4

149 27 3
                                    

أولى خطواتها داخل الجامعة كانت مرعبة بحق، الجميع يحدق بها، مئات من المآقي تتسع تجاهها، فكرت أن ترجع أدراجها لماذا لم تقم بالخيار الآخر؟
عندما استيقظت من نومها هذا الصباح نظرت إلى مرآتها كعادتها، النقش مازال موجودًا فهي لم تتوقع أن تختفي إذا ما زرفت أطنان الدموع قبيل وقوعها في النوم، أجلت ذهابها إلى جامعتها للمرة الأولى لأكثر من أسبوع، ولكن هذا يتنافى مع طبيعتها المحبة للتعليم والطموحة ولكنها فكرت كثيرًا كيف تمنع ما حدث معها في المدرسة الثانوية ومن قبلها الإبتدائية، لقد كانت منبوذة أكثر من مرض الجدري، أعوام بلا أصدقاء الجميع يلقبونها بالجميلة والوحش إلا إنها لم تكن جميلة مما يجعلها ببساطة الوحش.
استعاضت عن كل شيء ينقصها بالتفوق فكوفئت بمنحة لم يحصل عليها إلا ثلاثة طلاب لارتياد تلك الجامعة الشهيرة، وعلى قدر ما شعرت به من سعادة شعرت بخوف من تكرار ما حدث لها طوال حياتها من تنمر ونفور من المجتمع حولها، لم يكن يساعد جيداء في ما تمر به إلا الشخص الوحيد الذي لطالما اعتنى بها منذ فقدت أهلها.
طرقت أمنية الباب قبل أن تأخذ الإذن بالدخول لغرفة ابنتها المتبناة الواقفة أمام المرآة تحدث نفسها، وما إن رأتها على تلك الحال حتى رق لها قلبها، حضنتها من الخلف وقبلت جانب وجهها الممزق ثم قالت لها:
-سيتعين عليك إتخاذ القرار بالأخير، ولتعلمي أنني أدعمك مهما كان قرارك، وفي النهاية سيارتك الجديدة تشتاق للذهاب إلى الجامعة.
ابتسمت جيداء متذكرة تلك السيارة البسيطة شكلًا والباهظة في قيمتها لأنها هدية أخرى من أكثر شخص يحبها في الكون والشخص الوحيد، التفتت بجسدها الضئيل وقبلت أمنية على خدها ثم دفنت وجهها في صدرها، ولم تمر سوى لحظات حتى شعرت أمنية بالبلل الذي غطى صدرها بسبب دموع ابنتها، فقالت بينما تغالب دموعها هي الأخرى:
-أنا أعلم يا صغيرتي، أنت فقط تشعرين بالوحدة، لقد كنت بموقفك يومًا ما وسيتبدد ذلك الشعور تمامًا عندما تقابلي الأشخاص الجيدين.
تحدثت جيداء بينما تخالط كلماتها شهقات متقطعة نتيجة البكاء قائلة:
-وماذا إلَّم يتبدد؟ ولا أظن أنك مررتي بموقفي من قبل فأنت أجمل شخص رأته عيناي.
-هذا لأنك يا صغيرتي أحد الأشخاص الجيدين الذين قابلتهم في حياتي، وما إن تنطلقي كما انطلقت أنا ستجدين من يقدرك لشخصك، أما عما مررت به فيوم ما سأقص عليكي كل شيء، أما الآن فأنا أريدك خارج هذا المنزل، لديك سيارة كما حلمتي من قبل، لما لا تذهبي الآن وتقطعي بعض الأميال ذهابًا وإيابًا، فلكم تمنيت أن يكون لدي سيارة وأنا بنفس عمرك.
أومأت جيداء برأسها وهمت بالوقوف قبل أن تفضل الحديث عما يدور بداخلها قائلة:
-هل ألبس نقاب؟
لم تدر أمنية ماذا تقول لبرهة من الوقت، فلقد مر بذهنها أيام متتالية متصلة من عودة ابنتها من المدرسة تبلل دموعها وجهها ويخرج الكلام من فمها مختلطًا بشهقات البكاء تشكو من تنمر الجميع عليها في المدرسة حتى أن معلمتها اقترحت عليها أن تلبس النقاب، أي معتلة نفسية تطلب من فتاة صغيرة لم تتجاوز الثانية عشر أن تلبس نقابًا والأمر السيء حقًا هو أنها اقترحته حتى تخبئ تشوه وجهها، طافت الذكريات برأس أمنية وتذكرت ذهابها في اليوم التالي إلى المدرسة وانفجارها في وجه المعلمة أمام مدير المدرسة، التي لم تصدق أن شخص بعقليته يدير مكانًا من المفترض أن يتعلم فيه الأطفال تقبل الآخر عندما بدأ يهدئها قائلًا:
-اهدأي يا سيدتي، إن المعلمة الفاضلة اقترحت هذا الاقتراح بحسن نية، وأهي فرصة النقاب أيضًا ليس سيئًا.
حبست أمنية أنفاسها بصعوبة مخافة أن يخرج لفظ نابي من فمها جراء ما قد سمعته ثم قالت:
-يا سيدي الفاضل ذلك ليس حلًا أبدًا، ماذا لو لم يكن النقاب جزء من عقيدتها أو أنني لا أقتنع به مثلًا، ذلك ليس حلًا للمشكلة صغيرتي تتعرض للتنمر لسبب لا يد لها فيه، الحل الحقيقي للمشكلة هو أن نضيف بعض الأنشطة للطلاب لتعليمهم عن تقبل الآخر.
-مع احترامي ولكن لا أظن أنك على علم بالتعليم في بلادنا، نحن بالكاد نستطيع السيطرة على المواد الدراسية والأنشطة المقررة بالفعل، إلى جانب أني لن أخفيك سرًا، العديد من أولياء أمور التلاميذ من فصل ابنتك يشتكون أن أبنائهم تراودهم الكوابيس بسبب ابنتك.
وقعت كلمات المدير كالصاعقة على رأس أمنية التي كانت تظن أن المتخلفين الوحيدين هنا هما ذلك المدير وتلك المعلمة، لم تكن تعلم أن وباء العطن امتد حتى يصيب المجتمع قاطبة، ما حدث لجيداء كان من الممكن أن يحدث في بلادها كان من الممكن أن يصاب الجميع ولم تكن لتتنمر عليهم.
-للأسف يا حضرة المدير ليس التلاميذ فقط هم من يحتاجون لتعلم تقبل الآخر، يبدو أن المجتمع ككل يحتاج للعودة للمرحلة الابتدائية من جديد، فلا أظن أن أيهم تعلم ما يكفي ليصبح ناضجًا.
عصفت أمنية خارجة بعد أن ألقت كلماتها في وجه المدير وفي ذلك اليوم أدركت أن جيداء وهي وحدهما في مواجهة قرون وقرون من الجهل والخيبة المتفشية في وطن لا يعرف الرحمة.
عادت أمنية إلى واقعها من جديد لتصطدم بحقيقة أنهم تمكنوا من هز بساتين الثقة التي غرستها طوال أعوام داخل ابنتها، ليدفعوا دفعًا لتقول بنبرتها الحائرة اليائسة:
-هل ألبس نقاب؟
وضعت أمنية كفها على جانب وجه جيداء الأيمن ثم همست بنبرتها الدافئة المطمئنة:
-أتعرفين أنك أجمل شيء رأيته في حياتي، دومًا تذكرينني بشخص عرفته في سنوات صباي عندما كنت بالجامعة، كان يتلجلج كثيرًا في الكلام وكان مريضًا بداء الثأثأة ولديه لثغة في نص الحروف، ومع ذلك فقد أصبح خطيب الجامعة وأحد عباقرة المسرح الجامعي، ذلك الفتى لم يستسلم ولم يتخلى عن شيء أراده لمجرد أن الجميع أخبره أنه لن يصلح، لم أستطع التعلم منه ولو قليلًا، ولكنك تشبهينه كثيرًا وأنا موقنة أنك ستنجحين في تخطي أي عقبة تقف أمامك.
-حقًا يا أمي؟!
-حقًا يا حلوتي.
-لن ألبس النقاب إذًا، بالواقع أنا ذاهبة الآن، فلا يمكنني تأجيل يومي الأول إلى الأبد.
أمسكت جيداء حقيبتها والتقطت مفاتيح سيارتها الجديدة العتيقة وقبلت أمها على خدها قبل أن تقول لها:
-ولكن عندما أعود أريد أن أسمع المزيد عن الأستاذ حبيب الجامعة هنا.
أحمر وجه أمنية فأصبح كوردة الجوري بعد تعرضها للشمس طوال الظهيرة وحاولت استجماع طبيعة صوتها قائلة:
-لا ذلك لم يكن شيئًا.
وتمنت وقتها أن ذلك ما حدث أبدًا.

الفتاة ذات نقش التريكوحيث تعيش القصص. اكتشف الآن