الفصل الخامس

315 53 70
                                    

أسرعتُ إلى المحاضرة وانتظرتُ مجيء حوراء وسما لأخبرهما بالأمر.. لكنَّ حوراء لم تأتِ بسبب الشقيقة التي تعاني منها فكانت سما المستمعة الوحيدة حين حضرت.. وبدت متحمسةً للأمر بشكل أقلقني.. تحثّني على الذهاب واعطائه فرصة.. فوضحتُ لها بأنها تُسيء الفهم.. الموضوع ليس كما تظنه.. وأنني أفضّل أن تحلّ مكاني.. لكنها قالت بأنها عالجت أسنانها قبل أشهر قليلة ولا تحتاج إلى ذلك.. ولأنهي الدوامة التي وضعني فيها نوح اِتصلتُ بوالدتي بعد انتهاء المحاضرة واستشرتُها في الأمر.. أخبرتُها أنّ بعض طلاب طب الأسنان يحتاجون لمتطوعين ليطبقوا الدروس عليهم.. وأنّ أحدهم عرض عليَّ معالجة أسناني مجاناً.. فشجعتني قائلة إنّها فرصةٌ جيدة.. ربما كان عليّ إخبارها بالتفاصيل أيضاً.. عن لقاءاتي مع نوح وإصراره على اختياري بالتحديد.. لأن جزءاً مني تمنّى أن تمنعني..

توجهتُ مع سما إلى بناية العيادات بعد أن تناولنا شطائر خفيفة من "السنتر" وكان نوح ينتظرنا عند البوابة كما وعدني.. نظرتُ إلى سما بطرف عيني وطلبتُ منها أن تكفّ عن الابتسام.. لكنّها لم تستطع.. رحب بنا نوح ببعض الرسمية.. كان يبدو كطبيب أسنان حقيقي بروبِهِ الأبيض.. ممّا أيقظ شيئاً من الخوف في داخلي.. تبعتُه مع سما إلى مكان عمله فطلب منّي الجلوس على الكرسي ذي الظهر المتحرك والذي أمقتُه بشدة.. ترددتُ لثانية قبل أن أجلس عليه بحذر.. فارتدى نوح القفازات البلاستيكية وَوضع الكمامة على أنفه وفمه ممّا زاد من خوفي.. يبدو أنّهٌ لاحظ ذلك لأنه ابتسم -استطعتُ رؤية ذلك من خلال زوايا عينيه التي شاركت شفتيه البسمة- وقال مُطمئناً:

ـ سألقي نظرة فقط، هلّا فتحتِ فمك؟

نظرتُ إلى سما لا إرادياً.. فأومأت برأسها مشجِّعة.. فتحتُ فاهي فاقترب نوح لينظر إلى أسناني.. وشعرتُ أنّني أرتكب خطأً كبيرا.. كيف قبلتُ أن أكون مراجعةً عنده؟.. وأن يجلس ويعبث بفمي كيفما يشاء؟.. أمسك بمرآة صغيرة وأداة حديدية أخرى ثم قال:

ـ المرآة ستساعدني على رؤية الأسنان من كل الجوانب، أما هذه فسأفحص بها الأسنان، إنها لا تؤذي إطلاقاً، يمكنكِ الاسترخاء.

هل شعر بتقلُّصي؟.. ثم ما خطبه يعاملني وكأنني طفلة؟.. أدخل الحديدتين في فمي وأخذ يفحص سنّاً بعد سنٍّ بحذرٍ جعلَني أسترخي جزئياً رغماً عني.. قال بعد أن انتهى من الفحص:

ـ أرى أنّ هناك ثقباً في هذا السن، لكن قد يكون هناك المزيد، هل تسمحين بأخذ أشعة، إنها لا تؤذي.

رطبتُ شفتَيّ التي جفّت وأومأتُ موافقة.. بعد الأشعة اكتشف وجود ثقبٍ آخر.. لكنّهُ صغيرٌ ولا يحتاج إلى الحشو في الوقت الحالي.. فاكتفى نوح بإعطائي بعض الوصايا التي لو التزمتُ بها سوف تمنع تعمُّق الثقب.. ثم بدأ يستعد لمعالجة الثقب الكبير فقلتُ لسما بشيء من التوسل:

ـ هل تفحصين أسنانك؟ ربما يجد ثقباً؟

ضحكت سما لتجيب:

ـ كيف تخافين وهو يتعامل معكِ بهذا الحذر؟ هيا كفّي عن التصرف كالأطفال.

رمقتُها بنظرة منزعجة قبل أن أعيد تركيزي إلى الطبيب الذي كان يجهز الأدوات.. من ضمنها إبرة التخدير.. قلتُ وأنا أتقدم بجسدي إلى الأمام أنوي النهوض:

ـ لقد تراجعت، لن أستطيع فعلها.

ـ ألم أعدكِ بأنكِ لن تشعري بالألم؟ لا تنظري إلى الأدوات فإنّ منظرها بشعٌ في أعيُنِ الجميع.

أخذ قطنةً ذات شكل أسطواني وغطسها بمادة قائلاً:

ـ لقد اشتريتُ هذه المادة المخدرة خصيصاً من أجلك، لن تشعري بعدها بوخزة الإبرة.

طلب منّي أن أفتح فمي من جديد.. ففعلتُ أثناء صراع كبير مع نفسي.. جزءٌ مني يراهُ أهلاً للثقة.. وجزءٌ آخر يذكرني بأنّ الألم لا بُدَّ منه في حشو الأسنان.. أبعد القطنة بعد لحظات واقترح عليّ اغماض عينَيّ إن لم أشأ رؤية الإبرة.. شددتُ على قبضتَيّ وأغمضتُ عينَيّ بقوة.. عبث بفمي لثوانٍ ثم قال:

ـ انتهينا.

فتحتُ عينَيّ على وسعهما لأقول:

ـ انتهينا؟

ابتسم من جديد ليُجيب:

 ـ إنني عند وعدي، لن تشعري بألم.

نظرتُ إلى سما وقلتُ بصدمة:

ـ لم أشعر بوخزة الإبرة.

فضحكت الأخرى وقالت:

ـ ليتني عالجتُ أسناني هنا.

استرخيتُ أثناء قيامه بتنظيف وحشو السن وكنتُ أفكر بيني وبين نفسي كيف لطالب طبّ الأسنان أن يكون أفضل من طبيبٍ صاحب خبرة سنوات طويلة.. فوجدتُ أنّ الأمر يعتمد على الأسلوب والاهتمام.. إن المعاملة الطيبة مع المرضى والمراجعين لا تتطلب الكثير.. لكنّها تؤثر فيهم كثيراً.. لطالما استهان الأطباء بخوفي حين اضطررتُ لمعالجة أسناني سابقاً.. وكان همُّهم أن ينهوا عملهم بسرعة غير مكترثين لمعاناتي.. من المؤسف أن ينسى بعض الأطباء الجانب الإنساني من مهنتهم.. فهو لا يقلُّ أهميةً عن الجانب العملي..

*****

إنّني هنا من جديد.. في الظلام الحالك.. أقف على بُعد أمتار من صاحب الهالة الخافتة.. وأنتظر تقدُّمَه نحوي.. لأنني كنتُ أفتقدُ القدرة على الحراك والنطق.. بقيَ واقفاً للحظاتٍ يراقبني من مكانه.. حتى خشيتُ أن ينتهي الحلم دون سماع صوته أو اقترابه مني.. لكنّه تحرّك أخيراً.. بخطوات صاخبة كادت تكون مؤلمة ًلأذنَيّ.. لكنَها كانت متمهلة.. وكأنّه يحسب حساباً لكل خطوة.. ثم توقف أمامي.. وسمعتُ صوت أنفاسه للمرة الأولى.. منتظمة.. هادئة... انتظرتُه لينطق بشيء.. لكنّه لم يفعل.. مالي أشعر وكأنّه مثقلُ القلب هذه المرة؟.. وكأنّه يحمل حزناً يفقدُهُ القدرة على الحديث.. شعرتُ بأصابعه تلتف حول يدي برفق.. وبإبهامه يمسح على ظهرها صعوداً ونزولاً.. هيا.. تحدث.. ما خطبك اليوم؟.. لم يتحدث.. لكنّ شيئاً آخر حصل.. سقطت قطرة دافئة على ظهر كفّي.. وضغطت يدُه على يدي بقوة أكبر.. وكأنّه يخاطبني عبر اللمس ويخبرني بشيء مهم.. لكني لا أفهم ما يريد.. كلُّ ما أفهمه أن ما سقط على يدي كان دمعةً منه.. تطبق صدري وشعرتُ بحاجة ملحّة للحديث.. للحراك.. لكني لم أستطع..

استيقظتُ على شعور بالاختناق.. وكأن شيئاً علق في حنجرتي ولن يزول إلا بنوبة بكاء شديدة.. ثم أحسستُ ببلل في يدي.. فرفعتُها لأنظر إليها.. إنّها الدمعة.. ما زالت على يدي..


هاي شنو؟ كام يتمادى صاحب الظل ويدز دمعاته لعالم براءة🏃‍♀️
الله يستر من الجاي..☻️

لا تعبث بعالميحيث تعيش القصص. اكتشف الآن