بزعزعة شخص يقفُ على حافة الهاوية
"هذه مزحة سخيفة من مزاحها كي أسامحها أليسَ كذلك ؟ "  هل هذا صوتي حتّى أم أنّني فقدتُ القدرة على النطق ؟
" شوق " همست لي
" أرجوكِ ..أنا أرجوكِ أن تخبريني أنّ هذه مزحة .."
سقطت على الأرض فأمسكت بكتفيّ تنزلُ معي أيضاً
فرّت شهقة منّي .. خرجَ معها قلبي ..رئتاي وقفصي الصدري بأكمله تزلزل من قوّتها
أمسكتُ بيد سيلين " سأسامحها .. أخبريها أنّني سأسامحها ولكن لا تفعلوا بي هذا
ليس مجددا أرجوكِ"
لم تبكِ  عيناي فقط .. كان جسدي بأكمله ينزُّ الدّماء بدلاً من الدّموع
"ليسَ الآن ليسَ ونحنُ هكذا .. "
صرختُ بسيلين لتتراجع بفزع
" هيّا خذيني إليها سنتكلم وسأسمعها .. سأسامحها سأفعل ولكن ليسَ الآن
لا تستطيعُ أن تتركني الآن أرجوكِ سيلين " أمسكتُ يدها وأنا أجرّها لباب المنزل ولكنّني وجدتُ أُمّي .. ليلى ..عمر
نظرتُ للأخاديد المحفورة على وجوههم من فعل الدّموع .. نظرتُ لعيناهم المُحمرّة ونظراتهم حولي لأتراجع بفزع
ليست مزحة .. ليست .. يا الله

سرابٌ أم يقين ؟Where stories live. Discover now