الجزء الأوّل: سلسلة ذهبيّة

1K 45 8
                                    

تحت ظلّ سنديانة هرمة شهدت على مناسبات عديدة في القرية، منها الجميل الممتع ومنها الكئيب المحزن، وقفت كوثر مع زوجها سليم إلى جانب أختها الصغرى سحر يتقبّلون التعازي بالأمّ الغالية نادرة بعد صراع مميت مع مرض عضال تربّص لها منذ أكثر من عامين. كان المعزّون يتوافدون إلى ساحة الكنيسة بعيونٍ دامعة وقلوب مفجوعة، لقد أحبّوا "بنت الذوات" كما كانوا يلقّبونها، إذ عاشت معهم كأنّها واحدة منهم. فنادرة هي ابنة الحسب والنسب، والدها أنطون سرسق، تاجر معروف، من أغنى أغنياء بيروت. تخلّت عن العزّ الذي ولدت فيه عندما أغرمت بيوسف كرم، مزارع متواضع من "إهدن" وتزوّجت به رغم إرادة والدها فقطع أيّ اتّصال بها. عاشت نادرة مع يوسف حياة حلوة بسيطة في مسقط رأسه إهدن، وهي قرية نائية من قرى لبنان الشماليّة تتميّز ببساتينها الشاسعة الواسعة تُغدق على أهلها بمواسم خير من التفّاح والإجّاص. أنعم الله عليهما بكوثر وسحر لكنّ يد المنيّة استبدّت بالأسرة السعيدة وخطفت منها ربّ العائلة إثر ذبحة قلبية منذ ثلاث سنوات. وها هي نادرة اليوم، تلحق بزوجها تاركة وراءها صيتًا حسنًا يلمع ذهبًا أورثته لابنتيها مع بيت متواضع تسكنه الألفة والمودّة.

إنتهت مراسم الدفن فعادت سحر مع أختها إلى البيت ثكلى، مكسورة الخاطر، يتيمة وحيدة في هذه الدنيا الواسعة. صحيح أنّ أختها تحبّها وتفديها بروحها لكنّها الآن مسؤولة عن أطفال ثلاثة، يكفي أنّها ابتعدت عنهم منذ أسبوعين عندما وصلها خبر تأزّم حالة والدتها الصحّيّة . دخلت غرفتها تجرّ خطواتها الثقيلة جرًّا حتّى بلغت سريرها فارتمت عليه تُطلق العنان لدموعها الحارقة حسرة وحزنًا على أمّها، مثلها الأعلى في الحياة وكاتمة أسرارها. لحقت بها كوثر تبلسم جروحها وهي تحتاج لمن يواسيها، لكنّها الكبرى ومن واجبها مواساة الصغرى، فكيف إذا كانت الصغيرة ذا قلب نقيّ كنقاء الثلج وأخلاق حميدة وشعور مرهف حسّاس؟ جلست كوثر بجانب سحر وهي تداعب شعرها الطويل الكستنائيّ وقالت بصوت يمتزج بالرجاء والحنان:

-أختي، حبيبتي، أعلمُ مدى حرقة فؤادك وأعرف أنّ خسارة أمّنا لا تُعوّض، لكن أعلمُ أيضًا أنّ الوجع الذي كانت تعيشه ماما لا يُحتمل، ألم نصلِّ لها كي تنجوَ من هذا العذاب المضني؟ لقد ارتاحت من آلامها المُبرحة صدّقيني، أنت مؤمنة وتدركين أنّ الموت حقّ علينا، فلنصلِّ لراحة نفسها كي تكون بجوار الربّ.

مسحت سحر عَبَرات الأسى بيديها المرتعشتين مستجمعة بعضًا من قواها الخائرة ثمّ تنهّدت قائلة:

-آمين... أتعلمين ما يبلسم ألمي؟ ماما... ستلتقي بأبي من جديد... روحها ستعانق روحه، وهذا ما كانت تتمنّاه بعد موته

في غرفة الجلوس كان سليم يخابر أمّه التي بقيت في اسطنبول تهتمّ بأحفادها خلال غياب أمّهم. أبلغها أنّه سيصل إلى اسطنبول مساء الغد وكوثر ستبقى مع سحر لبضعة أيّام أخرى، علّها تقنعها بمرافقتها حتّى تستقرّ نهائيًّا معها بعدما أصبحت وحيدة.

هواكِ عربيٌّWhere stories live. Discover now