مكان جديد للآلام (١)

63 2 0
                                    


بعد أن ارتكب أوليفر جريمة طلب مزيد الحساء، مكث أسبوعا و هو سجين غرفة مظلمة موحشة، و كان يسمح له بالتريض صباح كل يوم في فناء مرصوف بالحجر. و بين يوم و آخر. يحمل إلى القاعة التي يتناول الغلمان فيها طعامهم، و يضرب علنا ليكون لهم نذيرا و عبرة. كذلك كان ينقل كل مساء إلى تلك القاعة ليستمع إليهم و هم يصلون و يدعون الله أن يجعلهم طيبين، قانتين، مطيعين!.. و كان يبكي كثيرا بالنهار، فإذا حل الليل الطويل بسط يديه أمام عينيه و حاول أن يستيقظ بين حين و آخر و يقترب من الحائط حتى ليلتصق به و كأنما يحسب سطحه البارد اليابس وقاء له في الظلمة و الوحدة المحيطتين به!

و بقى الإعلان الذي يعرض أوليفر تويست صبيا لمن يشاء معلقا على باب الملجأ دون أن يبدي احد رغبة في أخذ ذلك الغلام. ثم حدث في ذات يوم ان قابل المستر بمبل خارج الباب المستر سوربري الحانوتي، و كان أصحاب الشأن في الملجأ قد اتفقوا معه على أن يتولى دفن كل من يموت من اللاجئين. و هو رجل طويل القامة نحيل الجسم، يرتدي بذلة سوداء قديمة، و يبدو على ملامحه الحزن، و هو ما يلائم مهنته!

و قال و هو يصافح المستر بمبل :
_" لقد اتخذت التدابير لدفن المرأتين اللتين ماتتا في الليلة الماضية"

فقال له معاون الملجأ :
_" انك سوف تكون ثروة يا مستر سوربري"

فاعترض الحانوتي قائلا :
_" اتظن ذلك؟. ان الأجور التي يدفعها الملجأ هي أجور صغيرة! "

فأجاب المستر بمبل قائلا:
_" و كذلك التوابيت! "

و قد أعجب المستر سوربري بهذه النكتة و ضحك منها طويلا ثم قال:
_" حسنا حسنا يا مستر بمبل!. اني لا يسعني الا ان اقول ان نظام التغذية المتبع في الملجأ هو الذي يؤدي إلى كون التوابيت ضيقة ضحلة. و لكن يجب أن نجني بعض الربح. و الخشب المجفف جيدا مادة غالية الثمن، و جميع المقابض الحديدية تأتي عبر القناة من برمنجهام!"

_" أن لكل مهنة مساوئها! "

_" طبعا يا مستر بمبل، و لكن على أن اكافح أشد هذه المساوئ : و هي أن السمان الأبدان يموتون قبل غيرهم. و الناس الذين اعتادوا  السير و الرخاء هم أول من يموتون حين يأتون إلى الملجأ. و فرق ثلاث بوصات أو أربع في التابوت يحدث نقصا كبيرا في الأرباح خصوصا اذا كان للإنسان أسرة يعولها! "

و كان المستر سوربري يتكلم بلهجة الرجل المغبون. فتبين المستر بمبل في كلامه لوما خفيا لأصحاب الشأن في الملجأ، و لذا آثر أن يغير موضوع الحديث. فسأله قائلا :
_" الا تعرف أحدا محتاجا إلى صبي؟ بشروط سخية يا مستر سوربري؟ "

و إذا قال ذلك رفع عصاه إلى الإعلان الذي على الباب الخارجي و ضرب بها ثلاث مرات على كلمتي 'خمسة جنيهات'

فقال الحانوتي :
_" أن هذا هو ما أردت أن اكلمك فيه... إنني ادفع قدرا كبيرا من الضرائب لصالح الفقراء. و ما دمت ادفع لهم كثيرا فإن لي الحق أن أخذ منهم أكثر ما أستطيع. و لذا احسبني آخذ الغلام لنفسي! "

فأمسكه المستر بمبل من ذراعه و قاده إلى داخل المبنى. و لم تمض خمس دقائق حتى دبر أمر ذهاب أوليفر إليه في مساء اليوم نفسه!

                                    [         ]

حان وقت مغادرة الملجأ وشيكا، و وقف أوليفر متأهبا للذهاب، و متاعه في يده، و لم يكن يرهقه حمله لأنه قد احتوته  كله لفة صغيرة من الورق. و امسكه المستر بمبل من يده الاخرى و قاده إلى مكان جديد للآلام!
و كان الحانوتي قد أغلق دكانه منذ لحظة و أخذ يكتب حساب عمل اليوم في ضوء شمعة.
و انه لكذلك إذا بالمستر بمبل قد جاء يقول :
_"هأنذا أحضرت إليك الغلام يا مستر سوربري"

_" أهذا هو الولد؟ "

و  رفع الشمعة فوق رأسه ليرى أوليفر جيدا في ضوءها. ثم صاح قائلا :
_" يا مسز سوربري : هل لك أن تأت لحظة إلى هنا يا عزيزتي؟ "

فجاءت من غرفة صغيرة خلف الدكان، امرأة قصيرة القامة، نحيفة الجسم. لها وجه يشبه وجه الثعلب. و قال لها المستر سوربري بإحترام ظاهر :
_" يا عزيزتي هذا هو غلام الملجأ الذي حدثتك عنه"

فقالت امرأة الحانوتي :
_" رباه! إنه صغير القد جدا! "

و عندئذ قال المستر بمبل :
_" أجل. انه صغير الجسم حقا"

و نظر إلى أوليفر و كأنه المسؤول عن بطء نموه ثم قال :
_" انه صغير الجسم.. و لا يمكن نكران ذلك. و لكنه سوف ينمو يا مستر سوربري. سوف ينمو! "

فقالت المرأة في كدر :
_" آه. احسبه سينمو على طعامنا و شرابنا. ان أطفال الملجأ تتكلف رعايتهم أكثر مما يستحقون. اهبط إلى الطابق الأدنى انت يا كيس العظام الصغير!"

و فتحت امرأة ألحانوتي  باباً جانبيا و دفعت أوليفر أمامها فهبط بعض الدرج إلى كيلار (مخزن) حجري مظلم رطب، يستخدم كمطبخ. و كانت به فتاة غير مرتبة الملابس تلبس حذاء خلقاً و جوربا ازرق ممزقا. وقالت لها المسز سوربري و كانت قد تبعت أوليفر :
_" اعطي هذا الغلام بعض قطع اللحم الباردة التي كانت محجوزة للكلب.. ان الكلب لم يعد إلى البيت منذ الصباح و لذا يمكنه أن يستغني عنها! "

ولمعت عينا أوليفر عند سماعه كلمة اللحم، ثم و ضعت أمامه صحفة، و أخذ يأكل بنهم و امرأة ألحانوتي ترقبه و قد ساءها منه قوة شهيته!
و لما أتم تناول طعامه قالت له :
_" تعال معي"

و قادته إلى أعلى ثم قالت له:
_" أن فراشك تحت منضدة الصراف... لعلك لا تبالي أن تنام بين التوابيت!. و لكن سواء عليك أ أحببت ذلك أم كرهته، فلا مكان لنومك غير هذا المكان. هيا و لا تبقني هنا طول الليل! "

فتبع أوليفر سيدته الجديدة طائعا!

لقد وصلت إلى نهاية الفصول المنشورة.

⏰ آخر تحديث: Sep 14, 2021 ⏰

أضِف هذه القصة لمكتبتك كي يصلك إشعار عن فصولها الجديدة!

Oliver twistحيث تعيش القصص. اكتشف الآن