الجزء الأوّل

167 10 10
                                    

رُغم ذلك الجُرح القاتم الّذي تركته بقلبي لم أستطع أن أكرهك .. وقلبي السّاذج يبحثُ عن سببٍ لأحبّكَ مجدداً كُلّما حاولَ عقلي أن ينبذك بكُره ..
..

والآن حانت اللحظة المواتية لأعبّر لكَ عن كُل ما يخالجني من مشاعر تجاهك ..رُبّما أنا غبيّة لأنني لا زلتُ أفكرُ بكَ بهذه الكثافة ولكن ماذا أفعل ؟
إن كُنتَ قد احتللتَ كُلَّ خليّة من خلايا الذّاكرة ولم تتركْ لي منفساً لأفكّر بشيء غيرك ..
لازلتُ أذكُر اليوم الّذي تركتني به وكأنّه البارحة ..ومازلتُ أعيدُ قراءة الرّسالة الّتي تركتها لي .. تلكَ الرّسالة الّتي تفتتت من فرطِ دموعي فوقها ..


الجميعُ يتكلمُ من حولي .. يحشون في أُذني العديد من الكلمات .. أنّه عليّ أن أتخطاك .. أن أكمل حياتي من حيثُ توقفت وكأنّكَ شيئاً لم يكن ..

كيف أشرحُ لهم أنّك عصيٌّ عن النّسيان .. أنّك كالتاريخ.. لا يُنسى ولا يكرر !

أكرهُكَ .. وأكرهُ حُبّي لكَ الّذي يجعلني الآن فتاة هشّة لا تقوى على شيءٍ بعد فُراقك..

ولا تستطيعُ التوقفَ عن البكاء لأنّ عينيكَ لا تطبطبُ على قلبها .. ويديكَ لا تُمسّدُ وجنتيها ..
وشهقاتُ البُكاء الّتي كانت تكتمها بصدرك ..
الآن أصبحتْ كالإعصار تهدمُ كُل ما حولها ..

أعودُ بكَ إلى يومِ لقائنا الأول ..
كنتُ في طريقي للمنزل بعد يومٍ مُتعب من الامتحان ..
بدأت تمطر بشكل خفيف فأسرعتُ في المشي لأصل إلى المنزل قبل أن يشتدّ المطر ..
وإذ يبدأُ المطر يسقطُ بغزارة.. ولم تتوقف أيُّ سيارة أجرة   لتأخذني ..
وقفتُ عند موقف الحافلات أحتمي من المطر ..
وإذ ينخرُ أُذني الصّوت الّذي يثيرُ كل مخاوفي..
الرّعد !

شعرتُ بقلبي يخفق بشدّة وبدأتْ أنفاسي تثقلُ وضعتُ يدي على صدري أضغطُ عليه بخفّة ..
وخيطُ الذكريات الرّفيع داهم عقلي بشدّة أثقلتْ قلبي .. بدأت دموعي تنهمرُ على وجهي بكثافة .. رعشة باردة تخللت عظامي عندما اشتدّ صوت الرّعد .. شعرتُ بجسدي يضعف وينهار
جلستُ على الأرض أتمسكُ بالكُرسي ورائي ..
وأغمضتُ عيني أحاولُ محي الصور الّتي تخترقُ مخيلتي..

هُناكَ صوتٌ سمعته بخفّة ولكنّني لا أستطيعُ التّركيز معه ..
"هل أنتِ بخيرٍ يا آنسة"
تتكرر هذه الجملة في أذني باستمرار ..
شعرتُ بيدين تبعد يديّ عن صدري وتُمسكهما بخفّة ..
"خذي نفساً عميقاً وازفري الهواء ببطء"
أسمعُ صوته العميق ينبّهني فأحاولُ السيطرة على أنفاسي ..
"تخيلي أشياءً تحبّينها .. البحر نسماته اللّطيفة.. ضحكاتُ الأطفال ورائحةُ الزّهور .. وعناقُ الأصدقاء "
بدأتُ أُبعدُ الأفكار السوداوية عن مخيلتي وأطبّق كلامه ...
حين توقف الرّعد قليلا بدأتْ تنتظمُ أنفاسي وتهدأُ نبضات قلبي ..

فتحتُ عيني ببطء لأناظرَ الأعين العسلية الّتي ناظرتني بقلق ..
كان شعرهُ مبلل بفعلِ المطر وتنزلُ خصلاته الحالكة على جبينه بشكل جميل .. 
كنتُ أراه لأول مرّة ولا زلتُ أذكرُ دهشتي اللطيفة بجماله الحارق بتلك اللحظة ..
تصنمت لوهلة قبل أن أردف ..
"أنا بخير شكرا لك يمكنك الذهاب "

ارتسمت ابتسامةٌ صغيرة على وجهه يناظرُ يديّ الّتي تمسكُ يديه بشدّة .. ليقولَ ببحّةٍ عميقة وهو يناظرُني بمكرٍ لطيف ..
"هل أنتِ متأكدة أنّه يمكنني الذّهاب "

حينها انتبهت كم كنت أضغطُ على يديه وأتمسكُ به بشدّة ..
لأتركه بسرعةٍ وكأنّني أصبتُ بمساس كهربائي..
استندتُ على الكرسي بجانبي لأنهض من على الأرض ..
أخذتُ نفساً عميقاً أحاولُ تهدئة نفسي .. وأكررُ تمارين التّنفس بهدوء ليقاطعني صوته ...
"ستزدادُ كثافة المطر وتبدين متعبة ... تعالي أوصلك لمنزلك"

أجبته بسرعة .. "لا داع لذلك شكرا"

أخذتُ حقيبتي من على الأرض وبدأتُ أهرولُ تحتَ المطر ..
نظرتُ بعد مدّةٍ قصيرة ورائي ولم أجده  ..فابتسمتُ بداخلي بسخرية على إصراره..

كرهتُ ذلك ..أكره هشاشتي هذه وأكره أن أبدو ضعيفة أمام أحدهم ولا سيما الغرباء ..
حتّى عائلتي أُخفي خوفي عنهم ..
التفت مجددا لطريقي وإذ يعودُ صوتُ الرّعد لأتنهد بتعب ..

وشتت جمودي السيارة المسرعة التي توقفت فجأةً بجانبي  لأجد نفسي أمام سيّارة جبليّة سوداء بطابع فخم ..

فتح لي الباب الخلفي  وقال لي وعينيه تلمعُ بحدّة ..
"اركبي السيّارة ولا تعاندي .."
كنتُ تائهة وخائفة.. مُستغربة من تصرفه هذا  ومستنكرة أوامره ..
نظرتُ للمقعد بجانبه لأجد فتاة شابة تضمُّ بحضنها طفلة صغيرة نائمة .. فتحت شباكها وأخبرتني بنبرة لطيفة "هيا اركبي سنوصلك حيثُ تريدين.. الشارع فارغ وستنتظرين طويلاً تحتَ المطر " 
كان يشعُّ من وجهها أمانٌ غريب لأجد نفسي أستجيبُ لها  و أركب بصمت
كرهتُ تلك اللحظة الّتي شعرتُ بها أنّني هشّة جدّاً ..لم يسبق لي أن استجبتُ للغرباء بهذه الطريقة
لاحظتُ أنّه قد خرجَ من السيارة ..
انتظرتُ قليلاً حتّى ركب بها مجدداً وبيده كأسٌ من الشاي..
مدّه لي بصمتٍ فأخذتُه منه
"شكراً مرّة أخرى " قلتُ له وأنا أعني ذلكَ حقّاً ..
فقابلَ ذلك بالصّمت ..
كان الطّريقُ هادئاً .. وشكرتُ صمتهم بداخلي فلا قوة لي على خوض أيّ نقاش ..
تأملته بطرفِ عيني .. فكّه الحاد .. ذقنه الخفيفة الّتي تزين محياه.. عيناهُ العسلية الّتي تراقبُ الطّريق ..
وكفُّ يده ذو العروق البارزة ينقرُ به على المقود ..
توقفت السّيارة فجأة قاطعة تأملي
ليقولَ لي ببحّة عميقة وبابتسامة ماكرة ..
"إن انتهيتِ من استراق النّظر يمكنك النّزول "
عيناه تتفحصني بترقّب أربكني ..
لأقول له بسرعة وأنا أهمُّ بالنّزول ..
"تصدّقُ نفسك كثيراً "
كان الطّريق قصيراً جدّاً فأنا أساساً معتادة على المشي من جامعتي إلى المنزل لولا نزول المطر الّذي أعاقني..
نزلتُ من السّيارة بصمت وأغلقت الباب
وأنا أمشي للمنزل، استوعبتُ الوضع لأركض إلى نافذته أطرقها بعنف ليفتحها يناظرني ببرود ..
كنتُ غاضبة لسببٍ لا أفقهه قلتُ له بصوتٍ حادّ وعينيّ تلمعُ بغضب ..
"كيف لك أن تعرف منزلي "
كان قلبي ينبضُ بهلع وقلق .. كنتُ أشعرُ أنّ هذه لم تكن صدفة أبداً
ناظرني بعُمقٍ داكن .. غريب وجعلني أرجعُ للوراء خطوةً بحذر
"أنا أعرفُ أكثر بكثير ممّا تظنين يا صغيرة " أردفَ ببحّته الرّجولية

ودون سماع ردّي أغلق النّافذة وانطلق من أمامي ليلفح وجهي الهواء البارد ..
تحسستُ وجنتي حيثُ نبضت بها حرارةُ الدهشة ولا زالتْ عيني تنظرُ للأمام بتشوش ..

هرولتُ نحوَ المنزل أغلقتُ الباب وجلستُ وراءه أرتبُّ أفكاري الفوضوية وأحاول استيعاب الّذي حدث ..

كان لقاؤنا الأول فوضوياً عبثيّاً ..تركَ تساؤلات كثيرة بداخلي وبقيتُ أسبوعاً كاملاً أُحلل في الموقف الّذي حصل ..
وأندم كثيراً بغبائي في ذلك اليوم لأنني لم أسأله عن اسمه حتّى ..
كان غامضاً لدرجةٍ استحوذت على كامل تفكيري أُحلل تصرفاته من بعده ..

أحاولُ في كٌلّ مرّةٍ إيجادَ ما يخفيه خلفَ سطوره وكان في ذلك فوضى فكريّة مُحبّبة لقلبي ..

كُل شيءٍ يخصّه محبب لقلبي .. وهذا الّذي يؤلمني الآن أكثر ..
لم أتخيل في يومٍ ما أن الذّكريات الجميلة الّتي كنت أعيشها ستغدو في يومٍ ما الملح الّذي يضغطُ على جرحِ قلبي فيزيدُ من ألمه ..

لم أتخيل أبداً أنّ هذه الذّكريات ستسحقني في يومٍ ما وتحرقني بنارٍ من الشّوق والألم ..

سألتُ نفسي ذات مرّة .. هل النّسيان سيريحني ؟
ففكرتُ في الأمرِ مطوّلاً ووجدتُ أنّه سيتعبني أكثر ..
سأتألم دونَ معرفة السبب وأشعر بجزءٍ مفقودٍ منّي دون معرفته ..
ستزيد الحيرة من عمق الألم ..

بالإضافة إلى أنّني لا أريدُ ذلك ..
أنا لا أريدُ أن أنساك ..
أفضّلُ أن أتألم وأنا أحملكَ بداخلي ..
أفضّل أن أحبّك وأنا أحملُ ذكرياتنا بقلبي في كُل مكان ..
أنتَ محرّمٌ عن النّسيان..
أخبئك بكل ثنايا الذاكرة حتّى أذكركَ طيلة عمري ..
لأنّك البُرهان الأصدق والأوفى..
أنّه في وقتٍ ما من حياتي ..
قد وُلد حُب !
.
.
.
.
هذه البداية فقط ✨️
رأيكم ؟

سرابٌ أم يقين ؟Where stories live. Discover now