الجزء الرابع: ملاكي العربيّ

ابدأ من البداية
                                    

-أعرف، هو محترم ولائق إنّما مسألة العمر... لا أدري

-عدنا إلى الموضوع عينه، كوثر، حبيبتي، أنت تستعجلين الأمور، المهمّ الآن أن تريحي سحر من ناحية الخروج، لم تقل شيئًا، شعرت بارتباكها أثناء الفطور، فأنت تعرفين أكثر منّي كم هي حسّاسة

-حسنًا، إعتمد عليّ، كلّ ما يهمّني سعادتها، سأتكلّم معها حالًا

همّ يمان بالخروج من باب غرفته عندما وصله إشعار برسالة خطّيّة من "ملاكي العربيّ"، إنتفض قلبه لمجرّد الشكّ بأنّها ستعتذر عن الموعد، لكنّه تفاجأ بها تدعوه إلى القصر بدلًا من الخروج بمنتهى اللياقة خاتمة بعبارة "إلى اللقاء"، عبارة رسمت على وجهه ابتسامة عذبة، فكتب على الفور وهو يتمتم: " أتمنّاه لقاءً دون فراق".

إستقبلت سحر ضيفها في الحديقة الخلفيّة للقصر تحت سقيفة مربّعة الشكل زُرعت عند إحدى أقدامها الأربع شتلةٌ ضخمة امتدّت فروعها المورقة فوق الألواح الخشبيّة تُظلّل جلسة هادئة أضاف إليها كلام يمان شاعريّة ورومانسيّة:

-في جعبتي كلام كثير لا ينتهي، لكن كلّ ما أريده الآن... هو النظر إليك

أبعدت سحر عينيها اللامعتين عن يمان مرتبكة، أزاحت خصلة من شعرها بأطراف أصابعها لتعود من جديد وتلاعبها ثمّ مطّت شفتيها وابتلعت ريقها تستعدّ للسؤال:

-قلت إنّك لم تنم جيّدًا، هل من مشكلة؟ قلت إنّك ستخبرني

هام يمان بخجل حبيبته، مهجة قلبه، هام في حركاتها البريئة تختلج دواخله، حركات ينحني أمام سحرها حبًّا وإجلالًا، فهو يعشق خجلها وبراءتها ونقاءها وكلّ تفصيل صغير رآه فيها أو لم يرَه بعد. عدّل جلسته على المقعد الخشبيّ وبانحناءة بسيطة صوبها أطلق سراح مخاوفه علّها تحظى ببعض اطمئنانٍ هو أكثر ما يصبو إليه في هذه المرحلة مع ملاكه العربيّ:

-أحتاج إلى بريق أمل يُبدّد اضطرابي، أحتاج إلى... قولي لي، هل حقًّا ما زلت مصمّمة على العودة مع انتهاء الصيف؟ أنا أشعر بصدًى يتردّد في ثناياكِ يُنعش قلبي، عيناك تبوحان بكلّ ما عجز عنه لسانك، لكن... لكن عقلي ينبئني بالرحيل، أما للهوى حكمٌ عليك؟

-مصير الزائر رحيلٌ

-لكنّ الزائر غدا صاحب الدار، والدار بعيدًا عنه تتحوّل إلى حفنة من الأطلال

-سيّد يمان...

وقعت كلمة "سيّد" على روحه وقع الخنجر في القلب، مزّقته، أنذرته بوابل من الطعنات لن يقوى على تحمّلها، فهبّ واقفًا موجوعًا مدمّمًا من الجروح، تقدّم خطوة خطوتين ثمّ انحنى جالسًا يُشاطرها المقعد، سبقته يده إلى خدّها تدير وجهها صوبه لتتشابك العيون. وبصوت عميق دافئٍ حمّله آلام معاناته، إعترف:

-أنا رجل اختبر الدنيا وما فيها، عشت عمري حتّى الآن مشغولًا بإمبراطوريّة وهبتني كلّ ما يطمح له رجل الأعمال من عزّ ومجد وشهرة، بيد أنّها لم تمنحني الشعور الذي انتابني عند رؤيتك، ذلك الحادث غيّر مجرى حياتي، غيّر أولويّاتي. وبعدما التقينا صدفةً في العشاء آمنت بهذا الشعور وسلّمت نفسي له حرًّا فرحًا. أنا، أمامك... أفقد كلّ الألقاب، أمامك، أنا فقط، رجل عاشق ولهان يحيا بك، فكيف تصرّين على الرحيل؟ لماذا؟... لماذا تحكمين علينا بالموت؟

-لا.... أرجوك... لا تقل "موت"، أكره الموت، خطف منّي أغلى ما لديّ

- أنا أريد الحياة، وألف أريدها... لكن لا حياة دونكِ...

أبعدت سحر نظرها عنه قليلًا تستجمع أفكارها، تعلم يقين العلم أنّ كلّ كلمة سمعتها نابعة من صدق مشاعره، كيف لا وهي التي آمنت بهذه المشاعر منذ اللقاء الأوّل؟ أيمكن أن تخنق بيدها النَفَس الذي يمدّها بالحياة؟

-يماااان...

-عيوووون يمان...

-ماتت أمّي منذ شهرين بعد معاناة طويلة مع المرض. تبرّأ منها والدها لأنّها تزوّجت أبي رغمًا عن إرادته، فحرمها من كلّ شيء حتّى أُبوّته. جدّتي المسكينة رضخت لتعنّته مُجبرةً إلّا أنّها بقيت على تواصل مع أمّي خلسةً. بعد وفاة ماما بأسبوعين وصلتني رسالة من جدّتي مفادها أنّ جدّي قد أُصيب بشلل نصفيّ جعله طريح الفراش، ويصرّ على مقابلتي. عرفت من خالي أنّ نصيب أمّي في الإرث قد سجّله جدّي باسمنا، يعني كوثر وأنا، ويريدني، بعد عودتي، أن أنتقل إلى العيش معهم في بيروت .

-من الواضح أنّه شعر بالندم والحسرة ويريد أن يصحّح الخطأ الذي ارتكبه بحقّ ابنته

-يبدو ذلك، أنا، بدوري، لم أمانع لسبب واحد فقط، ماتت أمّي وأمنيتها الوحيدة أن يسامحها جدّي، كانت تردّد دومًا على مسمعي أنّ جدّي سيعود عن قراره لكنّها لن تحيا لترى هذه الأيّام. إحترامًا لذكرى أمّي ولعجوز في أواخر أيّامه ينهشه ندم مرير، ومحبّةً بجدّتي الثكلى سأعود إلى بيروت، سأبقى إلى جانبهما حتّى أنّني اضطررتُ إلى تقديم استقالتي من التعليم في القرية كي لا أفارقهما

-وكوثر؟ ألم ترَه؟ يعني ألم تزر جدّيها؟

-تتواصل فقط مع جدّتي عبر الهاتف لكنّها ترفض رؤية جدّي. حياتها مع سليم جعلتها تعرف أنّ الحبّ ترخص أمامه كلّ التضحيات. حسب رأيها، لو تصرّف أهلي معها كما فعل جدّي لكانت لقيت العذاب نفسه، أشعر أنّها تنتقم لأمّي، للاسف لم تستطع مسامحته بعد

-وأنتِ؟ ما رأيك؟ يعني هل يمكن أن يُضحّى بالحبّ؟

-أنا فتاة مصقولة بالحبّ، ترعرعت بين أبوين كرّسا حياتهما للحبّ، جعلاني أحبّ بلا شروط ، حبّهما غذّى مشاعري، جعلني بطبعي إنسانة حالمة مسالمة ربّما خجولة بعض الشيء، لا أعبّر بسهولة عن حبّي، إنّما من المستحيل أن أعيش بدونه

-سحرررررر... سحرررري...

-يمان...لا تخف من عودتي إلى بيروت، فما يجمع بيننا لا تُعيقه لغات ولا تُفرّقه اختلافات ولا تُبعده مسافات

-حبيبتي... وطننا عشق، ديننا محبّةٌ، لغتنا تفاهمٌ، ومصيرنا واحدٌ

هواكِ عربيٌّحيث تعيش القصص. اكتشف الآن