الجزء الثالث: لا تخافي

318 29 3
                                    

شارف حزيران على الرحيل، وشارف معه إنهاء التحضيرات للحفل السنويّ الذي تقيمه شركة أوغلو تقديرًا لموظّفيها الإداريّين وعملائها كما جرت العادة. لم يكتفِ سليم بإرسال بطاقة الدعوة إلى يمان مع مراد بل اتّصل به شخصيًّا وأثتى على شرف وجوده.

أتت الليلة المنتظرة ترسّخ مرّة جديدة نجاح شركة أوغلو في عالم الصناعة. توزّع المدعوّون في صالة أحد المنتجعات السياحيّة في ضواحي اسطنبول، يستمتعون بالموسيقى الهادئة ويشربون نخب النجاح بانتظار كلمة صاحب الشركة. إختارت سحر أن تجالس السيّدة ليلى في إحدى الزوايا، لم تكن تعرف أحدًا من الحضور ولا تريد أن تلهي كوثر عن القيام بواجبها بالقرب من زوجها. شاح نظرها إلى الخارج فراقتها خضرة الحدائق تمتزج بإنارة خفيفة تدعوها إلى التمتّع ببهائها الطبيعيّ.

كلّت عيناه من البحث عنها فترك الصالة تعجّ بالسامرين منقادًا وراء شعور من الانهزام. كان يمنّن نفسه برؤيتها بعد صدفة العشاء منذ تسعة أيّام، تسعة أيّام بنهاراتها ولياليها، بساعاتها ودقائقها وثوانيها، حاصرت عقله تفكيرًا بها وأسرت قلبه شوقًا لها حتّى جاءته الدعوة خلاصًا لهذا الحصار. تراءى له طيفها بين أحواض الزهر منحنيةً تشتمّ أطيابها، وكالجنديّ المستسلم سار نحوها، يُلقي بسلاحه أمام قوّة سحرها:

-مساء الخير

إستقامت برفقٍ والمفاجأة تغمر قلبها، فالصوت تعرفه والبحّة ألفتها، وبابتسامة خجولة أنهت ما تبقّى من صموده ردّت عليه التحيّة:

-مساء النور

-أنتِ هنا

-أجل

-أتختبئين من أحدهم؟!

-كلّا، ولماذا أختبئ؟

-ربّما لتمنعي الصدفة الثالثة

-لا أحد يستطيع التحكّم بالصدف

-صحيح... تمامًا كالقلب

-القلب؟

-أجل، لا سلطة لنا عليه، أحكام هواه مُبرمة، وجفاء وصاله موتٌ

-قلب، هوى، وصال، معانٍ جميلة، عذبة، فلماذا تربطها بالسلطة والأحكام والموت؟

-إن لم تلقَ صدًى تقتل صاحبها

-وإن... وإن لقيت صدًى؟

-تحييه، آاااه، حبّذا لو تحييه

دنا منها يبغي قربها، وبحركة بطيئة أمسك بيدها اليسرى يضع في راحتها سلسلتها، فلمع وجهها وانتفض صدرها:

-سلسلتي، أين وجدتها؟

أطبق بيديه على كفّها يخبّئ ضالّتها وبصوت عميق حمّله لهفة اللقاء هتف وهو يهيم في زمرّد عينيها:

-هي وجدتني... قطعت طريقي، أسرت تفكيري واحتلّت مشاعري

إهتزّ كيان سحر من وطأة الصراحة في كلامه:" ماذا يقول؟ وبمَ يعترف؟ ربّاه... أيكون...؟" لم يتركها طويلًا لارتباكها فجاد في اعترافه راجيًا:

-أحييت قلبي يوم لقياك فلا تمنعي عنه الحياة. إسمحي له أن يهتف بك ولك، إسمحي له أن يشكوَ همّه، فقد أنهكه عبء السرّ والكتمان

خانتها كلماتها، نسيت مفردات التركيّة وصرفها ونحوها، فلاذت إلى العربيّة تستنجدها:

-كلامك يُفرحني لكن يُخيفني... أيولد الحبّ بهذه السرعة؟ أنا... ألا يمكن أن يكون...

توقّفت فجأة عندما أدركت أنّها تخاطبه بالعربيّة فاعتذرت مبتسمة تحاول صياغة كلامها بلغته فإذا به يردّ مسحورًاعلى الفور:

-أكملي، أرجوك أكملي، أفهم لغتك وأعشق سحرها لكن مع الأسف... لا أنطقها، أحتاج إلى بعض الدروسٍ الخصوصيّة

-حقًّا تفهمها؟؟ وأنا مستعدّة... يعني... بحكم وظيفتي، أنا مدرّسة لغة عربيّة

-حسناء عربيّة تجود عليّ بمبادئ لغتها، في الحقيقة أمر رائع، لكن لا تعتمدي على تركيزي، فهو يضيع في حضرتها

-كلّ الاعتماد على التركيز، هو مفتاح النجاح إن أردتَ الوصولَ

-كلّ ذرّة في كياني تبغي الوصولَ، فلا تحجبي عن تلميذك فيض النور، أنتِ... أنت عنه وحدك المسؤولة

فجأة، تعالى إلى مسمعهما كلام سليم عبر مكبّر الصوت يبدأ خطابه الخاصّ بالمناسبة، فمال يمان برأسه راضخًا ومدّ ذراعه يدعوها للدخول. وبينما يعبران الممشى المؤدّي إلى الصالة أدار وجهه صوبها وهمس: ألحبّ الحقيقيّ يولد بسرعة البرق، على غفلة، ما إن تَرَيْن لمعانه حتّى يقصف بداخلك رعد تهتزّ له روحك وينبض له قلبك... فلا تخافي.

هواكِ عربيٌّWhere stories live. Discover now