الجزء الحادي عشر

33 3 0
                                    

نحنُ في بحثٍ وسعي مُستمر عن المعنى وراء كُل شيء ...
وراء التصرفات والآراء وأدقّ التفاصيل
والأمر مُنهك ومقلق ،
علينا أن نستريح في وقتٍ ما عن هذا الدأب المستمر والسعي نحو المعنى
وعلينا أن نتقبل أنّ بعض الأشياء بلا معنى ،
أنَّ تصرف أحدهم بودّ لا يعني أنّه يحبّك
وتصرفه ببغض لا يعني أنّه يكرهك ربّما فقط قابلته في وقتٍ سيء من يومه
التجاهل نعمة في بعض الأحيان ومنهج علينا تقمّصه ..
ولكن لمَ لا أستطيعُ أن أفعل ذلك ؟
لم بدأتُ أبحث عن المعنى في تصرفاته وتفاصيله؟
لم يهمُّني كثيراً أنّه يفضّل القهوة على الفطور بدلاً من الشاي وأنّه يعبس ثمّ تشتدّ قبضته عندما يغضب وأنّه ينقر أنفه عندما يتوتر
لمَ أُركّز معه لهذه الدّرجة ؟
لمَ أبحث عن المعنى وراء أي تصرف يصدر منه تجاهي رُبّما هو يتصرف هكذا مع الجميع !
ولكن لا ..
هو لا يفعل والأمر يصيبني بالجنون !
أنا خائفة ولا أفهم نفسي ولا حقيقة مشاعري الآن،
خائفة أن أكون الخاسرة الّتي تقدم مشاعراً دونَ مُقابل
ماذا أفعل ؟..هل عليّ أن أهرب قبل أن أقع أكثر
يا إلهي أنا في القاع أساساً
كنتُ أعمل في مكتبي الّذي يطلُّ على مكتبه بواجهة زجاجية
لمَ عليه أن يكون مرئياً لي ريثما أعمل؟
الأمر مُرهق كوني أشعر بنظراته الّتي تتفحصني في كل حين ..
رنّ هاتف المكتب لأفتحه
"لمَ لم تأكلي الشطيرة؟ هل عليّ أن آتي وأدعك تأكلينها مجبرة؟ "
ينظرُ لي وهو يتكلم يبتسمُ ابتسامة مزيفة
نعم هذا ما قصدته .. رغم اسلوبه الغبي إلّا أنّ اهتمامه هذا مرهق
أغلقتُ الهاتف دونَ جواب لينظر لي بحدّة
أمسكتُ الشطيرة وبدأت بأكلها وأنا أبتسم حتّى لا يقتلني لإغلاق الهاتف في وجهه
وريثما أتناول طعامي رنّ هاتفي ..أجبتُ  ليأتيني صوت سيلين وهي تبكي .. لم أفهم أي كلمة من الّذي قالته لذلك أخبرتها أنّني سآتي إليها
نظرتُ لغيث .. عليّ أن أهرب دون أن يلاحظني
هذه استراحة الغذاء أساسا
حسناً هي لمدة ساعة ولكنني لن أتأخر كثيراً
فليشعر بقيمتي لقد كان يتذمر لأنّني أقضيها بمكتبه وآكل هناك
ثمّ أسرق الحلوى من درجه وأسرق بعض مقتنيات مكتبه الّتي تعجبني كي أضعها بمكتبي
ألقيتُ نظرة على طاولتي
حرفيّاً لقد سرقت كل شيء من عنده
ضحكتُ بخفّة ..لا شأن لي هوَ من يسمح لي بذلك
ألقيتُ نظرة عليه وهو ينقر على حاسوبه
وقد أرخى ربطة عنقه ممّا يعني أنّ تفكيره مرهق بأمرٍ ما ..
إنّه يضع نظارات طبيّة أثناء العمل مؤخراً والأمر مستفزّ كوني لم أكن أحبّها لأنّني اضطررتُ لوضعها كل طفولتي والآن أرغب باقتنائها فقط لأنّها تليق به !
وكأنّها إطار حولَ لوحة عيناهُ اللامعة كي أتأمّلها بعُمق أكثر ..
توقفي شوق ألم تقولي أنّك ستضعين مسافة أمان بينكما ؟
نهرتُ نفسي لأزفر بحنق
سيصيبني بالجنون
خرجتُ من المكتب بسرعة ثمّ من الشركة
أخذتُ سيارة أجرة وانطلقت
حين وصلت عندها استقبلتني والدتها
إنّها امرأة لطيفة حقّاً حتّى أنني أحبها أكثر من سيلين ولكنني لا أقول ذلك حتى لا تقتلني
دخلتُ غرفتها لأجدها لازالت تبكي
ذهبتُ لجانبها واحتضنتها
لا أعلم ما الّذي مرّت به ولكنّها تحتاج لأن تشعر أنّني بجانبها
بقيتُ أربّتُ على كتفها حتّى شعرتُ بها تستكين .. "هل ستخبرينني الآن ماذا حدث ؟" همستُ برفق
لترفع رأسها لي وعيناها محمرّة "لقد أضعتُ خاتمي المفضل " همست دون أن تنظر لي
توسّعت عيناي بصدمة وكززتُ أسناني بغضب ..يا لها من ...!
هل كُل هذه المناحة من أجل ذلك وقد تركتُ عملي من أجلها ..
ردّة فعلي الأولى كانت أنّني أمسكتُ يدها ثمّ عضضتها بأقوى ما لدي لتشهق بصدمة
"يا غبية على الأقل تكلمي من البداية لقد امتلأ عقلي بسيناريوهات مرعبة " نبستُ بغضب وهي لا تزال تتأوه
"ما هذه الوحشية شوق كيف يتحملك زوجك؟" قالت بحنق وهي تمسّد يدها
"ما شأنُك بزوجي"
ابتسمت ابتسامة خبيثة وكأنّها لم تكن تبكي قبل قليل "هل تغارين عليه ؟ حالتُك صعبة يا صديقتي تحتاجين العلاج" تمتمت بسخافة وهي تتلمس حرارتي
"اصمتي سيلين لم سأغار عليه ؟ لستُ سخيفة لهذه الدرجة"
"والفتاة الّتي تحطّم شعرها بسبب غيرتك؟" قالت وهي تضحك ..حسناً هذا جيد لقد نسيت أمر خاتمها على الأقل .. لم أرى سيلين تخلع هذا الخاتم لمرّة واحدة
حتّى أذكرُ أنّنا تأخرنا على الامتحان في الثانوية فقط لأنّها نسته في المنزل .. هي تعتقد أنّه خاتم الحظ خاصتها ولقد حاولت مراراً إقناعها بأنّ هذا غباء ولكنّها مُصرّة
حتّى انتهى بي الأمر بتقبّل ذلك وكنتُ أُذكّرها به حتّى لا تفتح لي مناحة كالتي حدثت الآن
" ليسَ بسبب غيرتي وليس شعرها أساسا .. إنّه مجرد شعر مستعار منظره مريع أيضاً كنتُ أحاول مساعدتها حتى لا تضعه مجددا"
"أنا حقا حقا لا أغار بتاتاً لم تظنين ذلك" أصررتُ مرة أخرى
" حين تنكرين الأمر مرتين يعني ذلك أنّك تؤكدينه يا شوقي الظريفة " تبتسمُ ابتسامة مستفزة
أشحتُ نظري عنها ثمّ سألتُها "وهل وجدته في النهاية؟" قصدتُ خاتمها.. امتلأت عيناها بالدموع مجددا لأقلب وجهي بتذمر
لم أجد في حياتي شخصا متقلب المزاج كهذه الفتاة
"لا تبكي حبّا بالله سنبحث عنه معاً " وضعتُ يدي على فمها أمنعها من ان تعود للمناحة السابقة
نظرتُ ورائها لأنتفض حينَ نظرتُ للسّاعة لقد مضت ساعتان ..
"لقد تأخرت " همستُ بإدراك
"لا تذهبي شوق أرجوك.. غياب نصف يوم لن يضر وايضاً أريدُ إخبارك الكثير من الأشياء "  أمسكت بيدي تصرُّ علي
أخرجتُ هاتفي وطلبتُ منها أن تشحنه
فكّرتُ في داخلي .. هو لديه الكثير من العمل لن يلاحظ غيابي ثمّ إنني لن أبقى كثيراً أساسا
حسناً لقد تراجعتُ عن كلامي .. الوقت معها يمضي بسرعة هائلة نظرتُ للساعة في الحائط إنّها التاسعة مساءاً وأنا خرجتُ من الرابعة !
أخذتُ هاتفي وودعتها بسرعة فتحتُ هاتفي لأنصدم من عدد المكالمات من غيث ..قضمتُ شفتي بجزع .. لا بدّ أنّه قلق الآن يا الهي لماذا أتصرف بجهل وتهور
اتّصلتُ به ليجيب بنفس الثّانية "شوق " همس بضعف متألّم وكأنّه على حافة الهاوية
تسلل شعور الذّنب بقسوة إلى داخلي
"أنا قريبة من المبنى القديم خاصتك سأتصل بفريد" همستُ بترقّب
"أنا قادم " قال ثمّ أغلق الهاتف
وصلتُ للمبنى ووقفتُ أمامه .. فركتُ يداي ببعضهما بتوتر والشّعور السّيء انتشر داخل أحشائي يعكّر معدتي ويخنق حنجرتي
نظرتُ لأوّل الشّارع لأرى سيّارة تقود بسرعة جنونية توقّفت فجأة أمامي لأنتفض بهلع
نزل منها و ياللهول .. رجعتُ خُطوة بحذر .. إنّه ليس بخير أبداً
عيناه حمراء بشدّة وقد فقدت بريقها .. شعرُه مبعثر وآثار جروح صغيرة على قبضتيه  وجهه شاحب بهلع وجبينه متعرق رغم الجوّ البارد
وما حدث بعدها ألجمني لأنّه اقترب منّي بسرعة هائلة أمسكت يده بعضدي بشدّة مؤلمة ثمّ انحبست أنفاسي بداخلي بصدمة لأنّه أسندَ جبينه على كتفي .. أنفاسُه متسارعة وكأنّه يمرّ بنوبة هلع
صدره يرتفع وينخفض بوتيرة سريعة .. ويده .. رغم شدّتها إنّها ترتجف
رقّت عيناي بفيض مشاعر .. لم أستطع أن أبدي أي ردّة فعل رُغم أنّني أريدُ أن أرفع يداي وأحيطُ به
أحتضنُ خوفه وهلعه أطمرهما بعيداً
"أنتِ بخير
أنتِ بخير" يرددُّ في أُذني بنبرة مهتزّة .. يؤكّدُ لنفسه
دخلتُ هالته .. رائحة الدّخان الّممزوجة برائحة الأرض بعد المطر .. رائحتُه تسللت لداخلي
اشتدّت قبضتُه عليّ وكأنّه يحتفظُ بي "لقد فقدتُ نفسي
لقد غرقتُ في الظّلام مُجدداً شوق
إيّاكِ أن تفعلي هذا بي مجدداً " يهمسُ مجدداً بنبرة متعبة بأنفاسٍ مهتزة
"دعيني أسمع نبضَك" صوته كان خافت وبعيد يحدّثُ نفسه  ولكنّني التقطتُه .. هل كان يظنُّ أنّ مكروهاً قد أصابني؟
سقطت منّي دمعة دافئة وانقبض صدري بألم .. أبعدتُ رأسه عنّي أُجبره أن ينظرَ لي ..
لأنّه لا يتنفس بشكلٍ منتظم ونبضات قلبه سريعة بشكلٍ مُخيف
أمسكتُ وجهه "انظر لي " صرختُ به لأنّني خائفة ..خائفة من وضعه الغير طبيعي
"الآن أغمض عيناك وخُذ نفساً عميقاً وازفره ببطء"
إنّه لا يسمعني وكأنّه انفصل عن الواقع المحيط به مستسلما للوساوس في عقله
"أرجوك" همستُ بخوف لينظر لي أخيراً
أغمضَ عيناه وبدأ يطبق كلامي .. أخذَ عدّة أنفاس وزفرها .. هدأ قلبي قليلاً عندما لاحظتُ أنّه بدأ يستعيد وعيه .. ابتعدتُ عنه قليلاً وهمستُ له
"غيث أنا آسفة حقّاً لقد اضطررتُ للذّهاب لصديقتي ومرّ الوقت سريعاً لم ألاحظ ذلك"
بدأ المطر يتساقطُ بخفّة ثمّ يشتدُّ مع مرور الثواني
تلا ذلك تحوّل نظراته الخائفة لأخرى غاضبة .. ثبات يده المُرتجفة وانتظام أنفاسه  ..
أعادَ خصلات شعره للوراء وتجمّعت يده بقبضة وكل هذا يدل على أنّه ساخط والغضب خدشَ عقله
" ألم تتواجد أي طريقة تخبرينني بها أنّك بخير هل أنتِ مستهترة لهذا الحدّ؟ أنتِ حتى لم تخبريني أنّك ذاهبة  .. هل تعلمين كم شخصاً أرسلت للبحث عنك؟" صرخ بي لأصرخ به أيضاً
"وأنتَ لمَ تهتم ألم نقل منذ البداية أنّها مجرّد صفقة وأنّ كلانا حرّ يتصرّف مثلما يريد " كان لساني يتفوه بما لا أعنيه ولكنني مشوشة ومتعبة من مشاعري أيضاً
"رُبّما ليست كذلك بالنّسبة لي " صرخ فاقداً أعصابه يقتربُ أكثر .. تساقطت خصلاته السوداء المبللة بفعل المطر على جبينه
"هل أنتِ عمياء ؟ أم تتظاهرين بذلك؟" نبس بغلّ أمام وجهي يفصلُ بيننا قطرات المطر
استندتُ على السيارة ورائي دون فصل تواصلنا البصري
"هل تظنين أنّني لازلتُ أهتمّ لتلك الصفقة الغبية؟ " هسهس مجدداً
نظراتُه مؤلمة ..مؤلمة لأنّها عميقة ولا أستطيعُ تغطية روحي أمامها وشعور أنّه يلتقطُ أدنى شعور وهفوة منّي مرعب !
"بإمكاني تمزيقها بثواني ثمّ أضعُ شروطاً أخرى " تمتم مجددا لتفترق شفتاي بصدمة
"هل تعلمين ما هو الشرط الأوّل شوق ؟ أنّكِ زوجتي شئتِ أم أبيتِ "  خرج صوته ثقيلاً عميقاً تشعّب في كُل أوردتي يبعثرُ كياني
تسارعت أنفاسي لأنّه .. لأنّه أطفأ النّار الّتي كانت تلتهبُ بداخلي من خوفي  أنّ هذه الصفقة ستبقى عائقاً بيننا .. رغم أسلوبه الفظّ إلّا أنّني اعتدتُ كوني الوحيدة القادرة على جعله يفقد أعصابه
أبعدَ الخصلات المبلولة عن وجهي وهو يتمتمُ بشرود
"لا يمكنُك أن تبتعدي .. ليسَ الآن شوق .. ليس بعدما أبصرتُ النور
هل كثيرٌ عليّ أن آخذَ نفساً بعد غرقي الطّويل؟" رقّ صوته مترجيّاً لتتصاعد الغصّة إلى حلقي تخنقني
"مكانُكِ بجانبي شوق ..ولا يمكن لورقة سخيفة أن تغيّر ذلك ولا قدرة أيّ كائن ولا حتّى أنتِ" بحّة صوته العميق الّتي امتزجت بصوت المطر  أوجفت قلبي
من الجيّد أنّ المطر يخفي دموعي الآن .. لأنّ هذا الشعور الثقيل كان أكبر من قدرتي على التحمّل
فتح باب السيارة الكامن ورائي لأجفل أمسكني من يدي يبعدني حتّى يفتحه بشكل كامل ويدخلني .. كنتُ لا أُبدي ولا أدنى ردّة فعل .. أُحاولُ هضم كلماته
هل تعلق بي هو أيضاً؟ ولكنّني أظنُّ أنّ الأمر أعظم بالنّسبة له لأنّ هذه كانت نوبة هلع دون أدنى شك
انتظرتُ قليلاً ليأتي بعد مدة يحمل كيساً بيده .. دخل السيّارة وأخرج سترته الّتي جلبها من المبنى
مدّها لي لآخذها دون أن أنظر له .. سأمرض بالتّأكيد بسبب هذه الدقائق المعدودة تحت المطر
أو سأمرض من كلماته ومن المشاعر المدسوسة بداخلها .. هذه المرة الأولى الّتي يفقد بها أعصابه ويبوح بكل ذلك .. هل أنا عمياء حقّا؟
نظرتُ له .. لقد جلب سترة لي ونسي نفسه! ..لم يعبس هكذا ؟
هل جرحته لهذه الدرجة  ؟ أنا حقا لم أتوقع ردّة الفعل هذه 
توقّفت السّيارة أمام المنزل ولكنّه أخبرني أن ننتظر قليلاً حتّى تخفّ شدّة المطر
لقد كان السكون جميلاً .. مع صوت المطر الّذي يطرقُ بالنافذة .. بعد كل الّذي قاله لم أقل حرفاً واحداً يخفف عنه
"أنا هُنا .. لن أبتعد مجدداً ولن أتصرف بتهور حتّى لن أسرق منك الأشياء مجدداً سأصبح فتاة صالحة"
ابتسمتُ له ولكنّه لم يبتسم ولم ينظر لي
تصاعد الإحباط بداخلي .. هذه المرّة هو غاضب منّي جداً
"كنتُ خائفة" تمتمتُ بهمس
أدرتُ ظهري للنافذة كي ألتفت له بالكامل .. قطّب حاجبيه بتساؤل لأكمل
"كنتُ خائفة من مشاعري .. كنتُ أخافُ أن أكون الطرف الخاسر الّذي يملك مشاعراً لا مقابلَ لها" أنظرُ لتشابك أصابعي وأنا أهمس له
"كنتُ خائفة لأنّني أدركتُ أنّني تعلّقتُ بك ..كنتُ أخاف أن أكون مجرد صفقة بنظرك"
رفعَ بيده وجهي كي أنظر له .. لمَ تلمع عيناه بهذه الطريقة .. هل هذه سعادة؟
"آه يا بركان الأشواق .. على عكسك .. أنا معكِ كنتُ أرضى أن أكون الطرف الخاسر مادامت مشاعري لكِ أنتِ
ولكن الآن بعد قولك هذا .. لقد علقتِ معي يا سُكرة ..ولا مخرج لكِ أبداً" عيناهُ تنظرُ بطريقة غريبة .. شيء أقرب ل هوس ربما؟.. وكأنّه يرسم وجهي بعقله يحفظ تفاصيله  نقطة نقطة
يا له من غبي وكأنني أود أن أبتعد عنه اصلاً ..
"ألم تقل أنّك تودّ تغيير شروط الصفقة" نظرتُ له نظرة خبيثة ليبتعد متسائلاً
" أريدُ أن أضيف شرط أنّه يحقّ لي أن أسرق منك أي شيء دون أن تتذمر وشرط آخر أن ترسمني كل يوم جمعة وأن تنتظرني عندما أتأخّر بكل هدوء "
وضعتُ يدي أسفل ذقني أفكر باستغلال الأمر لمصلحتي وإضافة شروط أخرى ولكن ما حدث بعدها صدمني لأنّه أمسك خدي وسحبه يقرصه .. صدرت منّي صرخة متذمرة
"لماذا"
"لأنّك تجعلين الغضب منكِ صعباً"
"اااه يا خدودي الرقيقة ماذا فعلَ بكِ هذا الوحش " أنظرُ لمرآة السيارة وأتحسس وجهي وأنا أندبُ حظّي
اهتزّ صدره بضحكة خرجت من أعماقه
نظرتُ إليه وأنا أبتسم على ضحكته الصّاخبة ،
بالطّبع سيفعل ، سيضحك
سأحرصُ على اقتلاع الجذور السّوداء من قلبه ونثر زهوري وعبقي ،
سأتصارع مع الأفكار السّوداء في عقله وأبعد مخالبها عن صفاء حياته
هو يستحقّ، غيث يستحقّ أن يحرصَ أحدهم على سعادته ..
أريدُ ذلك أيضاً .. أريدُ أن أهتم كما يفعل .. أنا أدركُ أنّه يخفي الكثير من الأشياء الحزينة بداخله وأنا سأحرص على محوها
سأسعى لسعادته كما يفعل معي
نهضتُ صباح اليوم التالي بنشاط ارتديتُ ثياب العمل وقررتُ ألّا أتأخّر عليه اليوم
بحثتُ عنه بكل أنحاء المنزل ولكنني لم أجده نظرتُ من النافذة ورأيتُ أنّ سيارته بمكانها
جلستُ على الأريكة بإحباط .. لمَ يفعلُ بي هذا ؟
إنّه لا يجيب على هاتفه حتّى !.. نهضتُ من مكاني حين لاحظتُ ورقة ملاحظة على باب المنزل
لديه رحلة عمل لأسبوع ؟
لمَ لم يخبرني ماهذا الأسلوب .. أنا لا أصدق أنّها كانت رحلة مفاجِئة
زفرتُ بحنق .. هذا سيء لأنّني لا أعلم لم أتأثّر لهذه الدرجة وهو مجرّد أسبوع
ذهبت للعمل بتكاسُل .. وكأنّني استطعتُ التركيز !
كنتُ أتفقد طاولته كل خمس دقائق ويتزعزع مزاجي كلما وجدتها فارغة
هذا بشع الشّعور ..
هل فقط لأنّ اسمي شوق قُدِّر لي أن أعيشَ بشوقٍ دائم؟
مرّت الساعات ببطء .. ذهبتُ للعمل وأسرتي ومنزل عمي حتّى أنني اجتمعتُ مع صديقاتي القدامى
ولكن أيّاً من ذلك .. لم يملأ أحدهم الفراغ الّذي تركه بداخلي
والأكثر إزعاجاً أنّه يردّ على اتصالاتي بشكل مقتضب متحججا بالعمل
مضت عشرة أيّام .. يا له من كاذب لقد أخبرني أنّه سيبقى لأسبوع فقط
كنتُ نائمة حينَ سمعتُ صوت الجرس في السّاعة السّادسة صباحاً .. فتحتُ الباب لأجد غيث
فركتُ عيناي من آثار النّوم وأنا أنظر له باستغراب
كان الجوّ بارداً والسّماء تتخللها خيوطٌ حمراء ولونها أقرب للبنفسجي الفاتح ..
"تعالي معي " أمسك يدي ببهجة يسحبني معه لأتذمر بصوت نائم
"توقف أيّها الغبي أنا أرتدي ثياب النوم ألا تلاحظ " ولا ننسى الشبشب أيضاً
نظر لي مبتسماً قبلَ أن ينزع معطفه ويغطيني به
هل يظن أن المشكلة بالبرد وليس بمنظري المريع؟
"هل حللت المشكلة الآن ؟ انظر لقد صار منظري أفظع"
لأنّ البجامة وردية والمعطف بني ويوازي حجمي ثلاث أضعاف
"لا بأس تبدين لطيفة "
ابتسمتُ بحماقة .. تباً له
دون أن ينتظر ردي سحبني يدخلني السيارة ويغلق الباب .. شعرتُ بفارق الجو وبدفء السيارة فتثاءبت
وقد أتتني رغبة ملحة بالنوم مجددا
مهما حاولتُ فهمه لا أستطيع .. ما سرّ هذا الحماس وهذه السعادة في الساعة السادسة صباحاً
كنتُ أرغب بالغضب منه ولكنني أريدُ النوم فقط
أغمضتُ عيناي لأشعر به يرجع المقعد للخلف .. جيد فتى مطيع
غرقتُ في النوم مجدداً وبدفء المعطف البني ..
استيقظتُ بعد مُدّة بطرقات على النافذة ..فتحتُ عيناي بهدوء لتتضح لي الصورة ..ماذا نفعل بالغابة؟
هل أيقظني في يوم عطلتي وأخذني بالبجامة إلى الغابة ..زفرتُ بحنق ونظرتُ له بغضب
فتحتُ الباب وخرجت
"هل يمكنك إخباري ما الّذي يحدث في الصبا ح الباكر"
"أصبحت الساعة الآن الثامنة شوق .. لقد كنتِ نائمة كالكوالا في السيارة طوال الطريق"
"هه مضحك .. الكوالا ظريف بالمناسبة" أتقاتل مع الذبابة الّتي تطنّ بالقرب مني وأتذمر له
" وأنتِ كذلك بهذا المعطف" يعتصر الضحكة ويسخر من منظري أيضاً
"اصمت" نهرته ليتجاهلني ويمشي بي
رغم الجو البارد ولكنني لا أستطيعُ أن أنكر أنّني سعيدة بالمشي في الغابة بهذا  الجوّ البارد
أخذتُ نفساً عميقاً أُدخلُ إلى صدري رائحة الأشجار العطرية اللطيفة وأصواتُ العصافير والكائنات والنسمات الباردة الّتي تحملُ همسات الأوراق
أتحسس التراب أسفل قدمي أدخلُ الطبيعة وأتشبّعُ من نقائها
أنا مطمئنة الآن بشكلٍ كبير ولكنني لا أودُّ إخباره  لأنني أحاول أن أتخذ منه موقفاً ولكنه لا يساعدني بتاتاً
توقفنا فجأة لأجد أنّنا وصلنا لبوابة تؤدي لمنزل ؟ إنّه المنزل الوحيد في هذه المنطقة
فتحَ غيث البوابة ثم سحبني كي ندخل
"توقف ماذا تفعل لا يجب علينا إزعاج الناس في هذا الصباح الباكر " نهرته وأنا أسحب يدي منه ولكنه تجاهلني وسحبني للداخل و .. ياللهول
افترقت شفتاي وتوسّعت حدقتاي لأنّه .. إنّه منزل ساحر ..
في وسط الغابة منزل خشبي ذو واجهة زجاجية أرجوحة في الخارج وحولها الكثير من الورود
جرتني قدماي للداخل أكثر  .. اقتربتُ منه لأرى من خلال الواجهة الزجاجية الكنبات البنية الّتي يتوسطها مدفأة الحطب  لأتخيل صوت فرقعة الحطب واحتراقه المهدئة للأعصاب ثمّ اقتربتُ أكثر الصق نفسي بالواجهة الزجاجية فلاحظتُ المكتبة المليئة بالكتب في نهاية الصالة والكرسي الهزاز الخشبي قربها ليرتجف قلبي .. إنّه منزل أحلامي
رأيتُ على الحائط شيئاً جعل يدي الّتي وضعتها على الواجهة الزجاجية ترتعش
صائدةُ الأحلام بحجم كبير وباللون البنفسجي والأبيض .. هل وجود كل الأشياء الّتي أحبها هنا صدفة ؟!
"يا لك من شخصٍ سيء لقد جعلتني أتجسس على منزل الناس" نبستُ بانزعاج ل ِيضحك؟
"شوق غبائك لطيف ومستفز في الوقت نفسه " سخر مني ثم سحبني لباب المنزل لأجد ورقة مطويّة معلقة عند القبضة
"افتحيها إنّها لكِ" تكلم مبتسماً
اقتربتُ بتردد لأفتحها وَ .. شهقة فرت مني بإدراك
هذه رسمة طفولية رسمتها وأنا صغيرة وكتبتُ بجانبها الأشياء الّتي أحبها بمنزل أحلامي
نفس التفاصيل الّتي أردتها حتّى أفضل من أحلامي في هذا المنزل
"ما لهذا أن يعني؟" سألتُه بصوتٍ مرتجف
كان يقفُ أمامي بقميصه الأبيض الرقيق في هذا الجو البارد لأنّه أعطاني معطفه .. يكتفُ يديه ويخرج من فمه بخار من شدة البرودة وأنفه مُحمرّ ..
"عيدُ ميلادٍ سعيد ايّتها الكوالا الظريفة " بوجهٍ بشوش مبتسم يهمسُ لي
هذا صحيح اليوم عيد ميلادي .. لقد نسيته تماماً لأنّني كنتُ أفكر بهذا المجنون
"أنا لا أفهمك" صرختُ به ولكنه لا ينزعج بتاتا بل يبتسم باتساع أكثر
" أنا أعلم أنّ الكوالا كسول وينام كثيراً ولكن الكوالا البنية الّتي أمامي تتسم بالغباء ايضاً"
دعستُ على قدمه بقوة ليصمت ويتوقف عن السخرية  ولكنه لا يتأثر
"الأمر أشبه بنملة تدعس على قدم فيل " صرّح ومعالم السخرية المستفزة تغزو وجهه
" انظري سأتحمل استيعابك البطيء .. اليوم عيد ميلادك وهذه هديتُك" قال مشيراً للمنزل
لأتراجع إلى الوراء ..تجمّعت الدموع بعيني وازدادت حرارةُ وجهي
أمسكتُ ياقته أهدده بصوت مرتجف " انظر لا تمزح معي بهذا  الأمر هذا مزعج"
تساقطت الدموع من عيني أكثر ليفتح هاتفه يريني صورة العقد "ينقص توقيعك فقط"
تمتم بهدوء مترقباً ردة فعلي
جلستُ على الأرض وبدأتُ أبكي لينظر لي بصدمة .. حين نزل لمستواي سحبتُ شعره أشدّه وبدأتُ أضربه بشكل عشوائي وأنا أبكي
"هل طلبتُ منك شيئاً كهذا ؟هل أنت غبي؟ هل هذه هدية عيد ميلاد طبيعية ؟
أعده لصاحبه لا أريده" صرختُ به وأنا أبكي ليبعد يدي  عن شعره بصعوبة
إنّه لا يتأثر بتاتا لقد كدتُ أنزع شعره من منبته وهو لازال يضحك
" يا الهي هذه أغبى ردة فعل لتلقي هدية أراها في حياتي "
مسحتُ دموعي بأكمام معطفه "أنا أتكلم بجدية غيث لا يمكنني تلقي هدية كهذه "
"أنتِ حُرّة شوق سأحرقه إذاً " نظرَ داخل عيناي ..هذه المرة انمحت تعابير السخرية من وجهه ينبس بجدية
كان جزء بداخلي حذر من جنونه .. اكتشفت أنني لن أستطيع أبداً توقع أفعاله وأنّه قادر على هذا إن أراد
"أنا أصبحتُ متأكدة الآن أنّك تلقيت ضربة على رأسك وأنت صغير ..ماذا يعني أنك ستحرقه؟"
"هذا منزلك شوق صممته من أجلك .. وإن لم يعجبك سأحرقه" قال بجدية بالغة 
هل سأترك هذه الأشياء الّتي أحبها للنيران خسئت  يا غيث.. ويا له من أحمق إنه يظن أنه لا يعجبني
"لم تبكين مجدداً " صرخ بإحباط
"أنتَ غبي هذا أسوأ عيد ميلاد ..أين الكعكة؟" غطيتُ وجهي بيدي أبكي مجددا
فتح الباب وجرّني إلى الداخل .. لقد مسح البلاط بمعطفه رسمياً
"انظري إلى الكعكة إنها هنا " رفعني من على الأرض يديرُ وجهي حيثُ الكعكة وكأنّه يقنع طفلة بالتوقف عن البكاء
أشعلَ الشمعة وقرب الكعكة من وجهي كي أنفخها "هل يمكنك التصرف بعقلانية للحظة واحدة وتتصرفي كفتاة عيد الميلاد وليسَ ك طفلة مات عصفورها؟"
هذه المر ة نظرتُ له بابتسامة وقد ضاق صدري من ثقل الشعور الّذي أحمله تجاهه
نفختُ الشمعة واحتفظتُ بالأُمنية لنفسي
مادامت السعادة بقربي لمَ لا آخذها؟
تركتُه بالأسفل وصعدتُ إلى الطابق العلوي وأنا اصرخ بحماس ..تجولتُ بكُل أنحاء المنزل وأعدتُ الكرة مرة واثنتان وعشرة حتّى تعبت قدماي وغيث يتبعني مبتهجاً بردة فعلي الّتي بدأت تصبح عقلانية بنظره
ألم أقل أنني كنتُ غاضبة منه؟ لقد نسيتُ السبب
"هذا يكفي حان وقت الفطور لم تأكلي شيئاً منذ البارحة هذا سيء "
تجاهلتُ قوانينه وقطعت الكعكة كي نأكلها
جلسنا على الأريكة ثمّ بدأتُ أشكره على كل تفصيل صغير وضعه بالمنزل ولكنه يهرب من  كل شيء بالسخرية والأمر ممتع بشدّة لأنّه يخجل ! ..وما هو أجمل شيء بعد الغروب في الساحل ؟
رؤية غيث الكبير الضخم بوجه أحمر 
نظرتُ إلى الورقة على الأريكة لأمسكها أتذكّر ايّام طفولتي وأنا أبتسم ..
نظرتُ له بامتنان قبلَ أن يصعقني الإدراك "من أعطاك هذه "
"ميرال " ابتسامته تلك لا تبشر بالخير
"هل أعطتك شيئاً آخر " سألتُه بحذر
"رُبّما ألبوم صورك وأنت صغيرة " قال بتسلية واستمتاع  لأختنق بقطعة الكعك هذا سيء هذا سيء
"مستحيل ميرال لن تفعل هذا بي " أخبرته بحدة وأنا أشرب الماء وأكح
"برحلة إلى باريس ؟ صدقيني ستفعل "
"أيّ ألبوم ؟" سألته بخفوت وأرجو ألا يكون الّذي ببالي صحيحا
"الّذي تقومين به بعرض أزياء بملابس والدتك والّذي تبكين به بجانب الصيصان"
قضمتُ شفتاي بإحراج ورميتُ عليه كل الوسادات الّتي بجانبي
"هل كان الأمر يستحق أن تدفع سعر رحلة لباريس من أجله "
" بل أكثر لقد كان يعدّل مزاجي طيلة رحلة العمل المزعجة "
"سأحرقه " تحدّيته
"لدي نسخ منه بعدد شعر رأسك الأمر ليس بهذه السهولة يا شوقي "
شددتُ شعري بهستيرية ليضحك
"هيا لا تزعلي لقد اصبح لديك فكرة عن الهدية الّتي أريدها في عيد ميلادي
وإن كان معه مذكراتك وأنت صغيرة ستكون أجمل هدية أحظى بها "
"خسئت " رددتُ عليه بانزعاج ليبتسم بعبث
"أيّاً يكن لن تكون أفضل من هديتك " همستُ بهدوء وأنا أحرك أصابعي بتوتر
"أليس الهدية تكون مميزة عندما تكون شيء نحلم به " ينظرُ بعُمق داكن انعكس نارُ  احتراق الحطب على عسليتاه لتنتقل الشرارة إلى قلبي
نظرتُ له وللمنزل وَ.. كم تبدو جميلة الأحلام ولمّاعة !  .. أومأتُ  له بخفّة أؤكدُ كلامه
" أنتِ حُلمي"
بعضُ الأصوات تخرجُ من الرّوح ..  ومن شيء عميق داكن
صوته حينَ قال هذه الجملة كان هكذا
اختفت الأصوات والأنفاس من حولي ليبقى هو فقط
هل كان هذا عيدُ ميلادي؟
لمَ أشعرُ وكأنّني ولدتُ من جديد؟
أنا حُلمه
وهو لا يعلم .. أنّني حينَ نفختُ الشمعة
كان هو حلمي أيضا!

سرابٌ أم يقين ؟حيث تعيش القصص. اكتشف الآن