١- تمهيد

10 2 0
                                    

يقال بأن أهوالا معينة يصادفها الإنسان في حياته، تجعله يفقد لمعة عينيه ويعزل شفافيتها الدالة على روحه؛ لتتحول إلى حجرين باهتين يظهران انعكاس ما يقابلانه دون إيحاء بسيط لما يقبع ورائهما.

ربما لهذا عينا ناتاليا الشبه الذابلتين تفرسا في وجه طبيبها بنظرة زائغة، كأنها تنتظر رؤية الأسوء، تغمضهما تارة ثم تفتحهما فجأة كأنها تحاول الإكتشاف إن كان يسرق نفسا عميقا كلما رمشت بجفنيها.

تنتظر وتنتظر، دون أن تهتم إلى درجة الحرارة التي بدأت ترتفع بدرجة لا تحتمل وقد بدأت النار تقضم أطراف الغرفة، بل ضمت ركبتيها إلى صدرها وأراحت ذراعيها تحت ذقنها وهي تستمع بأول دفئ احتضن قلبها في ليلة موسكو المثلجة.

ولسبب ما، أصوات الصراخ والعويل المريب التي هزت جدران المبنى لم تستطع إثارة انتبهاها كما فعلت الساعة الدائرية فوق سريرها، تجعلها تميل رأسها برفق مع كل تكة خفيفة، الثواني كانت تمر ببطئ جديد.

سمع صوت انفجار اخر في الطابق الأرضي واهتز المبنى مجدد، ناتاليا رفعت رأسها الي النافذة وقبضت بيديها الهزيلتين على القضبان السميكة، انكمشت تعابيرها بألم عندما لسعتها سخونة الحديد بينما تحاول نزعها، لتمسك بعدها بشوكتها وتطرقها على الزجاج عدة مرات علها تحدث شطرا بسيطا.

أرادت بشدة أن تنظر إلى الخارج، أن تتأكد من شيء ما، ولكنها استسلمت وعادت إلى مكانها، استطاعت أن ترى فردين من الفريق الطبي وهما يجتازان جسد طبيبها الممتد من باب غرفتها دون أن يعيروها انتباها.

انتهى بها الأمر تغادر سريرها بخطوات متثاقلة، لتجثو أمام طبيبها وتميل برأسها نحو خاصته وتراقبه عن قرب.

لا يبتسم، لا ينظر إليها، لا يتحرك، ميت.

أرادت أن تحفظ هذا المشهد في ذاكرتها حتى لا تنسى بأنها؛ على الأقل، قد رأت جثته.

آخر ما تبقى لتقوم به هو رفع شوكتها بحذر؛ تقربها من جلده المتفحم لتحفر بحذر شديد ما لا تجرؤ على النطق به بصوت عال.

المجنونة العاقلةWhere stories live. Discover now