الفصل الثامن

146 11 0
                                    

هناك لحظات تجثو فيها النفس على ركبتيها في ألم حتى ولو كان الجسد شامخًا!
كانت تظن حالها دونه كالشتاء الذي استحالت همزته تاءً
والآن فطنت أنه سبب هذا الشتات.

-"اللعنة عليك بروس!"
ألقت ملعقتها عليه بغضب ثم ابتسمت في ارتياح شديد عندما ضربته في منتصف صدره بقوة، نظر الرجل إلى الأرض حيث سقطت الملعقة قبل أن يضع عينيه الباردة عليها في سخرية.
مر أسبوع واحد من الاستلقاء على السرير في غرفة بدون نوافذ..
أسبوع من قروح الظهر والملل، من التفكير مرارًا وتكرارًا كم كانت قريبة ممن كانت تعتقد ذات مرة أنه أعظم أصدقائها!
لابد أن القدر كان يضحك على تفكيرها الأحمق.. خلال النهار، تفكر فيه وبماضيهما فقط، وأثناء الليل تحلم بهما معًا، ليس كما عرفته كصبي، لكن نسخة أنضج وأكبر، على الرغم أنها لم تره منذ سن الحادية عشرة، كان بإمكانها أن تقسم أنها رأت وجهه في الظلام في تلك الليلة، خط أنفه المستقيم، المنحنى المميز لفكه، لون شعره المزيج بين الأزرق والأسود الذي كان يزين رأسه، وعينيه الشبيهة بالمجرة المحاصرة في تلك الأجرام السماوية البنفسجية الخاصة به، في كل مكان نظرت إليه ترى نظراته الأرجوانية عليها.. شديدة جدًا وقوية لا يمكن تجاهلها.
أسبوع واحد مع بروس، الشرير ذو الشعر الأشقر الصامت.. إن كان أي شخص آخر، قلبها سيتمزق من أجله، لكن ليس هذا الرجل.. ليس بروس الذي داس في كل مكان وأعطاها أوامر صامتة بإيماءات فظة أو دفعات حازمة.
إذا رفضت أن تأكل، فإنه ببساطة يدفع الطعام دفعًا في حلقها، وإذا رفضت الذهاب إلى الحمام، كان يلقي بها على كتفه ويلقي بها في المرحاض.. وهذا كان أكثر ما شعرت به من إذلال وغضب.
الآن أرادها العملاق أن تعود إلى السرير بعد أن نهضت للخروج من الباب، لكنه سد الطريق ينظر إليها باحتقار شديد كما لو أنها ليست أكثر من حثالة تحت حذائه، كان موقفه واضحًا أنها لن تغادر.
-"هل تعتقد أنك قاسي للغاية، أليس كذلك؟"
لطخته في صدره، غير مكترثة بالطريقة التي ضاقت بها عينيه في قسوة:
-"أنا أعرف نوعك.. تعتقد أنك كبير وقوي، وأن البقية منا نحن الأشخاص العاديون يجب أن نرتعد أمامك؟
لكن خمن يا صديقي؟ أنا لست ممن...."
يبدو أنه سئم من كلامها، فانحنى يقطفها من على الأرض كما لو كان المرء يقطف زهرة، يخطو عبر الغرفة ولم يتوانَ عن قذفها بقوة فوق المرتبة.. احتج ظهرها من الألم، وتأوهت في الوسائد بينما كانت تتدحرج عازمة على إعطاء بروس بعضًا من جنونها، جلست على السرير في شراسة تفتح فمها بتذمر على الوحش الأخرس لكنها أغلقته بعد أن شهقت فزعة وهي تراه مغمى عليه على الأرض!
هبطت في ارتباك ووقعت على ركبتيها أمام الرجل الضخم، تضع أناملها على رقبته، نبضاته ثابتة تنبض تحت الجلد تاركة أسئلة أكثر من الإجابات في أعقاب انهياره، هزت كتفه محاولة عبثًا إيقاظه:
  -"بروس، بروس.. هل تسمعني؟"
عندما لم يرد صفعته على صدره، أصبحت أكثر قلقًا مع مرور الوقت، واستحالت نبرتها للبكاء:
-"بروس!
هيا يا صديقي.. تحدث معي، أنا لم أقصد ذلك حقًا."
عندما لم تجد رد، ارتعبت بشدة وجلست على ركبتيها تفكر ما يجب أن تفعله.. تحصل على طبيب؟
  تحاول أن تجد ليو أو إيلورا؟
أم تهرب؟
كان هناك وميض في زاوية عينيها يسحبها من أفكارها المحمومة، لم يعد باب الغرفة المثبت بمسامير مغلقًا بل مفتوحًا على مصراعيه، الممرات مظلمة خلفها، لكن وميض المرأة المنسلخ كان بارزًا بين الظلال، ثم اختفت تمامًا بعد أن لفتت انتباهها بابتسامة آكلة وغمزة.
نهضت ببطء وعيناها تتدربان على الظلام خارج الغرفة كما لو كانت تنتظر ظهور المرأة مرة أخرى.. لكن الشيء الوحيد الذي كان واضحًا هو أن الباب كان مفتوحًا، والطريق للخروج متاح.
كانت الردهة بالخارج والغرف المتصلة بها مليئة بالناس، ألقى عدد قليل منهم بعض النظرات عليها، مشيرين إلى الشعر المتشابك والهالات الداكنة تحت عينيها، لم يهتم أي منهم بما يكفي لإيقافها، لكنها ما زالت تشعر بضغط نظراتهم الذي يتبعها.
حافية القدمين، مرتدية ثوبًا أبيضًا بسيطًا، لابد أنها بدت مثل مريضة مجنونة هاربة!
مع وفاة فكتوريا، من المؤكد أن تران قد عاد إلى الأبراج المحصنة في قاعدة الجبل، وإن لم يكن هناك فهذا يعني أنه قد تم بيعه بالفعل لعشيقة تنين أخرى، مما سيجعل تعقبه أكثر صعوبة، لكنها يمكنها القيام بذلك.
كانت القاعات أمامها ضبابية، في دوامة من الذهب والأبيض، وبالكاد تمكنت من تحديد الاتجاه الذي كان يسارًا ويمينًا، لم تكن السلالم في أي مكان على مرمى البصر، وكانت كل النظرات الفضولية تتسبب في هبوط العرق في جبينها.
-"إلى أين أنتِ ذاهبة يا حبيبتي؟"
صوت أنثوي منخفض صدح من خلفها:
-"الحفلة بهذا الطريق"
كانت المرأة تتكئ على جدار على بعد أمتار قليلة، إبهامها يستند على كتفها يشير إلى اتجاه غير معروف، نحيفة ذات شعر مجعد أسود وبشرة شاحبة، سالت ندبة من أنفها وفمها حتى طرف فكها، عيناها باللون الأسود مضاءة في إثارة جامحة وحشية.
-"من أنتِ؟"
سألت جيانا مرتجفة عندما انزلقت نظرات المرأة الهادئة على جسدها، فقالت مبتسمة بقوس عميق:
-"منقذتك المباركة"
انحنت أمامها بطريقة مسرحية، ولم تستقيم إلا عندما سعلت جيانا بصعوبة، كانت ابتسامتها واسعة ومتفاوتة عندما تتحدث:
-"احتاج بروس إلى استراحة صغيرة، واعتقدت أنه يمكنك المشي قليلاً."
عابسة العينين اتخذت جيانا خطوة صغيرة إلى الوراء، وأصبح المدخل الذي كانتا فيه خاليًا من الناس فجأة، فأثارت قلة الأصوات أعصابها:
-"أنتِ من فتحت الباب؟"
-"هل تعتقدين أنه كان شبحًا؟"
-"لا، أنا...."
جاهدت للعثور على الكلمات الصحيحة غير متأكدة  كيف تتصرف؟
الشيء الوحيد الذي كانت تفكر في قوله هو:
-"لماذا فعلتِ ذلك؟
هل أنت مع ليو وإيلورا؟"
كانت ضحكتها حادة ولاذعة:
-"إيلورا؟!
هل تعتقدين أنه يمكنني أن أتلقى أوامر من هذه؟"
عادت عيناها إلى جيانا بابتسامة صغيرة:
-"أما عن سؤالك السابق، فهم يدعونني بير، سعدت بلقائك"
دون انتظار إجابة استدارت على كعبها واتجهت في الاتجاه الذي أشارت إليه سابقًا، وقفت جيانا بصلابة ولم تتبعها، فوقفت بعد بضع خطوات تنظر إليها  من فوق كتفها:
-"هل ستأتين أم لا أيتها الفانية؟"
تنهدت تمرر يدها من خلال تجعيد الشعر:
-"اتبعيني، فجميع الأبواب مقفلة على طول هذا الممر وكذلك الباب المؤدي إلى الدرج، لذا فقط تعالي معي دون متاعب"
لم يكن هناك أي تردد هذه المرة لأنها تبتعد وتركتها مع إنذارها المزعج، قلبها ينبض بصوتٍ عالٍ في صدرها بينما كانت تحاول اكتشاف لعبتها!
من أرسلها وإلى أين تريد أخذها؟
هل جميع الأبواب مقفلة حقًا؟
بعد السير قليلًا أثبتت كلماتها أنها صحيحة، لم يكن هناك مفر إلا إذا ذهبت معها إلى المجهول، دفعت جيانا كبريائها جانبًا وذهبت وراءها على أمل ألا تكون قاتلة أينما كانت تقودها.. لقد أخرجتها من الغرفة ولم تحاول قتلها بعد.
وصلتا في وقت قصير إلى مدخل الأبواب المزدوجة المصنوعة من خشب البلوط والتي يبلغ ارتفاعها عشرة أقدام، وصلها ثرثرة وضحكات صاخبة من الداخل مما يوضح أن الغرفة في الخلف كانت بعيدة عن أن تكون فارغة، انتظرت بير حتى وصلت إليها ثم تحدثت:
-"اذهبي مباشرة إلى الداخل، أبقِ عينيك منخفضة ولا تردي على أحد، إذا سبّكِ أحد اشكريه بلطف واستمري في المشي، هل فهمتِ؟"
طالعتها جيانا بصدمة لما تطلبه منها، بالتأكيد جُنت!
هزت رأسها باستنكار ورفض:
-"ما الذي يحدث هنا؟"
ابتسمت بغموض وهي تربت على ظهرها:
-"صدقيني أيتها البشرية، ستكتشفين ذلك بمجرد دخولك."
ثم بدأت في الابتعاد، لكنها توقفت في منتصف الطريق منادية:
-"جيانا؟"
نظرت لها بصمت فوجدتها تغمز قبل أن تختفي داخل ممر مظلم تصرخ خلف كتفها:
-"لا تفسدي الأمر!"
للحظة حدقت في المكان الذي كانت فيه، تشعر بالغباء والقلق!
التفتت تنظر إلى الباب العملاق أمامها، شيء ما بقلبها يخبرها أن تسرع للداخل، فهناك ستجد الرياح التي ستحرك سفن راحته، لكن عقلها يصرخ بالهروب فتلك الرياح كسرت شراع هذه السفن من قبل فأصبحت بلا فائدة.
قلبها يحثها على أن تصبح نرجسية وتقتنص السعادة من فم الأسد، وعقلها يدفعها للهروب فأحيانًا تكمن فيه النجاة.
هزت رأسها تُخرس كلا الصوتين وصورة أخيها تقفز في مخيلتها، فجمعت شجاعتها ودفعت الباب الذي كشف عن غرفة واسعة منحوتة من الجبل نفسه، تتدلى فيها الستائر الحمراء القرمزية كل بضعة أقدام تتساقط على الأرض في موجات من اللون المتلألئ، تتأرجح الثريات الذهبية ذات الشموع الساطعة من السقف لتضيء الغرفة في وهج لامع.
استرخي العشرات من الرجال والنساء على الأرائك يدخنون السيجار ويشربون الشراب في أكواب صغيرة، ارتدى جميع الرجال بدلات تتناسب بشكل رائع مع النساء اللواتي كن يرتدين أرقى الثياب.
لكل تنين كان هناك عبد بشري يقف على بعد قدم واحد، يحمل العنب والجبن بنظرات صخرية.
في نهاية الغرفة، يؤدي درج ضخم إلى عرش كبير، مصنوع من أجود أنواع الأخشاب ومتشابك مع الذهب الخالص، فوقه يجلس رجل يتحدث بهدوء إلى أحد الحاضرين.
كان له وجه كأنه قطعة من النعيم، تجعد شعره المائل إلى الأسود متدليًا برفق على جبهته، ظهرت العديد من الأوشام من أسفل ملابسه على رقبته.
حضوره وهيبته كافيان لجذب انتباه أي أنثى، وكانت أكثر الحاضرات تتسللن بنظراتهن المفتونة نحوه، يحاولن بذل قصارى جهدهن لجذب انتباهه.
ومع ذلك بعد كل هذه السنوات، لم يتغير شيء واحد بشأن صديقها القديم، كانت عيناه بنفسجية كما كانتا دائمًا، تعلم أن النجوم تحسده على وميض عينيه.
لم يكن هناك شيء على الأرض يمكن مقارنته بنظرته الأرجوانية!
بدا أن العالم توقف عندما ترك المحادثة مع الحاضرين، وانزلقت عيناه نحوها كما لو كانت قادرة على الشعور بنظراته الثاقبة عليها!
التقت نظراتهم، بإمكانها أن تقسم أنها شعرت بفقاعة من الارتياح في صدرها بعد سنوات من التفكير فيه!
  تفتقده أكثر مما يمكن أن تعترف به، ملأها دفء عند تحديقه الذي استهلك كل شيء، مما دفع قلبها إلى إثارة ضجة.
ما حدث أثار انتباه أحد التنانين، ثم اثنان، حتى هدأت كل الأصوات في الغرفة ونزل الصمت.
لم ينكسر التواصل البصري بينهما ولو للحظة، ولم يوجد سوى شيء واحد كانت قادرة على النطق به هامسة كهدوء الليل:
"ريان؟"
النظرات بينهما متقدة كنبوءة على حافة الحياة
تزداد رغبة الاشتهاء في غمرة انتظار لتبتكر لونًا ترسم به فجرًا مضيئًا
لحظة لقاء بعد فراق فوق مقاصل الفقد لأعوام، وانغماس في سراديب الحنين.
تسللت الكلمات من بين شفتيها فلم يكن أي أحد قادرًا على سماعها بالمسافة التي تفصل بينها وبين ريان، لكن رأسه كان يميل قليلًا إلى الجانب مما يوضح أنه سمعها ولم يقل أي شيء، لم تترك نظراته المحايدة التي لم ترمش وجهها، كأن هناك بعض التفاهم غير المعلن بينهما، شعرت بداخلها أنه والتنين الآخر الذي بصحبته كانا ينتظران منها أن تتحدث.
ترددت كلمات بير في ذهنها ألا تفسد الأمر، فكرت.. هل أعطتها فرصة للتحدث باسم البشر المستعبدين الذين أُخذوا من قريتها القديمة؟
نعم، كان هذا سبب مجيئها، الشيء الوحيد الذي لم تتمكن من فهمه هو سبب قيام بير بهذا، وهي تنين لم تلتقِ به من قبل، لكنها لم تفكر كثيرًا وستحل هذا اللغز لاحقًا.
كانت كل أعين الحاضرين في وجهها تزعجها، لكنها حاولت إبعاد أفكارها عنهم وأخذت نفسًا عميقًا، لم تنظر في أي مكان آخر إلا لعينيه، رفعت ذقنها بشموخ وشجاعة:
-"جئت من أجل البشر."
لم يحرك ساكنًا ولم يبدِ أي ردة فعل، فابتلعت ريقها ببطء وواصلت:
-"منذ حوالي عامين، هاجمت إحدى تنانينك قريتنا، قتلت الشيوخ والمحاربين الذين حاولوا الدفاع عنا، ثم أخذت الأطفال والأقوياء بعيدًا."
خطت خطوة واحدة فقط تجاهه، نظراتها تحتد بقسوة ممزوجة بخيبة:
-"لقد أخطأت في فعل ذلك، لم تتأخر القرية عن أي ضرائب أو ديون بسبب هذا الحشد، لقد أعطيت كل قرش، وكل مورد طُلب منا"
نشأت الهمسات واللمزات من الجمع الحاضر، بالكاد استطاعت سماع الدم المتدفق ينفجر في أذنيها متقطعًا:
-"الأسرة التي آوتني احترقت حتى تحولت إلى رماد، وتم اعتبار أخي عبدًا شخصيًا للأنثى نفسها التي قامت بذلك.. أطلب الآن إعادة هؤلاء إلى منازلهم الصحيحة"
انتهت وشعرت بقلبها يغرق ببطء في ركبتيها، إذا كان هناك شيء واحد أحبه الوحش فيها، فهو الخنوع.. في هذه اللحظة، مع كل انتباههم وسخريتهم، لم تكن أقل من الركوع على ركبتيها تضم قبضتيها أمام صدرها، تتوسل وتتوسل حتى يلبي طلبها، تفاوض وتتاجر حتى لم يتبقَ شيء لتقدمه.. طالما كل هذا للأطفال، الأولاد والبنات الصغار الذين انتزعوا من منازلهم وأجبروا على العبودية، طالما أنهم سيعودون إلى المنزل.
سمعت بعض التنانين تضحك علانية، بينما نظر البعض الآخر إلى ريان منتظرين رد فعله!
لم تمر على شفتيه كلمة واحدة بعد، شعرت بشعور غريب وغير معروف في حلقها عندما نظرت إليه مرة أخرى، ليست متأكدة مما إذا كانت قلقة، خائفة، سعيدة أو شيئًا مختلفًا تمامًا.
ثم.. بنقرة من أصابعه، صرفها!
غرق قلبها في دوامة من الذعر عندما أمسكها اثنان من ذراعيها أجبروها على الوقوف يدفعونها نحو باب جانبي، أعطاها الحضور نظرة أخيرة وضحكة مكتومة قبل أن يعودوا إلى احتساء مشروباتهم والنميمة عن شيء أو آخر.
في حالة من الذعر، رفعت رأسها إلى الوراء لإلقاء نظرة خاطفة للمرة الأخيرة على ريان، فوجدته يتحدث إلى شخص آخر، ولم يعيرها أدنى قدر من الاهتمام!
سحبها الحراس بعيدًا، ليس من خلال المدخل الذي دخلت منه أولاً، ولكن إلى ممر آخر، لم يتحدث أي منهما والضوء الوحيد يأتي من فوانيس الزيت المعلقة على ارتفاع منخفض كل بضعة أقدام، لقد دفعوها بأذرع سيوفهم حتى بدأت في الصعود بصمت إلى أعلى في حالة صدمة.
فكرت بمرارة.. ماذا كنت تظن؟
أن خطابًا مثيرًا وانحناءً كانا سيخرجان أصدقاءها؟
  في الواقع نعم.. كانت تعتمد على لطف وتعاطف ريان لتحريرهم، اعتقدت أن صداقة طفولتهما ستكون كافية للتأثير عليه!
تفكر أن الذل والعار أفسدا شجاعتها وهي تفكر في الخطة السخيفة التي نفذتها.
صعدت الدرج إلى أعلى، تشعر وكأن ساعة قد مرت بحلول الوقت الذي وصلت فيه إلى القمة، على الرغم من مرور بضع دقائق فقط، لتقف أمام باب قوي.
أخرج أحد الحراس سلسلة من المفاتيح من جيبه، وشرع في تمرير عدد قليل منها قبل اختيار واحد نحاسي، أدخله في قفل الباب وفتحه، دفعها الآخر مرة أخرى موضحًا أمره الصامت.. ودون أن تجادل دخلت إلى الغرفة، نظرت إلى الوراء لترى الحراس يغلقون الباب دون أن يدخلوا.
دارت حول نفسها تتأمل المكان، من الواضح أن الغرفة كانت مصممة لامرأة، هناك سرير في نهايتها محمي بستائر زرقاء شاحبة، الأرضية مغطاة بالسجاد الأبيض المورق الذي يحافظ على البرودة، كانت هناك مدفأة موجودة على أحد الجدران مضاءة بالفعل ومشتعلة، رأت خزانة من الذهب والخشب مثبتة بالقرب من السرير، نصفها مفتوح يكشف عن كمية من الفساتين والعباءات.. ساعدت الفوانيس المتوهجة بنعومة على إضاءة الغرفة، مما أدى إلى لمعان ذهبي على الجدران، وهناك نافذة تعرض غروب الشمس في المساء.
نظرت حولها في استغراب، قلقة من المكان الذي تم نقلها إليه.
لم يأت أحد لفترة طويلة.. بقيت متيقظة، تظن أنه في اللحظة التي ستجلس فيها على الكرسي أو السرير، سيظهر تنين يحرقها.
كان القمر كاملاً ومشرقًا في سماء الليل بحلول الوقت الذي فتح فيه الباب أخيرًا، ما زالت لم تتحرك من منتصف الغرفة، جامدة ومتوترة للأحداث القادمة، لم يكن هناك شك في أنها ستموت من أجل تقديم مطالب لملكهم ومحاولة تحرير العبيد الذين يمتلكهم.. قفز قلبها من صدرها عندما رأت القادم!
  لم يكن أحد من الحراس، ولا تنين بسوط وابتسامة قاسية!
هناك.. كان واقفًا في المدخل.. ريان!
جميلًا.. بل أكثر روعة بشكل مذهل من المرة الأخيرة التي رأته فيها عندما كان صبيًا، لقد نما في جسده البشري، كانت هناك قوة وهيبة واضحة له، مجرد الوقوف هناك بصمت يمكن لأي شخص أن يقول إنه ليس رجلاً يتم العبث به.
عيناه البنفسجيتان كما كانت من قبل، بنظراتها المكثفة والعميقة.. قفز قلبها إلى وضع القتال وبدأت على الفور في إلقاء الهراء:
-"ريان.. أعني مولاي.. ما كان يجب أن أدخل غرفة كهذه..."
مال برأسه قليلًا وشفتاه بالكاد ترتعشان، سرعان ما ماتت الكلمات على لسانها وهو يواصل فحص ملامحها، بعد لحظة هز رأسه ولأول مرة منذ أن رأته تحدث:
-"ما زلتِ تتحدثين بسرعة الضوء"
توقف عقلها عن العمل للحظة، ولم ينتظر ردها بل سار نحوها ببطء لتتجمد مكانها غير متأكدة مما يجب أن تفعله، شهقت عندما أمسك بها من وركيها يرفعها في الهواء، صرخت بصوتٍ عالٍ محرج  وهو يضعها على السرير راكعًا أمامها:
-"ريان!"
صرخت مذهولة من تغير الأحداث:
-"ما أنت......"
أنزل نظراته إلى ساقيها، ممسكًا باليمنى بلطف يمسح اللحم الرقيق من أسفل لأعلى حتى وصل إلى ركبتيها، ثم رفع حافة ثوبها بطريقة غير لائقة مما أدى إلى ظهور بشرتها الشاحبة له مستمرًا في لمساته، وانتقل إلى الساق الأخرى يكرر العملية.
لم تكن تعرف ما يجب القيام به، بل استمرت في مشاهدته بدهشة وهو يضرب برفق على ساقيّها يتفحص الجلد هناك، تلون خديها بدماء الخجل والإحراج مما تسبب في انتشار الدفء داخل أوردتها:
-"ريان، ما.... ما الذي تفعله؟"
كان صوتها يقترب من الصراخ، تتعثر بكلماتها كما لم يحدث من قبل، كان يصعد برأسه أكثر حتى وصل إلى التجويف أسفل عنقها، ويداه الكبيرتان تطوقان خصرها يتنفس رائحتها، ثم أجاب بصوت خافت:
-"أفحصك بحثًا عن إصابات"
عاد لها القليل من عقلها في ذلك الوقت وبدأت في دفعه بلطف، فتحرك بعد لحظة، ولم يتوقف إلا عندما أخذ شهيقًا أخيرًا.
كان رأسها يدور في دوائر.. عشرة سنوات لم تر هذا الرجل، عشرة سنوات كانا منفصلين لكنه الآن يتصرف كما لو كانا معًا بالأمس فقط!
-"كان بإمكاني أن أخبرك أنني بخير"
صرخت فجأة غاضبة لأنه لم يتحدث معها طوال حديثها الغبي بالأسفل، والآن يعاملها كما لو أنها دمية قاتمة، أغمض عينيه ووقف فجأة على بعد أمتار قليلة، مكتفًا ذراعيه يهز رأسه قليلًا وعيناه الأرجوانية اشتعلت بوميض:
-"لقد كنت قلقًا عليكِ فقط."
عبست بعدم تصديق لتصرفاته، ورفعت حاجبها ساخرة:
-"لماذا تقلق؟
ليس الأمر كأننا كنا معًا طوال العشرة سنوات الماضية"
تقوس فمه بعبوس مصطنع:
-"لم أتوقع أن تكوني بكل هذا الغضب عند لم شملنا"
اتسعت عيناها حتى كادتا تخرجان من محجرهما، والمحادثة التي أجرتها مع إيلورا وليو خطرت على بالها فجأة، انتفضت من السرير في عنفوان وخصلاتها تحيط وجهها في فوضى:
-"أعلم أنني لم أغب عن أنظارك أبدًا ريان..
أخبرني ليو كيف كنت تتعقبني طوال الوقت الذي غادرت فيه"
كشف عن أسنانه في وهج شديد في وجهها، ينظر لها من أسفل أهدابه في حدة وابتسامة قاسية:
-"أنتِ طفولية جيانا.. يجب أن تكوني ممتنة لأنني تركتك ولم آخذك"
شدّت فكّيها بقوة وعملت على ضبط ثباتها الانفعالي:
-"وأنت ما زلت تتصرف مثل الصبي المتكبر الذي تركته، لكنك ليس لديك الحق في تتبعي ريان، يمكنني الذهاب إلى حيث أريد دون أن آخذ الإذن من أحد، وخاصة لو كان هذا الأحد.. أنت"
كان التوتر بينهما عنيفًا، الغضب والحقد كانا يتجمعان بداخلها منذ الليلة التي وعد فيها بإعادتها إلى حشده، والآن لم يكن هناك طريقة لمنع نفسها من الانفجار.. لابد أن تحدث هذه المعركة عاجلًا أم آجلًا، وقد كانت سعيدة لأنها تخرجها الآن.
كانت نظراته قاتلة وهو يتقدم نحوها، جسده متوتر من الغضب لكنه متوازن، جاهز لحرقها إذا لزم الأمر:
  -"هل تريدين أن تعرفي"
تحدث بصوت هادئ مميت، مقتربًا أكثر:
-"كم مرة كان على حراسي التدخل على مر السنين لحمايتك من الأذى؟"
كان قريبًا بما يكفي حتى كادت جبهته تلامس خاصتها، أنفاسه الحارة تنفث على خدها تاركًا وخزًا دافئًا في أعقابها:
-"لا يمكنكِ البقاء على قيد الحياة في عالمك الفاني بدوني، أيتها النمرة الصغيرة"
كزت على أسنانها حتى كادت تطحنهم في فمها، ترفع رأسها حتى تلامست أرنبة أنوفهم فامتزجت أنفاسهم الحارة، الهادئة من تجاه والغاضبة منها، همست بابتسامة ساخرة:
-"وهل مسح الذاكرة والعيش في حياة كاذبة من ضمن قوانين الحماية الخاصة بجلالتك؟"
رمشت عدة مرات عاقدة حاجبيها بعبوس مصطنع، تزم شفتيها بتفكير وتميل برأسها قليلًا:
-"ولو كان هذا صحيح، لماذا تذكرتك الآن؟"
زمجر بشراسة وقد علمت أنها عبثت بذيل الوحش الكامن في عرينه بداخله، وهتف من بين أسنانه:
-"لم يتبقَ لكِ أحد بعد ما حدث للقرية، فلم يكن لي خيار سوى أن أمسح الباقي من ذاكرتك والعيش مع تلك السيدة"
انحنى إلى وجهها أكثر واستحال هتافه إلى همس:
-"وتلك التعويذة كانت ستكسر عند موتها وتبدئين في التذكر، وحينها ستكونين نضجتِ أكثر.
أنا من أمرتها أن ترشدك إليّ جيانا، لكنها ماتت أسرع مما تخيلت"
الحقيقة في ظاهرها منطقية وبغرض حمايتها حتى لو كانت قاسية، لكن في أعماقها حتى لو اعتذرت الرياح، سيبقى الغصن مكسورًا!
كانت الدموع التي لم تسفك تسد حلقها، فاضطرت إلى الابتعاد عنه لإبعادها، أغمضت عينيها تعطي نفسها خمس ثوانٍ لتجمع شتات نفسها معًا، ثم استدارت تواجهه، كان بعيدًا على وجهه نظرة متحفظة.
كانا في طريق مسدود، جزء منها أراد الصراخ حتى يصبح وجهها أزرق، أرادته أن يشعر بالخجل والأذى.. أرادته أن يعرف أنها تستطيع أن تهتم بنفسها، لم تكن بحاجة إليه كي تكون بخير!
ومع ذلك، كان جزء آخر منها سعيدًا بما فعله، من يقضي عشرة سنوات في الحفاظ على سلامة شخص ما، وفي نفس الوقت يحترم رغباته ويبقى بعيدًا، ربما كان بعض غضبها في غير محله.
بعد أن عادت لها ذكرياتها بدأت تتساءل لماذا لم يأتِ للبحث عنها؟
ظنت حينها أنه لم يعد يهتم بها، وأنها ستظل خارج حياته إلى الأبد.
نظرت إلى من كان يحدق فيها بقوة وتنهدت داخليًا، منكمشة قليلًا تتمتم بهدوء:
-"أنا آسفة.. لقد فهمت أنك كنت تبحث عني غضبًا لهروبي منك، وأعتقد أنني غاضبة أكثر لأنني لم أكن بمفردي كما كنت أظن، جزء من سبب مغادرتي هو أن أكون مستقلة لإثبات أنني لست بحاجة إلى أحد"
عيناه الغامضتان لم تحد عنها، لكنه وافق بإيماءة فقط.
فجأة، بدأت الدموع تتدفق منها، شعرت بالدوار البسيط بينما تجلس غارقة في السرير، ممسكة بالغطاء الناعم في يديها، تقول من خلال ضحكة منتحبة:
-"اشتقت إليكَ حد اللعنة".
لم تتمكن من النظر إليه، وضعت رأسها بين يديها تقبض على خصلاتها بين أصابعها، وعقلها يسترجع شعورها في الفترة التي تلت ليلة هروبها:
-"مرت فترة كنت أفكر في العودة إلى هنا وإلقاء نفسي بين ذراعيك"
صمتت، ومرت لحظة كان فيها كل شيء ساكنًا،  علقت كلماتها في الهواء بهشاشة، فبدأت في شتم نفسها بسبب تشويشها وكلماتها، ربما سيعتقد أنها فتاة يائسة تبحث عن الاهتمام.
شعرت بأصابعه تغمس تحت ذقنها تحاول رفع نظراتها إليه، لكنها ناورته برأسها قليلًا تحاول الإفلات منه حتى تم القبض على عينيها فجأة بعينيه الأرجوانيتان، تمسكت أصابعه بفكها ولم يفصل بينهما سوى سنتيمتر واحد من الفضاء.
لقد فُتنت على الفور باهتمامه ولم تستطع النظر بعيدًا، بهذا القرب تمكنت من رؤية بقع زرقاء وخضراء على حافة قزحية عينيه تندمج مع البنفسج، كانت سمفونية الألوان جميلة وساحرة.. اعتقدت أنه يمكنها البقاء هنا إلى الأبد.
لم يرمش ولو لمرة واحدة، ثم انحنى على وشك الهمس:
-"لم أكن سأتخلى عنكِ قط، كنت سأصطحبك لكل مكان ليلًا ونهارًا"
بقيا على هذا النحو لمدة دقيقة أو أكثر قبل أن تتراجع قليلًا، فقط بالكاد تفلت من لمسته الدافئة والحساسة، نظرت مباشرة في عينيه:
-"هل ستدعني أذهب وأترك الحشد؟"
تأملها بعناية وصمت كمن يحاول اختيار كلماته التالية بحكمة، وفي النهاية قال:
-" نعم"
كان هناك شيء آخر أرادت قوله:
-"لكن؟"
-"لكن لا شيء"
حرر عينيها من سجن نظراته وتوجه نحو النار يلتقط البوكر يحرك أجزاء وقطع جذوع الأشجار المحترقة حولها وأضاف:
-"هناك إذا..."
كان يخبرها بغموض أنه لديه شرط حتى يحررها، فأدارت عينيها بعيدًا تلوي فمها:
-"بالطبع هناك إذا"
ومضت نظرته نحوها لفترة وجيزة قبل العودة إلى المدفأة:
-"سأدعكِ تذهبين"
قالها بسهولة وهو يدير السيخ الحديدي بين يديه:
-"إذا أخبرتني بالضبط إلى أين ستذهبين؟
وكيف ستصلين إلى هناك؟
وكيف ستحمين نفسك؟"
كان هناك شك واضح في كلماته، لكنها تجاهلت ذلك وابتسمت برضا:
  -"سأذهب إلى جزر زيفران الجنوبية، هناك يمكنني قضاء أيامي في الاستحمام في الشمس والسباحة في المحيط، وعلى ظهر الخيل يمكنني القيام بالرحلة في أقل من أسبوعين. سأكتسب ثروة من خلال العمل في بار"
ألقى عليها نظرة خيبة أمل وهز رأسه:
-"يمكنكِ أن تفعلي أفضل من ذلك"
هزت كتفيها تلعب بحافة كمها:
"سأعمل أي شيء، كان تران يعلمني الكثير من الأشياء"
انتهت اللحظة بذكر أخيها وانتهى ريان من النار ووقف، ألقت النيران بظلال داكنة على وجهه، قابلت عيناه عينيها ببعض الحزم:
-"تحدثي بما تريدين أيتها النمرة الصغيرة"
أثار لقبه ضجة كبيرة من الحنين إلى الماضي في صدرها، فابتلعت ريقها ببطء ولم تزح عينيها من عليه:
  -"أنت تعلم أنني أتمنى استعادة أهل قريتي، لقد تم أخذهم ظلمًا، هؤلاء الأطفال ينتمون إلى موطنهم"
  رفع رأسه تزامنًا مع حاجبه الأيمن بغموض ساخر:
-"أين موطنهم جيانا؟"
كان من الواضح ما كان يلعب عليه، تم حرق القرية وتحويلها إلى رماد، لن يكون هناك مكان لأخذ البشر عندما تأخذهم من هنا، هزت رأسها تشيح بكفها في توتر:
-"أنا وتران سنبني لهم قرية جديدة في مكان أفضل."
جلس وضع مرفقيه على وركيه مشبكًا أصابعه سويًا، وبدأ يتأرجح ببطء، يتحدث أثناء حركته:
-"أعلم أنكِ تعتقدي أن هؤلاء الأطفال لا ينبغي أن يكونوا هنا.. فكتوريا الني أخذتهم عارضت الأوامر.. اعتقدت أنها إذا استهدفت إحدى القرى التي أمرت بها ستفلت من العقاب، وتُظهر للآخرين في الحشد أنها غير قابلة للاختراق"
مالت برأسها نحوه بحاجبين معقودين بصمت، لكن شفتيها تميلان بابتسامة صغيرة ساخرة:
-"وكيف استطاعت أن تفلت بفعلتها، أيها الملك؟"
انحنى على الكرسي أكثر على بعد بضعة أقدام منها، وعقد ذراعيه إلى صدره، فتسلط الضوء على اتساع كتفيه:
-"النبلاء هنا على الرغم من كونهم مزعجين وأنانيين، يوفرون موارد وفيرة لشعبي، سواء كان لديهم مجموعة فريدة من المهارات أو الأموال، فهم موضع تقدير.
لقد تعلمت منذ وقت طويل أنه من الأفضل إرضائهم"  كزت على أسنانها في شراسة، تعض علي لسانها حتى لا تخرج شيئًا تندم عليه، لكنها قالت:
-"هل عوقبت؟"
أجاب ساخرًا:
"بالكاد.. بعض الجَلد، بعض الإساءة اللفظية، لكنني لم أستطع فعل أي شيء أكثر من ذلك.. يمكن لأي من التنانين، سواء كان نبيلًا أم لا أن يختار المغادرة في أي وقت، لذلك إنه جهد لإبقائهم جميعًا سعداء."
  هبطت عن السرير، وتوجهت نحو النار في تفكير عميق وصمت مبهم، راقبها بفضول تسقط نفسها على بساط الفرو أمام المدفأة الحجرية، جالسة تضم ساقيها إلى صدرها ورأسها مسنودًا على ركبتيها، سألته بعد فترة:
-"الأشخاص الذين أرسلتهم لمراقبي.. هل هم تنانين أم بشر؟"
-"تنانين".
ترنح رأسها جانبًا بينما تركت عينيّها عليه:
-"لماذا لم يتدخلوا عندما جاءت فكتوريا؟
ألم يستطيعوا محاولة منعها؟"
اشتدت الحرارة في عينيه وهو يهز رأسه باقتضاب:
-"لقد صدرت عليهم أوامر صارمة للحفاظ على سلامتك"
اشتعلت النيران بصوتٍ عالٍ، حدقت بعمق في اللهب والشرارات الصغيرة التي تتصاعد أثر احتراق الخشب عندما سمعت اقترابه، على الرغم من جسده الكبير، كانت خطواته هادئة مثل الفأر.. لمع حديثه قبل قليل في ذهنها فشهقت مكفهرة من الفكرة:
-"كنت تعلم أنني هنا".
التفت تواجهه فوجدت ساقيه أمامها بدلاً من ذلك، رفعت رقبتها كثيرًا حتى قابلت نظراته المتسلية بنظرة خاصة بها وحدها وأكملت:
-"أخبرتك تنانينك إنني قادمة، كنت تعلم أنني متجهة إلى الحشد، وبأنني كنت هنا طوال الأسبوع الماضي على الرغم من لقائنا في الكهف"
انخفض ذقنه في التأكيد، فجأة شعرت بمزيج من الغباء وهي تفكر أن كل هذا التسلل كان من أجل لا شيء!
لقد كان مسيطرًا طوال الوقت!
استدارت بوجنتين ساخنتين تحدق مرة أخرى في ألسنة اللهب، كان الدفء من رجليه يغرق في ظهرها ينبهها إلى حضوره المهيب، كان من الصعب للغاية مقاومة الرغبة في الاتكاء عليه، لكنها تمكنت من ذلك من خلال نوع من قوة الإرادة:
-"لماذا... لماذا لم تأتِ لتجدني؟"
كانت الكلمات متوترة إلى حد ما، وأخذتها نقطة ضعف مفاجئة، كان يعلم منذ أسبوع أنها هنا ولم يحاول على الإطلاق أن يخرج لها؟
اعتقدت أن صداقتهما على الرغم من الطريقة التي انقطعت بها، كانت شيئًا مميزًا!
شيء يعتزان ويتمسكان به!
ربما كانت الوحيدة التي اعتقدت ذلك، فقال بصراحة من ورائها دون أن يلاحظ أو يتجاهل الطريقة التي ارتجف بها صوتها:
"لقد كنتِ مصابة"
-"إذن كنت تسمح لي بالشفاء، أليس كذلك؟"
وقفت دون أن تستدير له بالكامل، فقد قامت بتحريك كتفها حتى تتمكن من النظر إليه من الجانب:
-"هذا أمر رائع منك.. كان بروس ساحرًا، بالمناسبة."
  أمسك معصمها يجذبها نحوه فجأة، تعثرت للأمام وفقدت توازنها للحظات حتى أمسك بمعصمها الآخر، فكانت ملتصقة على صدره، ليصبح النظر إليه أكثر صعوبة لأنه كان أطول من معظم البشر.
أخفض شفتيه حتى أصبحت أمام أذنها هامسًا بصوت ساحر:
-"هل أردتني أن أتبعك، نمرتي الصغيرة؟"
رفرفت عيناها عن كثب بينما كانت أنفاسه تتصاعد عبر فكها، مما أدى إلى تدفق شعور من الإثارة على طول ظهرها، فأسرعت تنفصل عن قبضته، تعثرت، ذُهلت و... احتارت.
الدفء الذي بدأ يتأجج بداخلها مرة أخرى، تسبب في ظهور مشاعر غير مرغوب فيها على طول جسدها.
-"لا... لا"
عبثت بأصابعها ليست متأكدة أين تنظر، كان يراقب رد فعلها بنظرات ثابتة وسعيدة، ازداد اللون الوردي في خديها عندما ضحك بعمق، والصوت يتدفق عبر كل عصب في جسدها يرسلهم إلى انفجار من الإثارة:
-"في الحقيقة جيانا، أعتقد أنني إذا شممت رائحة الدماء التي تزين خديكِ الآن، ورأيتكِ بعد كل هذه السنوات بهذا..... "
بدأ حديثه لكنه قطع استرساله فجأة بابتسامة لم تصل إلى عينيه مشيرًا نظراتها إلى جسدها البعيد تمامًا عن الجسد الطفولي الذي يعرفه، ثم أكمل بعد لحظات:
-"حسنًا.. دعينا نقول فقط أنني لم أكن لأرحب بكِ بالأحضان والكلمات الحلوة."
دخلت كلماته في ذهنها ببطء، وبذلت قصارى جهدها لمعالجتها مع تهدئة دقات قلبها، ثم اتسعت عيناها على آخرهما عندما فهمت مقصده:
"أوه.. يبدو منطقيًا"
ابتسم نصف ابتسامة أخرى وهو يمرر عينيه على جسدها، الدماء ما زالت تلطخ خديها والطريقة التي ترتد بها عيناها من جدار إلى آخر، مبتعدة إلى أي مكان غيره.
مدّ يده إليها محركًا رأسه في أمرٍ واضحٍ بالاقتراب، ترددت لحظة تفكر في الابتعاد أكثر، ضاقت نظراته الأرجوانية عندما رأى التمرد يلوح على وجهها، لقد فوجئت من نفسها عندما تقدمت تمسك بيده.
جذبها نحوه ماحيًا المسافة بينهما محيطًا بها بين ذراعيه، انحنى قليلًا نحو وجهها قائلًا:
-"ستبقين هنا"
أمر، حازمًا وواثقًا من كلماته، فاتسعت عيناها وفتحت فمها للمجادلة والرفض لكنه واصل فقط إصدار أوامره:
-"ستبقين هنا، حتى موعد قمر الدم، سوف يمنحك هذا الوقت الكافي لمعرفة أين ستذهبين أنتِ وأخوكِ"
تيبس جسدها وهربت الدماء من وجهها، ثم همست بخفوت وتيه:
-"لكن هذا أكثر من ثلاثة أشهر!"
لم يكلف نفسه عناء الرد واستمر في التحديق في وجهها بنظرة شديدة.
-"حسنًا"
قالتها بقلة حيلة وغضب، مستديرة عن نظراته القوية، حريصة على إبقاء عينيها على الأرض سائلة بسخرية:
-"وماذا سأفعل في هذه الأثناء؟
أجثو على ركبتي وأمارس صلاتي؟"
لم يخف ريان ابتسامته المسلية وهو يبتعد متجهًا نحو الباب:
-"لا، أيتها النمرة الصغيرة"
صاح من فوق كتفه، ثم أكمل بكلمات تحمل معنًى سري كما كان دائمًا:
-"لن تكون هناك صلوات فيما سنفعله"
مالت رأسها قليلًا للجانب تشاهده يغادر:
-"هل تهتم بالشرح لي؟"
-"كل شيء في الوقت المناسب، جيانا"
فتح الوحش المخادع الباب ونظر إليها مرة أخرى قبل أن يغادر، بوميض في نظرته الشريرة الماكرة:
-"أنا متأكد من أنك لن تندمي"
♕♕♕♕♕
تنمو على أطراف الليل، أحلام لم تلدها ألسنة الصباح
تتوهج في الظلام الحالك وتتلاشى مع أول شعاع للفجر.
فالحكاية أشبه بنمو وردة لا تُزهر في حلم لن يتحقق.

مر هذا الأسبوع على آريا كأنه عام كامل، عانت فيه مرارة الصدمة والقهر، أثناء نهاره التزمت الصمت، وفي غمرة الليل انغمست في دوامة الندم السوداء التي ما إن ابتلعت أحد حتى أدخلته متاهاتها، ولا أمل في الخروج!
حالها يشبه كمن اعتادت على دفء شمسه وكان في نيته الغروب.. ظنت أنه مثل البحر في هدوئه فغرقت بكل كيانها، ولم تعِ لأمواجه الغادرة التي لفظتها بعيدًا عن شاطئه، فلم ينكسر سوى قلبها وكأنه خُلق من عظام!
طوال هذا الأسبوع لم يحاول التواصل معها، لم يهاتفها أو يراسلها.. فقط تركها!
جزء منها ممتن لابتعاده، فهي لا تريد رؤيته مرة أخرى وكأنه صفحة أحرقتها من قاموس حياتها، لكن الجزء الآخر الذي تكرهه ناقم وبشدة على فعلتها، يريد أن يكون أمامها في التو واللحظة يصرخ أنه يريدها معه، مهما كانت الأمور ومهما كانت كينونته!
تمنت أن يكون الأمر برمته "كذبة إبريل" أو كابوس ستستيقظ منه قريبًا، لكنها كانت الحقيقة القاسية التي تشبه شهر نيسان.. الشهر الذي حُرِم شاعرية الشتاء ولم يصل بعد لدفء الصيف، فيه انتهت أحلام الشتاء الزاهية ولم تولد بعد آمال الصيف!
تشعر أنها تشبه الهيكل العظمي يرتدي معطفه الأسود يحميه من الارتجاف.. لو كان للعظام أن ترتجف من الأساس!
أسبوع كامل مر لم تفعل فيه أي شيء، بل لم تخرج من منزلها على الرغم من محاولات جيسيكا وجورج إقناعها للخروج معهما، على الرغم من محاولاتها هي أن تُظهر أنها بخير لكنها كاذبة.
هي ليست بخير، لا تأكل كثيرًا وتفكر كثيرًا، سكوتها مُلفت للانتباه، نومها المُفاجئ الطويل مريع ودقات قلبها موجعة.
لكنها أرادت تغيير كل هذا، هي لن تقضي أيامها تبكي وتهمل عملها وحياتها!
استيقظت على ضوء الشمس الساطع المتدفق من النافذة، جلست على الفراش تفرك جبهتها كي تطرد النعاس عنها ثم تناولت هاتفها وأرسلت لجيسيكا رسالة نصية تخبرها عن خطتها وسفرها كي لا تقلق، ثم توجهت لحزم أمتعتها لحضور المؤتمر الطبي بعد عدة أيام.
والآن هي موجودة في غرفتها في الفندق بعد عدة ساعات، حاولت الاتصال بجيسيكا لكن الهاتف كان مغلقًا فخمنت أنها برفقة جورج، تذكرت إيريك في هذه اللحظة فشعرت بوخز الحزن في مؤخرة رقبتها، واتصلت بلونا التي أجابت من النغمة الأولى:
-"كنت أنتظر اتصالك"
طمأنتها على نفسها ووصولها، لتستمع إلى كلماتها أنها تريد أن تخبرها شيئًا:
-"ما الأمر لونا؟
هل كل شيء بخير؟"
قرأت رسالة أرسلها إيريك لها قبل الفجر بوقت قصير:
-"أرجوكِ أعتني بآريا"
ثم وجهت حديثها لآريا بتعجب:
-"لم أفهم شيئًا!"
زفرت بنزق تهز رأسها بابتسامة ساخرة:
-"لا يهم"
قالتها بصوت مكتوم ونظرات شاخصة في الفراغ، ثم أنهت المكالمة معها وسقطت في نوم متقطع، لتراه أول شيء في حلمها فابتسمت:
-"إيريك!"
-"آريا.. كم من الجميل رؤيتك!"
لهجته القاسية جعلت قلبها يقرع بقلق!
نظراته الباردة والغريبة كانت ككومة صقيع ضربت منتصف صدرها!
تجمدت مكانها على الفور بأنفاس بدأت في التسارع، وعينين متسعتين بذعر، تهز رأسها بإنكار:
-"لا.. ليس إيريك"
رفعت نظرها له بشهقة عالية وجسدها ينتفض بشكل ملحوظ:
-"غابرييل!"
فجأة وجدته خلفها ممسكًا بكتفيها فاقشعر جسدها بشعور بعيد تمامًا عن شعور الدفء الذي يدب فيها عند لمسة إيريك، أنفاسها تلفح جانب عنقها هامسًا في أذنها:
-"هل أنتِ جاهزة للعب آريا؟"
شهقت بخوف والتفتت برأسها تنظر له لكنها لم تجده، فصرخت رعبًا عندما التفتت مرة أخرى لتراه أمامها، وقف الاثنان أمام بعضهما في صمت من جهتها، ومكر خبيث من غابرييل!
رائحة خوفها تلتف حول عنقها مثل حبل المشنقة، تشعر بأنفاسها ثقيلة، صوتها المبحوح يتلاشى كالضباب في الفراغ، أرادت الذهاب والخروج من هنا لكن قوة أكبر منها جعلتها متسمرة مكانها.
انحنى في حركة مسرحية ساخرة:
-"عزيزتي"
-"ماذا تريد غابرييل؟"
خرج صوتها مهزوز ومتوتر جعله يبتسم بخبث مكتفًا ذراعيه أمام صدره:
-"أتعلمين؟
كل يوم أطرح نفس السؤال على نفسي"
عقد حاجبيه يسألها كأنه يأخذ رأيها:
-"برأيك ماذا أريد، آريا؟"
-"أنت لست مسليًا"
قالتها بضجر وملامح حادة فجابهها بتسلية:
-""ليس مثل إيريك اللطيف.. هل هذا ما تعنيه؟"
وميض الغضب ظهر جليًا في عينيها، واحتقن وجهها بالدماء مما جعله يضحك بقوة مكملًا حديثه:
-"هو ثمين للغاية، أليس كذلك؟"
استحالت نظراته فجأة للبراءة والوداعة كإيريك تمامًا، واقترب خطوة منها يهمس بنبرة مطابقة لأخيه:
-"ستكون أمنا محطمة القلب غابرييل!
مذهب المتعة الصافية ليس طموحًا مناسبًا غابرييل!
لا تستنزف البشر غابرييل!"
بين كل جملة والأخرى كان يقترب خطوة، حتى وقف أمامها مباشرة وانقلبت نظراته إلى أخرى ساخرة.. ظهرت قارورة فضية من اللاشيء في يديه ليفتحها ويأخذ جرعة كبيرة قبل أن يزفر أنفاسه بقوة، رافعًا كتفيه بعدم معرفة:
-"لماذا يحسدكم كثيرًا أيها البشر المثيرون للشفقة!
لا أعرف أبدًا"
إن اختياره الغريب للكلمات جعل أطرافها تشعر بالوخز ورعشة الخوف!
لماذا سيحسدها إيريك؟
لماذا يشعر بالحسد نحو مجمع البشر في حين أنه خالد!
عقدة حاجبيها، جبينها المتغضن، نظراتها المهزوزة وملامحها التي توحي بعدم فهم أي شيء جعله يشهق متفاجئًا بتصطنع:
-"أوه، لم يخبرك؟"
وضع كفيه في خصره رافعًا رأسه لأعلى يهزها بقلة حيلة:
-"لا لا إيريك.. هذه ليست طريقة لتعزيز الثقة والصدق في العلاقة"
زمجرت بشراسة وضغطت على شفتيها بقوة تعد من واحد لعشرة، فضحك ضحكة مكتومة واقترب منها منحنيًا قليلًا نحو وجهها واستحالت ملامحه إلى الشر المطلق، ونظراته الساخرة إلى أخرى قاسية حاقدة، وبنبرة حادة قال:
-"إنه أحمق كي يلتصق بشخص مثلك!
أنتم البشر كلكم متشابهون!
متقلبون وضعفاء.. أنا متأكد من أنه بمجرد أن يضايقكِ ولو للحظة، سوف تهربين"
-"ماذا؟"
هتفت بدهشة تهز رأسها برفض، وحاولت الحديث لكنه لم يعطها أي فرصة:
-"لكنني لن أفعل مثلك"
حاولت التحرك لكنها شعرت أن قدميها مكبلتان، نظرت أسفلها فرأت بضعة أغصان تخرج من الأرض وتلتف حول قدميها تثبتها مكانها، توسعت عيناها برعب وبدأ جسدها بالانتفاض والارتعاش بخوف، ورفعت أنظارها المليئة بالتيه له، فابتسم لها بشراسة وبدأ يدور حولها ببطء يثير التوتر:
-"أترين آريا؟
أنا هنا من أجله فقط، على عكسك أنتِ.
أنا أهتم لأمره على الرغم من اختلاف شخصياتنا، لكن أنتِ هربتِ وتخليتِ عنه من أول اختبار!"
اتسعت عيناها بذهول واستنكار، كيف يجرؤ على افتراض ذلك عنها؟
بعد هذه الفترة الخصبة من الألم وهي تحاول بألف طريقة لتتخلص من الوجع والأحلام الزجاجية التي انكسرت وتأذت من شظاياها، كيف يتهمها بهذا وهو سبب كل المشاكل التي تحدث معها، وبالطبع مع أخيه من مئات السنين؟
انتبهت على وقوفه خلفها يضغط على ذراعيها بقوة حتى كاد يكسر عظامها، وأكمل هامسًا بقية حديثه الحاد:
-"اعترفي بهذا آريا، أنتِ لا تهتمين به على الإطلاق.. هو مجرد شيء تتلاعبين به ليس أكثر"
ازداد وميض الغضب في نظراتها رافضة ما يقوله، لا تستطيع تصديقه!
هي وإن كانت غاضبة ومصدومة مما عرفته، لكنها كانت تهتم لأمر إيريك أكثر من أي شخص!
على الرغم من حقيقة كينونته، لكن ما بينهما ليس أمرًا عاديًا، بل مميزًا ونادرًا!
التفتت برأسها له ورفعت عينيها لعينيه بصدق وثبات:
-"كيف تجرؤ على اتهامي بهذا؟
ما بيننا أنا وإيريك شيء لن تستطيع أن تفهمه، أنا أهتم لأمره أكثر من أي شيء وأي شخص غابرييل"
صمت للحظات مأخوذًا بإجابتها، ثم مال برأسه للجانب قليلًا يضيق عينيه اللامعتين:
-"أنتِ جادة بما تقولين، أليس كذلك؟"
كان تعبيره تأملي نوعا ما، قبل أن تنقلب نظراته للشراسة ونبرته للسخرية:
-"أنتِ حمقاء، آريا جاكسون"
رفعت كتفيها بلا مبالاة فكانت عيناه الخضراوان الحادتان تقيّماها قبل أن يتكلم لوقت طويل:
-"حسنًا، دعيني أخبرك سرًا.. لقد وضع أخي العزيز في رأسه أنه يمكن أن يصبح إنسانًا"
انتفض جسدها بشكل ملحوظ له فمط شفتيه في عبوس يقول بشيء من الضجر والقسوة:
-"أنا ألوم أمي حقًا.. هي التي أعطته هذه الفكرة الحمقاء، ثم ماتت، وبقيت لأكتشف قدرات نوعنا الحقيقية بمفردي"
حاولت التظاهر بالقوة فهزت رأسها بعدم اهتمام وهتفت تعيد خصلاتها للخلف:
-"هذا لن يغير شيئًا غابرييل"
-"ربما بالنسبة لكِ، لكنه غيّر كل شيء بالنسبة لي!
مات والداي في وقت واحد، ولا أحد سوى إيريك و "بوصلته الأخلاقية" كان معي، قلت له بلا فائدة.. نحن متفوقون على البشر في كل شيء، لكنه كان يضع نوعك على قاعدة التمثال"
شعرت بعينيه تلمعان بوميض كراهية، يرمقها من أعلى لأسفل في صمت مشمئز:
-"لماذا؟
لأنكم تستطيعون أن تحلموا؟
لأنكم تستطيعون أن تموتوا؟"
لحظة صمت وقعت بينهما لم يقطعها سوى أنفاسهما العالية، النظرات بينهما حادة مشتعلة، فكتفت آريا ذراعيها أمام صدرها عاقدة حاجبيها بتساؤل، ثم مالت رأسها للجانب قليلًا:
-"أنت متمسك بطبيعتك بشدة غابرييل، ولأن إيريك يرفض هذه الطبيعة فأنت تظن أنه يرفضك أنت أيضًا، أليس كذلك؟"
زفر أنفاسه الحادة عقب كلماتها الأخيرة الممزوجة بسخرية، ثم نظر لها بعينيه البراقة راسمًا ابتسامة ماكرة على فمه:
-"أنتِ ماهرة في التلاعب أيضًا، أكثر إثارة للاهتمام من آخر إنسان عرفته من طرف إيريك"
ختم كلماته بغمزة، ظنت أنه يرمي بكلماته على أختها فاشتعل وجهها بالغضب:
-"من الأفضل ألا تأتي باسم كلير"
تيبس جسده للحظات قصيرة وتسمرت عيناه عليها بعدم فهم قبل أن تتعالى ضحكاته بصخب:
-"كلير.. كدت أن أنسى أمرها"
كزت على أسنانها بقوة جعلت ابتسامة غابرييل تتسع أكثر، يخرج لسانه يمرره على شفته السفلى وهو يقترب منها:
-"أنتِ حقًا لا تعلمين ما حدث معها، أليس كذلك؟
البشر الحمقى مثلك دائمًا ما يكونوا غير مدركين لما يحدث حولهم"
يريد أن يهدم قوتها، لكنها لن تجعله يصل لهدفه، تنفست بعمق ورفعت أنفها بشموخ تنظر له من أعلى لأسفل:
-"أعلم أنك فعلت كل هذا فقط كي تجذب انتباه إيريك"
احتدت نظراته عليها وضاقت عيناه في حذر مستمعًا لها تكمل بقسوة:
-"لقد فقدت والديك، وبقى أخوك هو كل ما تملك، لكن مهما حاولت أن تجعله يسير على نمط حياتك، كنت تنجح في الدفع به بعيدًا أكثر.. وهذا مدمر لك"
اشتعلت عيناه بالحقد والكره، ثم زمجر بشراسة أن تتوقف عن الحديث وهو يتحرك بسرعة البرق من مكانه نحوها يضع يده حول رقبتها يخنقها بقوة، حاولت أن تفك قبضته عنها لكنه كان يشدد من ضغطه أكثر حتى بدأ اللون الأزرق ينتشر في وجهها، لكن لم يفتها رعشة صوته عندما تكلم:
-"أستطيع أن أنهي حياتك بحركة واحدة أيتها البشرية"
لكنه لم يفعل، لأنها مدركة تمامًا أنه لا يستطيع، شدّت يده لكنها لم تؤلمها، يبدو الأمر وكأن هناك حاجزًا بينها وبينه، يبدو الأمر وكأنها تحاربه!
أغمضت عينيها تركز عقلها على نقطة معينة ثم فتحتهما فجأة، فخرجت موجة من الطاقة من جسدها ضربت منتصف صدره جعلته يفقد توزانه وعاد خطوات للخلف، وضع كفه فوق صدره ناظرًا لها بصدمة، فابتسمت له بأنفاس لاهثة ترفع كفها بإرهاق وقد قررت الخروج من هذا الحلم وإنهاؤه هنا:
-"وداعًا غابرييل"

يحدث ليلًا "فانتازيا مكتملة"Where stories live. Discover now