Chapter 2

37.4K 349 48
                                    

باب بعثة برزويه إلى بلاد الهند

وكذلك طالب الآخرة مجتهد في العمل المنجي به روحه لا يقدر على إتمام عمله وإكماله إلا بالعقل الذي هو سبب كل خير ومفتاح كل سعادةٍ. فليس لأحد غني عن العقل. والعقل مكتسب بالتجارب والأدب. وله غريزةٌ مكنونةٌ في الإنسان كامنةٌ كالنار في الحجر لا تظهر ولا يرى ضوءها حتى يقدحها قادحٌ من الناس؛ فإذا قدحت ظهرت طبيعتها. وكذلك العقل كامن في الإنسان لا يظهر حتى يظهره الأدب وتقويه التجارب. ومن رزق العقل ومن به عليه وأعين على صدق قريحته بالأدب حرص على طلب سعد جده، وأدرك في الدنيا أمله، وحاز في الآخرة ثواب الصالحين. وقد رزق الله الملك السعيد أنوشروان من العقل أفضله، ومن العلم أجزله؛ ومن المعرفة بالأمور أصوبها، ومن الأفعال أسدها، ومن البحث عن الأصول والفرع أنفعه؛ وبلغه من فنون اختلاف العلم، وبلوغ منزلة الفلسفة، ما لم يبلغه ملكٌ قط من الملوك قبله؛ حتى كان فيما طلب وبحث عنه من العلم أن بلغه عن كتاب بالهند، علم أنه أصل كل أدب ورأس كل علمٍ، والدليل على منفعةٍ، ومفتاح عمل الآخرة وعلمها، ومرعبة النجاة من هولها؛ فأمر الملك وزيره بزرجمهر أن يبحث له عن رجل أديبٍ عاقل من أهل مملكته، بصير بلسان الفارسية، ماهر في كلام الهند؛ ويكون بليغاً باللسانين جميعاً، حريصاً على طلب العلم مجتهداً في استعمال الأدب، مبادراً في طلب العلم، والبحث عن كتب الفلسفة. فأتاه برجلٍ أديب كامل العقل والأدب، معرفٍ بصناعة الطب، ماهر في الفارسية والهندي يقال له بروزيه؛ فلما دخل عليه كفر وسجد بين يديه. فقال له الملك: يا بروزيه: إن قد اخترتك لما بلغني من فضلك وعلمك وعقلك، وحرصك على طلب العلم حيث كان. وقد بلغني عن كتاب بالهند مخزون في خزائنهم، وقص عليه ما بلغه عنه. وقال له: تجهز فإني مرحلك إلى أرض الهند؛ فتلطف بعقلك وحسن أدبك وناقد رأيك، لاستخراج هذا الكتاب من خزائنهم ومن قبل علمائهم؛ فتستفيد بذلك وتفيدنا. وما قدرت عليه من كتب الهند مما ليس في خزائننا منه شيءٌ فأحمله معك؛ وخذ معك من المال ما تحتاج إليه، وعجل ذلك، ولا تقصر في طلب العلوم وإن أكثرت فيه النفقة، فإن جميع ما في خزائني مبذول لك في طلب العلوم. وأمر بإحضار المنجمين؛ فاختاروا له يوماً يسير فيه، وساعة صالحةً يخرج فيها. وحمل معه من المال عشرين جراباً؛ كل جرابٍ فيه عشرة آلاف دينار. فلما قدم بروزيه بلاد الهند طاف بباب الملك ومجالس السوقة ، وسأل عن خواص الملك والأشراف والعلماء والفلاسفة؛ فجعل يغشاهم في منازلهم، ويتلقاهم بالتحية، ويخبرهم بأنه رجل غريب قدم بلادهم لطلب العلوم والأدب، وأنه محتاج إلى معاونتهم في ذلك. فلم يزل كذلك زماناً طويلاً يتأدب عن علماء الهند يما هو عالم بجميعه؛ وكأنه لا يعلم منه شيئاً؛ وهو فيما بين ذلك يستر بغيته وحاجته. واتخذ في تلك الحالة لطول مقامه أصدقاء كثيرةٌ من الأشراف والعلماء والفلاسفة والسوقة ومن أهل كل طبقة وصناعةٍ؛ وكان قد اتخذ من بين أصدقائه رجلاً واحداً قد اتخذه لسره وما يحب مشاورته فيه؛ للذي ظهر له من فضله وأدبه، واستبان له من صحة إخائه؛ وكان يشاوره في الأمور، ويرتاح إليه في جميع ما أهمه.

كليلة و دمنةजहाँ कहानियाँ रहती हैं। अभी खोजें