الصائغ بين الظلام و النور

24 1 0
                                    

إنه الأول من سبتمبر، قضيت عطلتي الصيفية حبيسًا لغرفتي وأحيانًا غرفة أخي، غوصًا في تصفح كنوزه الثمينة التي قد يخفيها عني. أبحث كلصٍ بين رفوف الكتب. فقد ناقضت القول بأن "اللص لا يقرأ، والقارئ لا يسرق". في الثلاثة الأشهر السابقة قضيت أغلبها مع الروايات والكتب، ما يقرب من عشر كتبٍ كانت تدور حول الفلسفة الحديثة والوجودية. كان أخي "محمد" يحرص على أن لا تتسلل أفكار إلحادية إلى عقلي الذي في طور التكوين. لذلك فقد كان يوصيني بكتب أغلبها قد قرئها من قبل، والأخرى بعيدة كل البعد عن الفكر الوجودي للإنسان. قد أزعجني هذا ، لكني قد قدرت له ذلك كثيرًا، رغبة منه في حمايتي من الأفكار الخبيثة المزروعة في بضع صفحات من الورق.

بعد أيام، بالتحديد عندما انتهيت من الكتاب العاشر لعالم النفس "سيغموند فرويد"، كان الكتاب يتناول موضوع تفسير الأحلام ويقدم نظرية فرويد حول دور الأحلام في النفس البشرية ومعناها العميق. اعتبر فرويد أن الأحلام هي نوافذ إلى اللاوعي وتعبّر عن رغبات وأفكار غير معلنة يمكن أن تكون مكبوتة في الوعي. حيث قدم الكتاب مفهوم الأحلام كتعبير رمزي وشرح كيفية تفسير تلك الرموز لفهم محتوى الأحلام ورسائلها. واستعرض فرويد مفهوم الانتقال من اللاوعي إلى الوعي من خلال التحليل العميق للأحلام ومحتواها. وكذلك تطور نظرية فرويد حول المراحل الجنسية وكيف يمكن أن تظهر هذه المراحل في محتوى الأحلام، مما يساهم في فهم عمق تلك الرموز. فكان الكتاب يعرض العديد من الأمثلة والحالات العملية لتفسير الأحلام، مما يوضح كيفية تطبيق نظرية فرويد على تحليل الأحلام الفردية. هذه المفاهيم الأولى والعلامات الأولى كانتا تثيراني للتعمق في هذا الموضوع وفهم المعنى الحقيقي للإنسان.

وهكذا، نضجت بعض الشيء، تغيرت عن شخصيتي القديمة. ها هنا بدأت نشأة الصائغ، المفكر، الحالم، المحب، الواعي، كل ذلك في جمجمة شخص واحد. بدأ يدرك عالمه الصغير، إستيقظت في العاشر من سبتمبر ككل يوم باكرًا كعادتي. لكن ما لاحظته هو أن إخواني قد استيقظوا كذلك. فكيف لهم ذلك؟ فقد ظلوا كل العطلة نائمين إلى وقت متأخر.

فقلت لهم: "ماذا أنتم فاعلون باستيقاظكم في هذا الوقت المبكر؟"
فأجابوني بأن المدرسة هذا اليوم أول يوم،" هل أنت على علم بهذا؟"

قد تذكرت أنه أول يوم في المدرسة. من كثرة جلوسي في غرفتي لم أعد أميز بين التواريخ والأيام. فجل ما كنت أفعله النوم والقراءة واللعب وحيدا . فقمت لأستعد وأنا ممتلئ في الغضب لأنهم قد أفسدوا صفوه دهني ورغبتي في الراحة. هكذا انطلقت كعادتي يومًا كباقي الأيام، إلى مدرستي التي عشت فيها ودرست فيها عامي السابق.
في الطريق وفي لقائي مع بعض أصحابي ، لاحظت أنني لم أعد أتحدث كما السابق فقد طغى الصمت على لساني. لم تعد مهاراتي الاجتماعية كما السابق. واجهت صعوبات في التحدث مع زملائي السابقين أو أشخاصٍ قد عرفتهم من قبل. فقد تغيرت أفكاري ومعتقداتي وفهمي عنهم كثيرًا. فبدأ أشعر بالراحة كما كنت عندما أتحدث معهم. كان التوتر يجتاحني شعوري بالتوتر والنفور منهم. حينها هربت منهم بحجة أني أريد رؤية جدول مواقيتي المعلق بالقرب من باب المؤسسة.

وها أنا ذا أنتظر صديقي العزيز "علي". وقفنا أنا وهو في باب الحجرة متأملين وجوه زملائنا التي كانت تدل على الاستهزاء غير المبرر بسبب تأخرنا بضع دقائق ، الضحك على هذا الأمر التافه أغاظني ، حينما رأتني الأستاذة رفضت أن تدعوني للداخل. بعدها قامت بإدخالنا لصالح صديقي الذي بدا لها فيه بعض اللباقة ، كانت الأخيرة تحمل حقدا غير مبرر تجاهي من العام السابق ،هكذا بدأت أحمل الحقد على معاملتها الساذجة المشبوهة من نرجسيتها.

لكني تجاوزت ذلك لأذهب لمقعدي في أخر الصف، مبتعدًا عن وجهها المنحوس. في وسط سكوني على طاولتي المهترئة، تأملت وجوه الزملاء المتخامين أمامي. لاحظت بعد حين وميضًا في عمقي ، كانت هناك "لؤلؤةٌ" تعرفت على نسيج اجتماعي جديد، وهو الاعجاب بالجنس الآخر، الذي لم أكثرث له حتى هذه اللحظة. غامرًا وسريعًا كالبرق، رأيتها، للتسبب لي ارتفاعًا في نبضات القلب وانفجار سعادة لا يوصف. لا تقارن بحالة انتشاء آخر. لارتقائها إلى مستوى الأمنيات السريعة. رميت النظرة نحوها في كل فرصة، كما يرمي صانع مجوهرات نظرة لأحجاره الفريدة.

ولكن رغم هذا، حقيقة أنها ظلت كهواية جانبية لا يمكن نكرانها. لأني لم أكن مستقرًا نفسيًا وشخصيتي لا تزال في طور النمو، بين سطحية التفكير والنظرة الإيجابية وبصيص أمل نحو هذا المجتمع الملتوي و الملعون. فأنا مجرد مراهق لم يبلغ 15 عامًا بعد، لم يشعر بعبثية الحياة ولا معاناتها ولا مشاكلها. في وسط هالة من الكآبة وسوء الحظ، أفكر في هذا الهراء، متمسكًا بالحياة حتى آخر نفس. مستيقظًا على حقيقة العالم وما فيه من فوضى عارمة، عشوائية مثالية ومتكاملة.

أناس هنا وهناك يسعون لعيش حياةٍ أفضل بشتى الوسائل، سواء كانت صالحة أم خبيثة، لغاية بلوغ شعورٍ بالرضا والسعادة المؤقتين. هذه معادلة غير عادلة، تجعل شخصًا سعيدًا على حساب الآخرين. أشعر أن فهم ماهية الحياة بشكلٍ أوضح قد يمنح شعورًا بالراحة. أ يعني أن نفس الإنسان هي عبدةٌ للمثيرات المادية السخيفة؟ ثقبٌ أسود يجذب كل شيء. رغم تناقض الغرائز البشرية مع هذا المبدأ، يظل الاعتدال بين هذا وذاك هو الكمال الجزئي الذي يسعى الجميع لتحقيقه. حالةٌ من المثابرة للبقاء على قيد الحياة وشدة الحذر من الوقوع في هاوية السعادة الزائفة المزينة بنسيج الاحتياج.

شيءٌ ما لترميم النقص المادي والمعنوي والشعوري، الذي يحرك الحياة وينظمها. إنها مجموعةٌ من الأحاسيس المتنوعة، سلبية وإيجابية، تتبادل الحوار مع نفسي وأتأمل فيها. ماذا كانت وماذا أصبحت. كيف تغيرت نظرتي للحياة؟ كيف أصبحت أكثر انسجامًا مع الظروف وتقبلًا للضغوط؟ فقد وصلت لمراحل متقدمة في التطور والتقبل والتماهي. بتحويل الضغوط إلى دروس وتصويرها وفهمها على أنها مرحلةٌ مؤقتة.

هذا بجعلني أفضل حالًا وأكثر رحمةً بنفسي. لأن معرفة الذات تُعتبر هدفًا أسمى في هذه الحياة. ماذا لو تحققت الرغبات المادية كلها؟ ماذا يأتي بعد ذلك؟ نفسك، روحك، أفكارك، تصوراتك، معتقداتك، كل ذلك يشكل تلك الأجزاء التي تُكملك. إن معرفة نفسك هي كل ما تبقى لك.

You've reached the end of published parts.

⏰ Last updated: Dec 28, 2023 ⏰

Add this story to your Library to get notified about new parts!

صائغ الأحلامWhere stories live. Discover now