Chapter 5

10.8K 144 13
                                    

باب الأسد والثور وهو أول الكتاب

قال دبشليم الملك لبيدبا الفيلسوف، وهو رأس البراهمة: اضرب لنا مثلاً لمتحابين يقطع بينهما الكذوب المحتال، حتى يحملهما على العداوة والبغضاء. قال بيدبا: إذا ابتلي المتحابان بأن يدخل بينهما الكذوب المحتال، لم يلبثا أن يتقاطعا ويتدابرا. ومن أمثال ذلك أنه كان بأرض دستاوند رجلٌ شيخٌ وكان له ثلاثة بنين. فلما بلغوا أشدهم أسرفوا في مال أبيهم؛ ولم يكونوا احترفوا حرفةً يكسبون لأنفسهم بها خيراً. فلامهم أبوهم؛ ووعظهم على سوء فعلهم؛ وكان من قوله لهم: يا بني إن صاحب الدنيا يطلب ثلاثة أمور لن يدركها إلا بأربعة أشياء: أما الثلاثة التي يطلب، فالسعة في الرزق والمنزلة في الناس والزاد للآخرة؛ وأما الأربعة التي يحتاج إليها في درك هذه الثلاثة، فاكتساب المال من أحسن وجه يكون، ثم حسن القيام على ما اكتسب منه، ثم استثماره، ثم إنفاقه فيما يصلح المعيشة ويرضي الأهل والإخوان، فيعود عليه نفعه في الآخرة. فمن ضيع شيئاً من هذه الأحوال لم يدرك ما أراد من حاجته: لأنه إن لم يكتسب، لم يكن مالٌ يعيش به؛ وإن هو كان ذا مالٍ واكتسابٍ ثم لم يحسن القيام عليه، أوشك المال أن يفنى ويبقى معدماً؛ وإن هو وضعه ولم يستثمره، لم تنعه قلة الإنفاق من سرعة الذهاب: كالكحل الذي لا يؤخذ منه إلا غبار الميل ثم هو مع ذلك سريعٌ فناؤه. وإن أنفقه في غير وجهه، ووضعه في غير موضعه، وأخطأ في مواضع استحقاقه، صار بمنزلة الفقير الذي لا مال له؛ ثم لا يمنع ذلك ماله من التلف بالحوادث والعلل التي تجري عليه؛ كمحبس الماء الذي لا تزال المياه تنصب فيه، فإن لم يكن له مخرجٌ ومفيضٌ ومتنفسٌ يخرج الماء منه بقدر ما ينبغي، خرب وسال ونز من نواحٍ كثيرةٍ، وربما انبثق البثق العظيم فذهب الماء ضياعاً. ثم أنبني الشيخ اتعظوا بقول أبيهم وأخذوا به وعلموا أن فيه الخير وعولوا عليه؛ فانطلق أكبرهم نحو أرضٍ يقال لها ميون؛ فأتى في طريقه على مكانٍ فيه وحلٌ كثيرٌ؛ وكان معه عجلةٌ يجرها ثوران يقال لأحدهما شتربة وللآخر بندبة، فوحل شتربة في ذلك المكان، فعالجه الرجل وأصحابه حتى بلغ منهم الجهد، فلم يقدروا على إخراجه؛ فذهب الرجل وخلف عنده رجلاً يشارفه: لعل الوحل ينشف فيتبعه بالثور. فلما بات الرجل بذلك المكان، تبرم به واستوحش؛ فترك الثور والتحق بصاحبه، فأخبره أن الثور قد مات؛ وقال له: إن الإنسان إذا انقضت مدته وحانت منيته فهو وإن اجتهد في التوقي من الأمور التي يخاف فيها على نفسه الهلاك لم يغن ذلك عنه شيئاً؛ وربما عاد اجتهاده في توقيه وحذره وبالاً عليه .

كالذي قيل: إن رجلاً سلك مفازةً فيها خوفٌ من السباع؛ وكان الرجل خبيراً بوعث تلك الأرض وخوفها؛ فلما سار غير بعيد اعترض له ذئبٌ من أحد الذئاب وأضراها؛ فلما رأى الرجل أن الذئب قاصد نحوه خاف منه، ونظر يميناً وشمالاً ليجد موضعاً يتحرز فيه من الذئب فلم ير إلا قريةً خلف واد؛ ورأى الذئب قد أدركه، فألقى نفسه في الماء، وهو لا يحسن السباحة، وكاد يغرق، لولا أن بصر به قومٌ من أهل القرية؛ فتواقعوا لإخراجه فأخرجوه، وقد أشرف على الهلاك؛ فلما حصل الرجل عندهم وأمن على نفسه من غائلة الذئب رأى على عدوة الوادي بيتاً مفرداً؛ فقال: أدخل هذا البيت فأستريح فيه. فلما دخله وجد جماعةً من اللصوص قد قطعوا الطريق على رجلٍ من التجار. وهم يقتسمون ماله؛ ويريدون قتله؛ فلما رأى الرجل ذلك خاف على نفسه ومضى نحو القرية؛ فأسند ظهره إلى حائط من حيطانها ليستريح مما حل به من الهول والإعياء، إذ سقط الحائط عليه فمات. قال التاجر: صدقت؛ قد بلغني هذا الحديث. وأما الثور فإنه خلص من مكانه وانبعث. فلم يزل في مرجٍ مخصبٍ كثير الماء والكلأ؛ فلما سمن وأمن جعل يخور ويرفع صوته بالخوار. وكان قريباً منه أجمةٌ فيها أسدٌ عظيمٌ؛ وهو ملك تلك الناحية، ومعه سباعٌ كثيرةٌ وذئابٌ وبنات آوى وثعالب وفودٌ ونمورٌ؛ وكان هذا الأسد منفرداً برأيه دون أخذٍ برأي أحدٍ من أصحابه. فلما سمع خوار الثور، ولم يكن رأى ثوراُ قط، ولا سمع خواره؛ لأنه كان مقيماً مكانه لا يبرح ولا ينشط؛ بل يؤتى برزقه كل يومٍ على يد جنده. وكان فيمن معه من السباع ابنا آوى يقال لأحدهما كليلة وللآخر دمنة؛ وكانا ذوي دهاء وعلمٍ وأدبٍ. فقال دمنة لأخيه كليلة: يا أخي ما شأن الأسد مقيماً مكانه لا يبرح ولا ينشط? قال له كليلة: ما شأنك أنت والمسألة عن هذا? نحن على باب ملكنا آخذين بما أحب وتاركين لما يكره؛ ولسنا من أهل المرتبة التي يتناول أهلها كلام الملوك والنظر في أمورهم. فأمسك عن هذا، واعلم أنه من تكلف من القول والفعل ما ليس من شأنه أصابه ما أصاب القرد من النجار. قال دمنة: وكيف كان ذلك? قال كليلة: زعمواً أن قرداً رأى نجاراً يشق خشبة بين وتدين، وهو راكب عليها؛ فأعجبه ذلك. ثم إن النجار ذهب لبعض شأنه. فقام القرد؛ وتكلف ما ليس من شغله، فركب الخشبة، وجعل ظهره قبل الوتد، ووجهه قبل الخشبة؛ فتدلى ذنبه في الشق، ونزع الوتد فلزم الشق عليه فخر مغشياً عليه. فكان ما لقي من النجار من الضرب أشد مما أصابه من الخشبة. قال دمنة: قد سمعت ما ذكرت، ولكن اعلم أن كل من يدنو من الملوك ليس يدنو منهم لبطنه، وإنما يدنو منهم ليسر الصديق ويكبت العدو. وإن من الناس من لا مروءة له؛ وهم الذين يفرحون بالقليل ويرضون بالدون؛ كالكلب الذي يصيب عظماً يابساً فيفرح به. وأما أهل الفضل والمروءة فلا يقنعهم القليل، ولا يرضون به، دون أن تسموا به نفوسهم إلى ما هم أهلٌ له، وهو أيضاً لهم أهلٌ؛ كالأسد الذي يفترس الأرنب، فإذا رأى البعير تركها وطلب البعير، ألا ترى أن الكلب يبصبص بذنبه. حتى ترمى له الكسرة، وأن الفيل المعترف بفضله وقوته إذا قدم إليه علفه لا يعتلفه حتى يمسح ويتملق له. قمن عاش ذا مالٍ وكان ذا فضلٍ وإفضالٍ على أهله وإخوانه فهو وإن قل عمره طويل العمر. ومن كان في عيشه ضيقٌ وقلةٌ وإمساكٌ على نفسه وذويه فالمقبور أحيا منه. ومن عمل لبطنه وقنع وترك ما سوى ذلك عد من البهائم.

كليلة و دمنةKde žijí příběhy. Začni objevovat