الفصل العشرون

208 49 85
                                    

أعادني إلى السرير ووضع الغطاء عليّ في انتظار دلال لتأتي وتساعدني على تغيير ثيابي.. كنتُ أراقبه طوال الوقت.. أودعه بعينَيّ إذ أنني لا أستطيع توديعه بطريقة أخرى.. حرّك الكرسي ليركنه عند الجدار ثم عاد ليقف عندي.. ما زالت الراحة واضحة على معالمه.. انقبض قلبي الذي بدأ يعاتبني على أنانيتي وقسوتي.. لكن حتى قلبي لا يفهمني.. لا فائدة من بقائي.. مرّر إبهامه على وجنتي برفق وقال:

ـ هل تأمرينني بشيء قبل ذهابي؟

ابتلعتُ مرارتي وأنا أطيل النظر إلى عينيه.. ثم حركتُ يدي باتجاه يده فسارع بإمساكها وقد ظهرت عقدة صغيرة على جبينه.. استشعرتُ دفء راحته على راحتي وتسارعت أنفاسي مع تفاقم غصتي.. أطرقتُ بعينَيّ لئلا يلاحظ شيئاً وهمست:

ـ سامحني.

ـ على ماذا؟

جذبتُ نفساً مرتجفاً ثم أجبت:

ـ على معاناتك بسببي.

صمت لثانية.. ثم أمسك بذقني ليرفع وجهي قليلاً يجبرني على ملاقاة نظرته العميقة..

ـ معاناتي الوحيدة هي رؤيتكِ بهذا الحال، أما ما أفعله من أجلكِ فهو الأمر الوحيد الذي يساعدني على تحمّل هذه المعاناة.

أغمضتُ عينَيّ أمنع دموعي من خيانتي.. وفي تلك الأثناء دخلت دلال علينا فتركني نوح وتراجع بخطوة إلى الوراء.. لكن نظرته لم تفارقني.. إلا حين سألته دلال إن كان سيغادر.. فأومأ برأسه وتوجه نحو الباب وهو يعدني بزيارة باكرة يوم غد.. لم تسقط دمعتي إلا حين أغلق الباب خلفه.. فلاحظت دلال ذلك وسألتني أن كنتُ أشكو من ألم.. لكنني هززتُ برأسي نفياً وقلت:

ـ هل يمكنني استعارة هاتفك؟

بدت علامات الحيرة واضحة على وجهها.. لكنها أخرجته من جيبها لتناولني إياه.. فأخذته وأنا أمسك برقبتي قائلة:

ـ الدجاج الذي تناولته يشعرني بعطش شديد.

قالت دلال ببهجة:

ـ هل تناولتِ الدجاج؟

ـ أجل، لم أستطع ردّ عزيمة نوح.

ـ خير ما فعلتِ، سأجلب لكِ قنينة ماء.

حال مغادرتها للغرفة فتحتُ المتصفح في هاتفها لأبحث عن طريقة لإنهاء معاناتي.. طريقة للدخول في غيبوبة.. كنتُ أقرأ الاقتراحات بشكل سريع حيث كنتُ أقرأ كلمتين وأتخطى عشرة من شدة توتري.. ثم وجدتُ الطريقة التي قد أستطيع تطبيقها فقرأتُ كل كلمة بتركيز تام ورددتُ أسم المادة المطلوبة عدة مرات لأتذكرها لاحقاً.. في تلك الأثناء دخلت دلال فخرجتُ من صفحة البحث سريعاً قبل أن أعيد الهاتف إليها وآخذ القنينة من يدها.. ظلت تنتظرني لأنتهي من شرب الماء لتقوم بتغيير ثيابي.. لكني أخبرتها بأنني أشعر بالأرق والاختناق وقد ينفعني التجول في المشفى لبعض الوقت.. نظرت إلى الكرسي المتحرك المركون عند الحائط وقالت:

ـ قد لا أستطيع مرافقتكِ طوال الوقت، فعليّ مساعدة المرضى.

ـ لا مشكلة، يمكنني تحريك الكرسي بنفسي.

أومأت برأسها وقالت بوجهٍ باسم:

ـ يبدو أن نزهة اليوم نفعتكِ كثيراً.

ساعدتني على الانتقال إلى الكرسي المتحرك ثم دفعت به إلى الممر وتمشت معي قليلاً قبل أن تتركني من أجل عملها.. ومن هناك بدأتُ أبحث عن هدفي.. غرفة الأدوية والمعدات الطبية.. كان الوقت متأخراً ولم أرَ الموظفين إلا نادراً أثناء تجولي في الممرات والبحث عن الغرفة.. إلى أن عثرتُ عليها أخيراً حين رأيتُ ممرضة تخرج بصينية عليها بعض الأدوات والحقن.. انتظرتُ حتى خلى الممر من البشر ثم دفعتُ بكرسيي نحو الغرفة ودخلتها.. كانت غرفة ممتلئة بالأدراج والخزانات الصغيرة.. بقلبٍ مضطرب وأنفاسٍ محبوسة بدأتُ أبحث في الأدراج.. لكنها كانت تختص بالأدوات الطبية.. كان عليّ الوقوف لأصل إلى الخزانات.. تمسكتُ بذراعا الكرسي المتحرك وأجبرتُ ساقَي المرتجفتين على الاستقامة.. رفعتُ يدي وتشبثتُ بمقبض الخزانة لأفتحها.. فظهرت أمامي أنواع من علب الأدوية..  بدأتُ أبحث بينها عن المادة المطلوبة.. وأنتقل من خزانة إلى أخرى وأنا أجاهد رجفة ساقَي وخفقات قلبي المؤلمة.. إلى أن وجدتها أخيراً.. المادة التي قرأتُ عنها في هاتف دلال.. المادة التي ستساعدني على الدخول في غيبوبة.. على العودة إلى أهلي.. بأصابعٍ مرتعشة التقطتُ القنينة الزجاجية وكنتُ أنوي الجلوس على الكرسي لكن انطبقت ساقاي تحتي وسقطتُ على الأرض القاسية.. بتأوهٍ تفحصتُ القنينة لأتأكد من سلامتها.. ثم سمحتُ لنفسي الامتعاض من ألم السقوط.. لكن الوقت لم يكن بصالحي.. كان لا بدّ من التعجل.. رفعتُ يدي وبدأتُ أبحث بين الأدراج عن الحقن.. ثم وفي تلك الأثناء سمعتُ خطوات في الممر وشلّت حركتي رعباً.. انحبست أنفاسي ولم يعد يُسمع سوى صوت الخطوات وخفقات قلبي التي كانت أصخب من أي صوت تلتقطه أذنَي.. الخطوات تقترب.. كما تقترب نهاية أملي.. بيدٍ مرتعشة أخفيتُ القنينة في جيب ثوبي لأتمسك ببعض الأمل.. ثم حصل ما لم أتوقعه.. تجاوزت الخطوات الغرفة وواصلت تقدمها.. بعيداً عني.. أغمضتُ عينَي وأنا أجذب نفساً طويلاً.. ثم عاودتُ البحث عن الحقن حتى وجدتها.. أخذت واحدة وبيدين بالكاد سيطرتا من شدة الرجفة بدأتُ أملأ الحقنة بالمادة.. ثم رفعتُ كمّي لتظهر ذراعي بالكامل.. نظرتُ إلى وريدي البارز ولا شعورياً بدأ جسدي يرتجف بأكمله.. يستوعب ما ينتظره.. رفعتُ الحقنة نحو الوريد بأنفاسٍ متسارعة وقلبٍ لم يعد يعرف كيف ينبض.. ثم مرّت كلمات نوح في رأسي..

"بعض التمسك تهلكة"

"شفاؤكِ هو شفائي"

"غيابكِ تركني ناقصاً"

بدأت دموعي تسيل وأنا أغرز الإبرة في وريدي.. ثم تحوّل البكاء الصامت إلى شهقاتٍ ونشيج..وأخذ اهتزاز جسدي يشتدّ مع بكائي.. 

ـ لمَ تبكين؟

التفتُ ناحية الصوت الذي قطع بكائي.. إني في الغرفة المظلمة.. ولا أرى سوى هالته الخافتة.. هل.. نجحت؟.. هل انتقلت؟.. 


خفة وراحة شحصل منج المسكين😒

لا تعبث بعالميحيث تعيش القصص. اكتشف الآن