الخزانة

30 3 0
                                    

يا عمار .. يا عمار .. يا عمار ...
ها؟
صدر ذلك الصوت الاستنكاري الملئ بالدهشة من "عدي"، وهو الأخ الأصغر ل"عمار" حين فتح الخزانة ووجد أخاه مستلقياً فاقداً للوعي، فذهب ناحيته مسرعاً لينظر إليه عن كثب، وانهالت دموع الأخ الأصغر هلعًا على أخيه وصرخ بصوتٍ عالٍ قائلاً: يا أمي .. يا أمي .. تعالي يا أمي ...
أتت الأم في هرولة وهي تمسك ملعقة خشبية في يدها وتضع قفازاً في اليد الأخرى وتقول بصوتٍ عال ما بك يا عدي؟ سيحترق الطعام ماذا حدث؟ ..
فلم يصدر من عدي سوى صوت الصمت ..
ذهبت الأم إلى الغرفة .. تصلبت مكانها من المنظر ..
كان عمار مستلقياً في الخزانة ولكن بصورة غريبة! .. كان جسده بالكامل على أرضية الخزانة ورأسه وكتفيه يستندان على ركن من أركانها، وكأنه سقط فجأة وفقد وعيه ..
لم تشعر الأم بالوقت - حتى سقطت الملعقة الخشبية من يديها - وفاقت على صوت ارتطامها بالأرض .. اسرعت الأم نحو عمار ووضعت يدها ذات القفاز على رأسه وحركت رأسه وظهره فجعلته جالساً باعتدال مستنداً على احد حوائط الخزانة .. وظلت تنادي .. يا عمار .. يا عمار .. وتهز رأسه، ولكن عمار لم يكن يستجيب على الإطلاق ..
انهالت دموع الأم من الخوف على ولدها، وصرخت في عدي: اذهب وأحضر بعض الماء حالاً.
لم تسمع الأم رداً من عدي مرةً آخرى، فذهبت تبحث عنه بعينيها، ووجدته جالسًا في أحد أركان الغرفة في وضع القرفصاء يبكي بحرارة ويعتريه الخوف والهلع ..
شعرت الأم بخوف ولدها الصغير، فأذا بصوتها يتغير .. وتقول بصوت رقيق حنون: يا ولدي، يا عدي هلا أحضرت لي بعض الماء .. لا تقلق يا عزيزي، أنه بخير، فقط أحضر لي بعض الماء وسوف ترى ..
وإذا بعدي يسترق النظر إلى أمه بعينيه البريئتين التي تملئهما الدموع ويلم شتات نفسه ويذهب إلى المطبخ ويحضر بعض الماء ..
أخذت والدته الماء ثم بدأت في سكب بعضٍ منه على يديها والمسح على وجه عمار مرة تلو الأخرى ..
وفاق عمار أخيرًا، كان تعتري والدته ابتسامة حنونه تملأها السعادة، وكأن روحها قد عادت إليها ..
ولكن، لم تدم تلك الابتسامة سوى لحظات قليلة .. صرخ عمار فور صحوته قائلاً: لقد رأيتهم لقد رأيتهم، والله قد رأيتهم، لقد رأيتهم يا عدي صدقني، والله قد رأيتهم يا أمي، أنا خائف لا أريد أن أراهم أبداً مرة اخرى، أنا آسف سامحوني .. أنا آسف سامحوني ..
وظل عمار يكرر هذه الجملة .. "أنا آسف سامحوني" ..
لم تفهم والدة عمار ما يحدث وظلت تنظر إلى ولديها نظرة حيرة .. هي لا تدري ماذا يدور من حولها؟
تملقت الأم عدي بنظرات كلها تساؤلات ولكن ما بال عدي وما أدراه في مثل هذه الأهوال؟ ..
عدي ما زال طفلاً في الثامنة من عمره لا حول له ولا قوة، طفل برئ وهذا الموقف بأكمله يبدوا له كمشهدٍ من أحد أفلام الرعب التي كان يشاهدها مع عمار وهو يحتضنه ويختبئ في ظهره من الخوف ..
ولكن أبعدت الأم عينيها اللتان كانا يراقبان عدي حينما بدأ جسد عمار يرتجف بشدة من كثرة الخوف، ولم يكن من والدته سوى أن بدأت تمسح بيدها على شعره وتطمئنه: لا تخف يا ولدي، لا تخف يا عمار أنت بخير أنا هنا بجانبك لن يؤذيك أي أحد ..
هدأت الكلمات من روع عمار و بدأ يغمض عينيه، وأعانته أمه على الوقوف حتى وصل إلى سريره في الناحية الأخرى من الغرفة واستلقى عليه، ووضعت أمه المدفئة من فوقه، وراح عمار في النعاس ..
أشارت الأم إلى عدي في صمت ليخرج من الغرفة في هدوء، وما كان من عدي إلا أن استمع إلى كلام أمه بعد ما التقط بعضًا من أنفاسه حينما رأى أخاه نائماً في سلام واطمأن أنه بخير ..
خرجت الأم خلف عدي وأغلقت الأضواء وباب الغرفة ..
ثم نظرت إلى عدي نظرة تأنيب، يعلم عدي هذه النظرة جيدًا، في كل مرة يخفيان فيها أمراً يفعلانه ثم تكتشفه الأم، يأتي موعده وهذه النظرة ليلتقيا ..
بادر عدي بالحديث قائلًا: حسنًا يا أمي سأخبرك، أنا كنت سأخبرك على أي حال أنا لا أعلم ماذا حدث لعمار، ولكني سأخبرك بما فعلناه ..

لا يأتون إلا لمن ذكرهمحيث تعيش القصص. اكتشف الآن