عبير العمر الضائع الجزء الثالث من سلسلة وللعمر بقية - الفصل الأول

527 11 0
                                    

الحاضر
فتاة جميلة.. كانت حقًا طفلة جميلة بعيون زرقاء لامعة.. وشعر كستنائي وبشرة سمراء.. ابتسامتها ساحرة ولطيفة.. وعيونها تلتمع بحماس طفولي وهي تنظر للعلبة المغلفة بين يدي السيدة ذات الشعر الأحمر الساحر والعيون الحانية.. تتأملها بشكرٍ صامت ولهفة لهدية لن تنال مثلها الكثير.. هدية تمثل فرحة نادرة لصغيرة لا يجب أن تعرف سوى الفرح بعمرها هذا..
كل هذا دار برأس السيدة في ثانية واحدة مع رؤيتها تلك الصغيرة.. وكانت متأكدة أن الشبه بينهما هو السبب.. انحنت وسلمتها الهدية لتقفز بسعادة وهي تتساءل: "ما الذي بداخلها؟"
وضعت إصبع على أنفها وهي ترد بمشاكسة: "هدية تليق بك.. يفضل أن تكتشفيها بنفسك"
-:"هيا ابتعدي لآخذ دوري"
كان هذا الهتاف من الصغير الذي يتبعها بالدور.. فابتعدت فورًا ليظهر المشاكس الصغير الذي مد يديه فورًا.. وهو يبتسم بسعادة هاتفًا: "أريد هديتي سيدتي"
ضحكت بخفة وسلمته العلبة وتابعت تسليم باقي الأطفال هداياهم.. ولم تتوقف إلا مع انتهاء الطابور الطويل لأبناء الملجأ.. وقفت تتطلع لهم بسعادة بالغة ونادرة.. كان هذا هو الأمر الوحيد الذي يجعل الفرحة تزور قلبها.. رؤية السعادة على تلك الوجوه البريئة.. وهي تتذكر أنها كانت مثلهم يوماً ما.. لكن لم تكن تجد من يمنحها حتى نظرة عطف..
-:"لا نعلم كيف نشكرك آنسة لورا"
تلبستها روحها الأخرى بتلك اللحظة.. والتفتت تنظر بانزعاج لمجموعة الشياطين المؤتمنين على بعض الملائكة.. كانت تعلم حقيقة ممارسات المشرفين على هذا الملجأ.. وكيف يسرقون أموال المتبرعين.. لكن هذه كانت شائعات.. تتردد على أنها شائعات مغرضة ليس لها دليل كالعادة.. كل شيء حقيقي بالجحيم الملقب عبثاً بالحياة يلبسونه كلمة شائعات.. حياة مقيتة يملأها الحقراء من بني آدم.. كم تكرههم!
رفعت ذقنها واقتربت من تلك الحقيرة التي انتابها القلق من منظرها.. وقبل أن تفتح فمها انحنت وهمست: "أنا أفعل هذا لأجل الصغار.. لا لكي تشكريني يا امرأة"
ابتلعت مشرفة الدار لعابها وتكبدت عناءاً كبيراً لتبتسم وترد لكنها عاجلتها بالإكمال: "لكن اعلمي أني سأعرف لو أنفقتم هذا المال الذي تبرعت به على أي شيء عدا الأطفال.. ووقتها لا تلومي إلا نفسك"
ثم تجاوزتها ببساطة وهي ترتدي نظاراتها الشمسية وتحركت لتغادر الدار.. لكن الأطفال اعترضوا طريقها.. وبدأوا بالهتاف بسعادة وحب بينما يشكرونها على ما قدمته لهم.. وكانت تلك هي اللحظات الوحيدة بحياتها التي تمنحها سعادة حقيقية.. لحظات تنزع عنها كل ما تحيط به نفسها.. لحظات تعيدها لحيويتها.. تعيدها للفتاة التي كانت عليها يوماً ما.
:"هل ستعودين مجدداً؟"
تجمدت بمكانها وهي تنظر للصغيرة وسؤالها يطن بأذنيها.. مع شعور قاسٍ بثقلٍ قاتل يهوي داخل صدرها ليؤلمها.. ارتجفت يديها وشعرت ببرودة قاتلة.. شعرت برغبة معتادة بأن تجلس أرضاً وتبكي وتصرخ.. لكن ما كان ليحدث.. هي لا تنهار.. هي لا تبكي!
وتزامناً مع تكرار تلك الكلمات قبضت كفيها لتخفي ارتجافهما.. ثم أعادت رسم الابتسامة على وجهها.. وهي تمد كفها لتربت على رأس الصغيرة بينما ترد: "سآتي لزيارتكم كل شهر كالمعتاد.. وإن امتلكت أي وقت فراغ سآتي لرؤيتكم"
-:"سنشتاق إليك"
عادت السعادة تسكن صدرها مع رؤيتها لتعلقهم بها.. وتكرارهم لكلمات يصفون بها كم يحبونها وكم سيشتاقون لها.. وبعد دقائق قصيرة ملأت صدرها بالفرح تنفست بعمق لتحمل نفسها على تركهم بعد توديعهم على وعدٍ أن تعود بيومٍ آخر.
****
وصلت لوجهتها بعد فترة من قيادة سيارتها ولكنها لم تغادرها..
رغماً عنها كان سؤال تلك الصغيرة يتردد ببالها بلا توقف.. لذا هي احتاجت بضع ثوانٍ فقط لتستعيد تركيزها.. لكنها لم تتمكن فقد كان كل جزء من وعيها يتجه لذكرى بعيدة تحاول محوها.
&&
كانت سعيدة بالدمية الجميلة.. كانت تشبه الدمية التي تراها على التلفاز بالبرنامج المسائي.. رفعت عينيها للسيدة التي كانت تسير مبتعدة وصرخت بحماس: "شكرا لكِ سيدتي"
وقفت بمكانها دون التفات فشعرت أنها فرصتها.. وركضت نحوها ثم وقفت بجوارها وهي تسألها: "هل ستعودين مجددا؟"
&&
ضربت بكفيها مقود السيارة بعنف وهي تهتف: "أفيقي لورا.. أفيقي!"
رفعت وجهها تنظر للمكان أمامها لتؤكد لنفسها أن كل هذا انتهى قبل أن تكمل: "لقد انتهى كل هذا"
أخذت نفساً عميقاً ثم هبطت من السيارة.. مقررة أنها لن تخضع لسطوة الماضي على عقلها.. تحركت تدخل محل التحف الذي تمتلكه.. وما أن وصلت اقترب سام منها قائلا: "عزيزتي لورا.. الرسامين والفنانين التشكيليين الذين اخترتهم بالداخل بانتظارك"
أومأت له برضا ثم تحركت نحو مكتبها.. لتجد مجموعة من أربعة.. ثلاث شباب وفتاة كانوا لا يزالون بمقتبل العمر.. ابتسمت نحوهم برسمية ثم جلست بهدوء وهي تقول: "تشرفت بمعرفتكم"
تبعوها بالجلوس وقبل أن يفتح أياً منهم فمه قالت بعملية: "أنا لا أحب المقدمات ولا الحديث المطول.. ببساطة أنا اطلعت على أعمالكم وقد أبهرتني حقاً.. لهذا أنا فكرت بأن ننتج منها مصلحة مشتركة كما أخبركم سام قبلاً"
ابتسمت الآنسة والتي كانت لا تذكر اسمها.. لكنها كانت تذكر اللوحة التي سحرها من حرفيتها وتفاصيلها.. ولم تتخيل يومها وهي تتجول بين أروقة كلية الفنون الجميلة.. أن فتاة حديثة التخرج قد رسمت شيئاً بهذه الروعة..
:"عفوا سيدة لورا"
قالتها بأدب ثم أكملت: "هلا أوضحتِ لنا قليلاً بعد؟.."
أومأت وارتاحت بمقعدها وهي ترد: "أنا سأقيم معرضاً خلال فترة قصيرة لأستعرض بعض التحف التي سأحضرها من إيطاليا وإسبانيا"
لفت إحدى خصلاتها على إصبعها وهي تكمل: "لكن استعراض التحف ليس شيئاً جديداً فأنا أفعل هذا منذ افتتاحي لمشروعي قبل عام من الآن.. لهذا فكرت بشيءٍ جديد.. وهذا الشيء الجديد هو أنتم الأربعة"
أنهت حديثها مع دخول الساعي بالمشروبات لمكتبها وما أن قدم لكلٍ منه كوبه غادر وعادت هي تكمل حديثها: "أنا سأقدم بعضاً من أعمالكم في معرضي.. وسأعرضها للبيع بطريقتي الخاصة"
نظروا جميعاً لبعضهم.. قبل أن يلتفت أحد الشبان الذي كان أصغرهم سنا و سأل بارتباك: "سيدتي عفواً للسؤال.. لكن ما المقابل الذي ستتلقينه منا؟"
:"لا شيء"
قالتها ببساطة ثم احتست قليلاً من القهوة قبل أن تكمل: "لا شيء مادياً سآخذه مسبقاً.. لكن أنا سأطلب منكم تنفيذ بعض الأشياء بعيداً عن معروضاتكم كتذكارات للمدعوين ككروت صغيرة مرسومة وكتيبات خاصة.. ومقابل كل قطعة ستباع لكم ستتلقون ربع ثمنها.. بينما أنا سآخذ الربع.. والنصف المتبقي سيتم التبرع به لدور الأيتام ومستشفيات الأطفال.. كل هذا سيكون مكتوباً بعقد ستوقعونه إن تم الاتفاق.. لكن تكاليف المعرض وكل متطلباته وأي أدوات تحتاجونها سأتكفل بها.."
نظروا لبعضهم البعض باندهاش.. فنهضت وهي تردف: "للأسف أنا لدي الكثير من الأشياء لأفعلها.. عرضي متاحٌ لكم لمدة ساعتين فوقتي ضيق.. وبحال رفض أحدكم سأبحث عن غيره"
وما كادت تتحرك إلا ووجدت الشاب الأصغر بينهم ينهض سريعا قائلا: "أنا موافق"
نهضت الفتاة وردت: "وأنا أيضا"
ثم تبعهما الشابين ليقولا بذات الصوت: "أنا أيضا"
ابتسمت بلباقة وردت: "جيد"
ثم ضغطت زراً أسفل مكتبها ليدخل سام فوراً فقالت: "سام أطلع السادة الأربعة على العقود وبنودها.. وبعد أن يقرأوها بتمعن ويأخذوا ضيافتهم اجعلهم يوقعون عليها"
تحركت بعدها وهي تكمل: "للعلم فقط المعرض سيكون بعد ثلاثة أسابيع"
-:"فقط؟!"
-:"ماذا؟!"
التفتت لهم ما أن ردوا بتلك الكلمات.. وبذات الابتسامة الهادئة ردت: "أنا لا أناقشكم بالموعد أنا فقط أعلمكم.. وإن لم تكونوا على قدر المسئولية التي أضعها على عاتقكم.. يمكنكم الرحيل ببساطة وسأجد آخرين"
التفتت بعدها لتغادر دون أي كلمة إضافية.
****
بعد بضع ساعات
تحركت بين الفساتين وهي تشعر بمللٍ شديد.. فلا شيء قد جذب انتباهها.. التفتت وكانت على وشك المغادرة.. لكنها رأت فتاة صغيرة تقول بارتباك: "هل... هل أساعدك... أعني هل تسمحين لي بمساعدتك سيدتي؟"
نظرة سريعة على المرأة المتغطرسة التي تقف خلفها والتي على ما يبدو مسؤولة عن العاملات بالمحل.. ثم نظرة على الفتاة الصغيرة التي كانت ورغم براءة ملامحها.. تبدو مرتبكة وخائفة.. عينيها اللامعتين بالدموع تتوسلانها ألا تخذلها.. وعندها ابتسمت وردت: "أجل عزيزتي.. أنا حقا بحاجة للمساعدة"
التفتت لورا واتسعت ابتسامتها مع سماعها تنهيدة الراحة التي صدرت عن الفتاة.. قبل أن تتحرك متلمسة أقمشة الفساتين: "أترين.. أنا الليلة لدي سهرة مميزة.. وموعد مع شخص يهمني أن أجعله لا يرى غيري"
التفتت بعدها ورفعت إصبعها بينما تكمل: "لكن لا أريده أن يشعر بأني أريد جذب انتباهه"
-:"إذاً لنبتعد عن اللون الأحمر"
قالتها بينما تقترب منها وتكمل: "أخبريني ما مواصفات الفستان سيدتي"
-: "ليس لدي مواصفات معينة غير ما أخبرتك به.. أريد فستاناً يبرز أنوثتي.. لا أهتم إن كان عارياً أو محتشماً.. أهتم فقط بما طلبته"
ألقت كلماتها بعملية وبرود ثم التفتت بعدها تشير للمكان بإصبعها وهي تكمل: "لا شيء لفت انتباهي هنا"
-:"لدينا تشكيلة رائعة بالطابق الثاني"
قالتها وهي تتقدمها لترشدها للطريق بينما تكمل: "أنا واثقة أنها ستنال رضاكِ"

بعد مرور ساعة
كانت تقف أمام آلة البيع لتدفع ثمن ما اشترته.. ومع ملاحظتها للنظرات الملتهبة التي شيعتها تلك المرأة.. نحو الفتاة الصغيرة المدعوة أمينة والتي ساعدتها بانتقاء ثوبها.. اقتربت من الفتاة الواقفة بجوار المسؤولة عن آلة الدفع وقالت بلطف: "هل لك أن توصلي هذه للسيد صاحب المحل"
قالتها وهي تمنحها بطاقة التعريف الخاصة بها.. وقد وافقت الفتاة بأدب ثم تحركت نحو غرفة خلفية.. ولم تكد تمر دقيقتين إلا ووجدت رجلاً بمنتصف الأربعينيات لا يبدو عليه كبر السن يخرج من الغرفة ويتجه نحوها.. ما أن وصل قال بابتسامة عريضة وترحاب: "أنرتِ محلنا المتواضع سيدة لورا"
ابتسمت بهدوء وردت: "شكرا سيد مدحت.. أنا سعيدة بسماعي نصيحة زوجتك والقدوم إلى هنا"
ثم أشارت لأكياس الفساتين التي ابتاعتها وهي تكمل: "يمكنك استنباط هذا"
ابتسم بسعادة ورد: "هذا شرفٌ لي آنستي.. أتمنى أن تكون المعروضات قد لاقت إعجابك"
هزت رأسها وقالت بدلال: "بصراحة لم أجد ما يجذبني بالبداية وقد حطم هذا قلبي للغاية"
ظهر القلق على ملامحه مع الحيرة وقد تركته هكذا لثوانٍ لكي يكون وقع كلماتها التالية مدوياً عليه.. التفتت بعدها نحو الفتاة الصغيرة وأكملت: "لولا أمينة التي أرشدتني لما يناسبني ويسرني.. أنت محظوظ بفتاة بذوقٍ رفيعٍ مثلها"
-:"حقا؟"
أومأت له بينما لاحظت السعادة والخجل اللذان احتلا الفتاة ثم تنهدت وهي تكمل: "بصراحة وجودي هنا ليس بغرض الشراء وحسب"
اقتربت منه وقدمت له كتيب صغير بينما تكمل: "كما تعلم أنا سأقيم معرضاً خاصاً بتحفي الجديدة.. ولابد أن زوجتك أخبرتك أن زبوناتي يعشقن الموضة والفساتين.. لذا فكرت بعمل عرض أزياء بسيط وقد رشحتك زوجتك.. وأردت التأكد من صحة مدحها لك"
التفتت لأمينة وأردفت: "وبما أرتني إياه أمينة.. فأنا تأكدت من صحة مديحها.. لذا يمكننا التوصل لصفقة إن كنت مهتماً"
كانت الابتسامة تتسع مع كل صفحة يقلبها في الكتيب.. قبل أن ينظر لها قائلا: "سيدتي أنا مهتم بالتأكيد.. يكفيني شرفاً أن يكون اسمي بجوار اسمك"
: "هذا لطفٌ منك.. سأنتظر مكالمة منك أنت أو السيدة صافي"
قالتها ثم التفتت للفتاة لتكمل دفع الحساب.. فأسرع يقترب منها ويبعدها قائلاً: "أتمنى أن تقبلي هديتنا البسيطة لأول زيارة لكِ.. خصم بقيمة 15 بالمائة من قيمة المشتريات"
قدمت له بطاقة الدفع الإلكترونية بينما ترد: "شكراً جزيلاً سيد مدحت"
ثم التفتت لأمينة واقتربت منها وقدمت لها مبلغاً مالياً.. ما أن رأته الفتاة صُعِقَت وقالت: "سيدتي شكرا لا دا..."
:"أمينة"
التفتت لصاحب المحل الذي أكمل: "ليس من الذوق أن ترفضي إكرامية السيدة"
أسرعت هي بوضع المال بيدها وقالت: "سأحزن إن لم تقبلي"
ابتسمت لها وردت: "شكرا جزيلا سيدتي"
التفتت بعدها ومدت يدها لتحمل الحقائب: "رجاءاً"
التفتت له بينما يشير لأحد عمال النظافة ليحمل الحقائب عنها.. ثم قدم لها البطاقة وهو يكمل: "أنرتنا وسأتصل بحضرتكِ هذا المساء"
أومأت بأدب ثم التفتت لتغادر.. وما أن خرجت من المحل تنهدت بملل وهي تهمس: "يا له من رجل ممل.. كيف سأتعامل معه؟"
:"عفواً سيدتي.. هل تقولين شيئاً؟"
سألها العامل الذي كان يسير على مسافة منها فردت: "لا شيء"
ثم ابتسمت بعد لحظات.. ولفت إحدى خصلات شعرها على إصبعها بينما تهمس لنفسها: "وإن كان مملاً.. المصلحة تقتضي أن أتعامل معه.. لذا سأجد طريقي"
****
مساءاً

عبير العمر الضائع - الجزء الثالث من سلسلة وللعمر بقية -مكتملةحيث تعيش القصص. اكتشف الآن