الفصلُ الأول.

555 58 67
                                    

| رؤيَةٌ فارِغَة |
.
.
.

الدَقائق الّتي بقيَ فِيها مُتجمدًا و صامِتًا على فِراش المَشفى الأبيض الوثيرِ بعد أن استيقظَ من غيبوبةٍ دامتْ لستّة أيام قَد تجاوزتْ الحدّ الطبيعيّ فنفدَ بذلك صبر والِدته الّتي راحتْ تحتضنُ جسدَ فِلذة كَبِدها الهزِيل و هيَ تنوح مُتوسّلة

-" لُويس، فَلتقل شيئًا بُنَـ.. ـي ! "-

تَبعثرتْ حروفها لهولِ القَلقِ الجاثِمِ على قلبِها، آمِلةً أن ينطقَ فَتاها و يُطفِئ لوعة الهَلع الّتي تعبثُ بكيانِهَا مُنذ أن تعرّض لحادثة مروّعة بقربِ بوابّة مَدرستهِ قبل حوالِي أسبوعٍ واحِد
الصبيّ المَدعو لُويس لَا يبدو أنه يستجيبُ جيدًا لنحيبِ والدتهِ رغمَ سماعهِ لها، كَما تمكّنت أذناه من اِلتقاطِ حواراتِ الأطبّاء حوله و هُم يُطمئنونَ فؤادها المَفطور أن حالتهُ ليستْ استثنائية و ردّة فعله مُتوقعة تَمامًا فهوَ قَد استعادَ وعيه مُنذ سَاعة فَحسب و نَظراً لسنّة الذي لَم يتجاوز الرابِعَة عشر بَعد فَلا عجبَ في أنه لَم يُحسِن تجاوز صدمتهِ بسرعة كافِية و أنه بِحَاجة لوقتٍ إضافيّ ليتكلّم
لَم تَكُن هُناك سِوى ضمادة عريضة لفّت رأسه بأكملهِ و أخفتْ تحتها مُعظم خَصلاتِ شعره النحاسيّة، و ضِمادة أخرى صغيرة الحجم استقرّت في خدّه الأيمن

رغمَ سماعهِ لكلّ الأصوات حوله و استطاعته تَمييزها بِبُطء، و شعورهِ بحضنِ أُمه الدافِئ و تَربيتِ يدٍ مَجهولة على رأسهِ بِرفق لكنّ شيئًا مَا كانَ ناقِصًا .. شَيئًا جعله يُنكر حَقيقة أنه استيقظَ في المقامِ الأول
حرّك يده أخِيرًا و بقيتْ والدتهُ تراقبهُ بعيون مَذهولة و مُترقّبة بشدّة كَما يفعل أباهُ بقربِهَا و الطبيبُ المُختص بِحالتهِ، شاهدوا الصبيّ و هوَ يتحسسّ عينيهِ خالِيَة البريقِ كموجِ بحر المساءِ المُخيف بملامحَ جامِدَة متبلّدة ملأتهَا الصَدمة، و راح يُتمتم هامِسًا و عقلهُ مشوّش

-" أُماه، هَل أنتِ هُنا؟ "-

ثمّ واصلَ كلامهُ الشاحِب بوتيرةِ صوتٍ أعلَى تُشابه الصراخ حينَ بدأ جسدهُ النحيل يَرتجف مُنذرًا بانفعالهِ القَرِيب

-" لِمَا لا يُمكنني رؤية شَيء !! أنَا مُستيقظ ! أنا مُستيقظ ! "-

عمّت الفوضَى عَقلهُ فتابعَ صراخهُ بعدمِ تَصدِيق لهولِ الصاعِقَة الّتي استوعبها لِلتو، تقيّدتْ حركته العشوائِية باحتضانِ أُمه له و هيَ تَبكِي بِحرقة و مَرارة بَالِغة بينما تنهالُ عليهِ بعباراتِ المُواساة و التَشجيع الّتي لَم يكن لها أيّ أثر يُذكر آنذاك .. تحوّلتْ أجواء تلكَ الغرفة الطبيّة البيضاء فِي دقائق مَعدودة إلى زوبعة من النواح و الدموع و تبددّت فرحةُ و لهفةُ استيقاظِ الصبيّ من نومهِ العَمِيق في وقتٍ قِياسيّ إلى حزنٍ و مشقّة تؤلم الفؤاد و حَصلتْ تلكَ العائلة المُحبّة على أيامَ عسيرة و ليالٍ حالِكَة طوال فترة مكوثِهم في المَشفى.

غَير مَرئِي.Where stories live. Discover now