الفصل السادس

133 12 0
                                    

نفخة هواء أزاحت التراب عن مقبرة الأسرار
بأيدي مرتعشة وتشجيع من صوت الفضول تفتحها
فتصفعك الحقيقة أن سبب دمارك هو من مد يده لك
لتكتشف أن الطريق الذي مشيته معه ما كان سوى ضلال.
الضلال فقط!


نظراتها غير مصدقة ما تراه!
الرسمة أمامها تظهر ملامح إيريك ببراعة لدرجة أظهرت خطوط وجهه وعُقدة جبينه باحترافية قوية، لكن خط أختها الذي من المستحيل أن تخطئه كتب أسفلها غابرييل؟
أصبح كل شيء حولها صامت كأنه غارق في نوم عميق!
كل المتاعب، الألآم، الصدمات غابت كغياب الشمس تحت الغسق!
تلك اللحظة التي قال فيها العقل للقلب.. أرأيت؟!
لقد كنت محقًا بشأن مخاوفي لكن دقاتك اللعينة من أخفت صوت صدقي!
هزت رأسها عدة مرات في محاولة لاستيعاب ما تراه لكن لا فائدة!
ماذا تفعل صورة إيريك في كشكول رسومات كلير؟
هذا من المستحيل إلا إذا كان... حبيبها!
الرجل الذي دمرها!
من هجرها ليقتلها؟
نظرت إلى الاسم مرة أخرى متذكرة أن حبيب كلير كان اسمه غابرييل، فأصبح من الصعب التنفس ولا تعرف ماذا تفعل والحقيقة تتضح أمام عينيها أن إيريك هو... هو الشخص الذي قتل كلير؟
أيعقل أن مصدر الدفء والأمان الذي كانت تستمد منه قوتها تلاشى كتلاشي الضباب في ضوء الشمس!
أيعقل أن كل هذا الوقت كانت غارقة في بحر من الكذب لتخرج بوابل من الخيبات!
صدمة أن لا يتغير شيء!
والصدمة الأكبر أن كل شيء بحاجة للتغير!
تسارعت أنفاسها بالغضب، احتقن وجهها بالدماء من فرط الانفعال هاتفة من بين أسنانها:
-"هذا الحقير.. كيف أكون بهذا الغباء؟
كنت أعلم أنني لا أستطيع الوثوق به!
كان لابد من الاستماع إلى حدسي يوم التقيت به"
عقدت حاجبيها باستنكار وقد ضربها إدراك آخر، نظرت إلى الصورة مرة أخرى وعقلها يفكر..
رسمته كلير قبل خمسة عشر عامًا، وهذا الشكل هو بالضبط ما يبدو عليه إيريك اليوم!
مستحيل أن يكون الشخص في منتصف العمر منذ خمسة عشر عامًا وحتى الآن!!
جحظت عيناها بإدراك وتوقف الهواء في صدرها هامسة:
-"إلا إذا.. لا يتقدم في العمر!"
شعرت بالحموضة في حلقها.. تتذكر الكابوس!
تتذكر مصاصي الدماء من كوابيسها!
   الكتاب الذي رأته عندما دخلت منزله لأول مرة، والكلمة التي رأتها..
"Incubus"
انتفضت من مكانها والغضب يملأها عازمةً أمرها على شيءٍ ما حان وقته وهي تصرخ:
-"اللعنة"
انطلقت بسرعة عالية بالسيارة تُصدر صوتًا عاليًا من احتكاك الإطارات بالأرض.. رؤية ضبابية من الغضب الحار الذي أوصلها إلى منزل إيريك فور بزوغ الفجر، غير متأكدة مما تنوي فعله أو حتى ما يمكنها فعله ولكنها غاضبة جدًا لدرجة أن التفكير في ذلك بعيد.
دارت بنظراتها في الأرجاء تدور حول نفسها تقبض على مقدمة خصلاتها بقوة:
-"أين هو بحق الجحيم؟"
تفحصت المكان غرفة غرفة حتى وجدته أخيرًا جالسًا أرضًا يستند إلى الحائط في غرفة مضاءة بشكل خافت يرفع رأسه لأعلى مستغرقًا في التفكير في أمر ما حتى انتبه لدخولها وقد رُسمت على وجهه المفاجأة، فهمس قائلًا بتعجب من وجودها:
-"آريا!"
قاطعته بصراخها المذهول الدال على غضبها وخذلانها الذي اكتشفته لتوها:
-"أيها المخادع، طوال هذا الوقت كنت تكذب!
لا أصدق أنني وثقت بك!"
عقد حاجبيه بدهشة من مهاجمتها وهز رأسه بعدم فهم:
-"آريا أنا لا أفهم عما....."
صرخت به بحرقة مشيرة بسبابتها ليصمت فتوقف عن الحديث ناظرًا لها باستنكار يسمعها تهتف بصوتٍ حادٍ متحشرج من فرط انفعالها:
-"أيها الكاذب.. أنت من قتل كلير، ومن أخذ جيسي أيضًا، أليس كذلك؟"
ابتسمت ساخرة ترمش بأهدابها والأحجية تتجمع بجانب بعضها أمام عينيها:
-"ثم قدمت هذا العرض الكبير لمساعدتي في العثور عليها حتى تتمكن من... ماذا؟"
حدقت به بتيه ترفع حاجبها بتساؤلٍ ساخر:
-"ماذا كانت نهاية لعبتك؟"
علامات المفاجأة وعدم الفهم تظهر جليًا على وجهه تزيد من غضبها أضعافًا خاصةً بعدما قال:
-"آريا أنا لا أفهم ما الذي تتحدثين عنه؟"
رمشت أهدابها بعدم تصديق عدة مرات وفغرت فاها بذهول من براعته في التمثيل فضحكت بسخرية:
-"يا إلهي أنت كاذب بارع!
إذا لم أكن أعرفك جيدًا، كنت سأصدق حقًا أنه ليس لديك فكرة عما أتحدث عنه"
استقام من مجلسه مقتربًا منها فعادت خطوة للخلف مبتعدة عنه مشهرة سبابتها في وجهه رافعة حاجبها بتحذير أن يتقدم الخطوة الثانية منها، اتسعت عيناه بعدم تصديق أنها لا تريد قربه وبالأمس كانت تستمد منه الدفء والأمان!
الاتهام في نظراتها.. الغضب في كلماتها.. الخذلان الذي يلوح في عينيها لا يعلم سببه!
-"آريا..."
همسها بخفوت تكاد تُسمع كأنه يترجاها على شيءٍ لا يعلمه كلاهما، فرفعت كفها أمامه هامسة بحدة تبتلع ريقها بصعوبة تتحكم في الغصة التي تعلقت به:
-"لا تفعل، فكل كلمة ستخرج من فمك كذب، وأنا لن أسقط في فخك مرة أخرى إيريك"
رفعت رأسها بازدراء وابتسامة جانبية:
-"أو يجب أن أناديك غابرييل!؟"
إذًا انتهت المراقبة.. تلاشت آخر ذرة من المشاعر!
سقطت راية المجهول بسهم الصدمة!
تراجع بتقهقر كأنه تلقى صفعة منها وقد هربت الدماء من وجهه:
-"غابرييل؟"
تقدمت هي هذه المرة خطوة واحدة مبتسمة بسخرية:
-"هذا هو الاسم الذي استخدمته مع كلير، أليس كذلك؟
أختي الميتة التي تعرفت عليها عندما أريتك الصورة؟"
هز رأسه بالنفي هاتفًا برجاء:
-"لا آريا.. عليكِ أن تصدقي أنه....."
قاطعته ثانيةً صارخة بقهر:
-"هل عليّ؟
ربما يمكنك تفسير هذا إذن!"
فتحت كشكول رسومات أختها على رسمته ووجهتها لوجهه، فأخذها منها بعيون واسعة ويده ترتجف مما يرى هامسًا بخفوت وصوت متلاشي:
-"يا الهي لا لا"
-"هيا.. فسر لي هذا.. أنا أتحداك إيريك"
قالتها بسخرية ثم اقتربت أكثر من أذنه بصوت ضائع هامس:
-"وفي خوض هذا أظن أنه يجب أن تهتم بالشرح لي لماذا لم تتقدم في العمر منذ خمسة عشر عامًا؟
ولماذا لا تخرج في وضح النهار؟
وإذا فعلت يجب ألا يظهر أي شيء من جسدك لأشعة الشمس!
وأيضًا لماذا لا يوجد طعام في بيتك؟"
عادت خطوة للخلف تنظر لرأسه المنحني يتأمل الرسمة وكأنه فُصل عن العالم من حوله، كتفت ذراعيها تحيط نفسها بحماية ورجفة خوف صعدت من معدتها إلى حلقها وهي تقول:
-"أنت لن تستطيع، لأن ما قلته لي بالأمس في حلمي كان صحيحًا.. أنت لست بشريًا!"
أغمض عينيه وتهدل كتفيه كأنه يحمل ثقلًا فوقهما متنهدًا بتعب، بدت عيناه مرهقتان عندما أعاد فتحهما ينظر إليها:
-"ليس لديك التفاصيل الصحيحة تمامًا، وأخشى إخبارك أنني لم أقابل كلير ولم أزور أحلامك الليلة الماضية"
سحب شهيقًا عميقًا ثم زفره دفعة واحدة قوية رافعًا رأسه بكبرياء متأصل به:
-"لكنني أعلم من فعل هذا... ونعم نحن لسنا بشرًا"
-"نحن؟"
نطقتها باستنكار، ليضحك بلا روح يومئ برأسه:
-"نعم آريا، لقد خمنتِ هذا من قبل، أليس كذلك؟
في الواقع، لدي توأم متطابق"
جحظت عيناها بصدمة وعدم تصديق لتصرخ وهي تشيح بذراعها في الهواء بغضب:
-"هل تمزح معي؟
"التوأم الشرير" هو العذر الذي ستحتمي به؟"
هز رأسه بالنفي يرفع ذراعه يتخلل خصلاته بأنامله، وقد بدا متوترًا مترددًا قبل أن يذهب إلى الخزانة العتيقة ويعود مع صورة باللون البني الداكن.
-"وما هذه؟"
-"الدليل"
أخذت الصورة من يده لتتسارع أنفاسها بشدة عندما رأتها، واقفًا بجانب شخصًا يشبهه تمامًا كأنهما نسختين متطابقين لا تستطيع التفريق بينهما، سمعته يشير إلى الآخر الواقف بجانبه:
-"هذا أخي غابرييل، وهذه الصورة كانت منذ آخر مرة رأيته.. أكثر من مائة وعشرين عامًا"
وكان عليك أن تغادر منذ انقباضة قلبك الأولى ولم تفعل!
هذا هو شعورها الآن وهي تستمع له ثم ترنحت إلى الوراء ترمش بأهدابها بسرعة وأنفاسها لاهثة:
-"لا لا"
أشفق على حالتها وسكن الحزن والشفقة نظراته:
-"آريا، لم أقصد أن تكتشفي الأمر بهذه الطريقة"
فنطقت بتيه ونظراتها تنتقل بين النسختين أمامها:
-"وهل كنت تريد أن أعرف من الأساس؟"
رفعت أنظارها المتسائلة له:
-"متى كنت تخطط لتخبرني أنك لست بشريًا؟
وأن لك توأم شرير يحوم في الأرجاء؟"
قاطعها بصوت حاد، قاطع، أجش يملأه الغضب الذي بدأ يتملك منه، والسخرية من تفكيرها:
-"وكيف كنت سأخبرك بالأمر بالضبط؟
  (بالمناسبة آريا.. أنا كائن خالد؟)
في أي عالم كنتِ ستصدقيني"
صمتت ولم تعرف بماذا تجيبه؟
وضعها في خانة اليَك بين شقي الرحى فلم تجد مفر!
معه حق في كامل حديثه!
شعرت بغضبها يتلاشى تاركًا في أعقابه إرهاقًا عميقًا، أعادت خصلاتها للخلف ناظرة للفراغ:
-"معك حق، لم أكن لأصدقك لملايين السنوات"
رفعت أنظارها إليه بتيه:
-"وماذا تكون إن لم تكن بشريًا؟"
وللإجابة على سؤالها هذا أشار لها أن تتبعه ليقودها إلى مكتبة كبيرة واسعة للغاية، رفوفها تدور بمحيطها حتى غطت ثلاث جدران، وطولها يصل إلى سقف الغرفة.
فغرت فاها بإعجاب وعيناها تدور بلمعة طفيفة ابتسم لها وتقدم تجاه طاولة مشروباته يملأ كأسه ثم أشار لها بالزجاجة في سؤال إن كانت تريد، فكتفت ذراعيها تشيح بوجهها قائلة:
-"لا أظن أن تبادل الشراب مع مصاص دماء أمرًا جيدًا"
رفع حاجبه للحظات قبل أن يضحك بقوة قائلًا وهو يرفع الكأس إلى فمه:
-"أنا لست مصاص دماء"
رفعت حاجبها له باستنكار وسخرية طفيفة ليسعل قليلًا ثم ارتشف القليل من شرابه وأكمل:
-"حسنًا.. ليس بالضبط، على أي حال، أعتقد أن مصاصي الدماء هو تشبيه لائق"
توجه إلى رف الكتب يخرج كتابًا مألوفًا قدمه لها:
-"هذا أفضل ما يصفنا"

هل أنت مستعد لمعرفة المجهول؟
قبل كشف الستار تأكد أن الحقيقة قاسية!
الحقيقة لا تلدغ، بل ما يلدغ هو إدراكنا لها!

إنها نفس الصفحة التي رأتها عندما أتت إلى منزله لأول مرة.
Incubus:
"الشيطان الخالد الذي يتغذى على طاقة النساء النائمات"
اقترب منها خطوة مفسرًا:
-"ليست الدماء هي ما نعيش عليه، بل الطاقة"
حدقتيها تتحرك بتردد، أهدابها ترمش بتوتر، نظراتها مليئة بالتيه والقلق!
عقلها الصغير غير قادر على استيعاب تلك الحقيقة أن من أمامها كائن خالد لأول مرة تسمع عنه!
أشفق على حالها واقترب منها بثبات بعدما وضع الكأس على الطاولة يمد كفه لها:
-"أنتِ لستِ نائمة، لكن هذا من الممكن أن يفيد إذا حاولت.. أعطيني يدك"
ثم نظر لها بلمعة شملت خضار عينيه برجاء أن تصدقه:
-"لن أؤذيكِ أنا أعدك"
وضعك يدها في يده بتردد، فشعرت بدفء غريب ومريح كما لو كانت مغمورة في حمام ساخن، الدماء تغلي في أوردتها تبث شعورًا لذيذًا كالعسل الحار ليقشعر جسدها قبل أن يحرر كفها قائلًا:
-"يمكننا أن نتغذى دون ضرر..
كما ترين، من خلال امتصاص ما نحتاجه للبقاء على قيد الحياة، ويكون نصيبنا من الغذاء كبيرًا عندما تكونين نائمة"
تنهد بيأس يهز رأسه بخيبة أمل:
-"لم يكن غابرييل أبدًا مهتمًا بذلك"
فأكملت بحذر:
-"أصبح يأخذ الطاقة بشكل مفرط!"
أومأ بتأكيد ليضربها الإدراك في مقتل ونظراتها تزيغ في الفراغ:
-"هذا ما فعله مع كلير إذن!
هذا هو السبب في أنها كانت محطمة للغاية لتستمر في العيش!"
عض إيريك على شفتيه بقوة واضعًا كفيه في خصره:
-"للأسف نعم.. بمجرد استنفاد قوة حياة الإنسان... لا يوجد شيء يمكن القيام به بالنسبة لهم"
انهارت آريا على الكرسي خلفها وعقلها يترنح في دوامة سوداء، الظلام يستميلها بشدة وفكرة الخضوع له تعجبها للغاية، ليركع إيريك أمامها جاذبًا إياها إلى أحضانه مقبلًا جانب رأسها قبلة طويلة أتبعها بقبلات عدة نثرها على خصلاتها هامسًا بحزن:
-"أنا آسف آريا، أنا آسف للغاية"
ذراعيه قوية ودافئة، شعرت بهزة خفيفة في عضلاته عندما أكمل:
-"يجب أن تصدقيني عندما أخبرتك أنني لم أرد أبدًا أذيتك"
رفضت ما يحدث!
رفضت محاولته التأثير عليها كما تعتقد!
لم تلحظ الصدق في صوته!
لم تلتفت لحديثه المغلف بالاعتذار عما حدث!
أبعدته عنها تحرر نفسها من أحضانه، تتخلص من هالته التي أحاطها بها ببراعة فلاحظت الألم الذي ظهر على وجهه جراء رفضها له:
-"هذا أمر جلي أخفيته عني، أعلم أنك لا تملك خيارًا غيره لكن..."
صمتت تنظر له كأنها تحاول سبر أغواره، تتعرف على من يجثو أمامها تبحث فيه عن إيريك الذي تعرفه:
-"أشعر أنني أنظر إلى شخص لا أعرفه"
جفل للحظات من تصريحها، من خوفها البادي على وجهها جعله يبتلع غصة تكونت في حلقه وشعور الاشمئزاز من نفسه هو ما يسيطر عليه.
رفع كفيه أمامها محاولة منه للتهدئة من روعها:
-"حسنًا.. دعيني أشرح لكِ من البداية"
نظر بعمق في عينيها وبريق أبيض ظهر كالبرق في حدقتيه، لتشعر بتثاقل أجفانها وقالت بدهشة:
-"ماذا تفعل؟"
فهمس بصوت عميق هادئ:
-"تغيير المكان هذا كل ما في الأمر.. نامي آريا"
لتذهب بعدها في سبات عميق تشعر بحلقة من الظلام تبتلعها وهي بداخلها مسيرة.
روائح الماضي تلتصق بك دائمًا
بكل الأماكن وبكل الأشخاص
لا نسيان يجدي معها ولا تناسي
ومهما مر الوقت سيأتي أوان الكشف عنه

خائنة!
ينعتها بالخائنة وهي التي اكتشفت للتو أن كل ما عاشته كان خدعة تحت سماء مليئة بغيوم الخيانة!
صمتت تحاول أن تستوعب ما يقوله، يبدو أنه قد جُن!
اقتربت قليلًا منه بشجاعة وعدم خوف، شعور الغضب والقهر طغى على خوفها والتوتر بداخلها، حدقت بعينيه المشقوقتين بشراسة تهمس بصوت مبحوح حاد:
-"أنا الخائنة؟!
أنت المسئول عن موت أبي وأمي الحقيقيين!
أنت المسئول عن موت عائلتي الثانية وأخذ أخي!"
اقتربت خطوة أكثر تدقق النظر في حدقتيه اللاتي بدأتا في الاشتعال تقول من بين أسنانها:
-"هذه السنوات الثمانية التي اختفت من ذاكرتي ثم أستيقظ مع امرأة ظننتها أمي، لأكتشف للتو أنه ليس بيني وبينها أي رابط!
أصبحت متأكدة أنك المسئول عن كل هذا"
رفعت السوار الأرجواني الموضوع لرسغها الأيمن أمام عينيه، ثم أشارت للقلادة حول عنقها في إشارة صامتة أن خلفهما سر كبير هو الوحيد العالم ماهيته، ارتفع صوتها فجأة بحرقة:
-"ماذا فعلتِ بي ريان؟"
عادت خطوة للخلف بصرخة واضطراب عندما زجر بقوة يدور حول نفسه في الهواء وصوت طقطقة العظام يعلو في الأرجاء، وفجأة هبط أمامها بشكله البشري وطوله المهيب وقد تحول لون عينيه إلى الأسود من الغضب، يقبض على عضديها بقوة حتى كادت أصابعه أن تخترق جلدها، ثم همس بسخرية مملوءة بالغضب:
-"تريدين أن تعلمي؟!
لقد أخبرتك تلك الليلة أنني سآخذك لعشيرتي للأبد، لكن ردًا للجميل الذي فعلتيه معي اكتفيت بمسح ذاكرتك عن تلك الفترة التي قضيتيها معي كي تعيشي حياتك براحة"
كان مع كل كلمة يخطو بها للخلف حتى اصطدم ظهرها بحائط الكهف الملئ بالحجارة المدببة التي ضربتها بقوة، أغمضت عينيها بألم وأخرجت تأوه بسيط تعض على شفتيها وقالت بخفوت:
-"أتركني ريان، أنت تؤلمني"
لم يهتم بألمها، بل زاد من ضغطه على عضديها وعيناه تزداد اشتعالًا مكملًا حديثه بذكريات لم تمت بل تُميت:
-"للمرة الأولى في حياتي أخلف بوعدي فقط من أجلك، وبعد معرفتي بتلك الحادثة؛ مسحت كامل ذاكرتك ووضعت أخرى تحت عناية سيدة ولائها لي كي تهتم بكِ.. فقط لأمنع الحزن عنكِ"
رفعت كفها المحاط بالسوار وأشار للقلادة:
-"هذا السوار والقلادة وضعتهما من أجل حمايتك، لكن التعويذة التي وضعتها عليكِ كُسِرت بمجرد دخولك الغابة من جديد.. وهذا ما لم أخطط له"
إن نجحت في خداع أحد ليس لأنك ذكي، لكنه فقط كان يثق بك!
رفعت نظراتها له بغضب برغم الدموع التي هبطت دون إرادة منها، ظلت تتحرك بين قبضتيه بقوة حتى تتحرر لكنه لم يفلتها صارخة:
-"قتلت عائلتي، وواحدة من عشيرتك الحقيرة قتلت البقية وأخذت أخي، حتى ذكرياتي الباقية من الجميع لم تتركها لي!
والآن تخبرني لأنه من أجل حمايتي؟"
سكنت فجأة تقبض على أسنانها بقوة حتى كادت تتفتت في فمها، شعور الخيانة يتفاقم لذروته بداخلها، أوجاعها كانت ضريبة لوفاء وبراءة مفرطة، لكن أتت رياح الحقيقة وعصفت برماد الكذب الذي يغطي وجهه:
-"بل لأنك أناني كما كنت دائمّا ريان..
ليتني تركتك تموت!
ليتني أتممت قتلك بيدي التي عالجتك"
صرخت بقوة وشعرت بذراعيها كادا يخرجان من مكانهما، لتجد نفسها تسقط على الأرض عندما تركها فجأة، وزمجرته الممزوجة بغقغقة الصقر يعلو في الأرجاء جعل المكان يهتز كمن ضربه زلزال شديد!
شعرت بالدم ينفجر في أذنيها وقلبها ينبض بشدة في صدرها، استغرق الأمر بعض الوقت ليهدأ الوضع لتستوعب أنها وحدها في المكان، شعرت بالكهف يضيق من حولها وسرق أنفاسها من رئتيها!
أمسكت حقيبتها وانطلقت للخارج، كانت الشمس تشرق لتوها وتم رسم السماء بمجموعة ألوان جميلة من البنفسجي والوردي، تنتشر التلال الخضراء المتدحرجة وراءها مما يؤدي إلى جبل شاهق.. حشد ريان يقع عنده، كان من الممكن أن تكون الرحلة أسهل مع الحصان، لكنها لم ترغب في جذب أي انتباه غير ضروري.
أصبحت الحقيبة على ظهرها أثقل وأثقل بينما تسير، أشرقت الشمس وصعدت حتى أصبحت في وسط السماء، وأصبح الهواء دافئًا نوعًا ما، كل ما تركز عليه الآن هو الوصول إلى تران وإخراجه من هناك.
كل ما تتذكره من رحلتها الوحيدة إلى الحشد كان هناك العديد من الثقوب في الجبل، إذا انزلقت من خلال أحدهم يمكنها بالتأكيد أن تجد طريقها إلى تران والآخرين، سيكونون على الأرجح في الأبراج المحصنة في الأقسام السفلية من الجبل.
لمع سوارها الأرجواني في الشمس ونظرت إليه تحدثه:
-"في يوم من الأيام سأخلع هذه الأصفاد وأتحرر منه"






أغمض عينيك وأطلق العنان لعقلك
لك جناحان تنتقل بهما من أرض الواقع إلى عالم الأسرار
هناك حيث الإجابات عن الأسئلة المبهمة
حيث كُشف الستار عن المجهول
حيث البداية لما انتهى هنا

نفس المكان
نفس غرفة المكتبة
لكن الجو العام مختلف!
إيريك أمامها يرتدي ثيابًا تعود للعصور الوسطى زادته هيبة كأنه ملك لا ينقصه سوى التاج لتكتمل الصورة!
وهي ترتدي فستانًا بسيطًا باللون الأبيض ذو حمالتين عريضتين يعود لنفس الحقبة.
اقترب منها يضع ذراعًا خلف ظهره، والآخر مده لجانبه بطريقة مسرحية لكنها حقيقية، هاتفًا بترحاب وسمو:
-"مرحبًا بكِ آريا في قاعة فرانكفورت، منزل طفولتي"
أزاح الستائر للخلف فانتشرت أشعة الشمس تُضئ المكان ناشرةً الدفء فيه، رفعت كفها أمام عينيها ترمش بعفوية حتى تعتاد على الضوء.
جالت نظراتها في المكان بتعجب ثم أسرعت لاهثة نحو النافذة فسقطت أنظارها على الريف الأخضر المترامي الأطراف، شهقت بذهول:
-"يا الهي هذا مستحيل!"
استدارت له برأسها فتجمعت خصلاتها على كتفها الأيسر:
-"نحن الآن بداخل حلمك أليس كذلك؟"
هز رأسه بلا أتبعها بإجابته:
-"بل حلمك أنتِ.. فنحن لا يمكننا أن نحلم، بل لا ننام على الإطلاق.. فقط يمكننا تشكيل أحلام البشر"
سحب كتابًا من على رف قريب وشرع يقلب بين صفحات مطبوعة غير مفهومة اللغة، ففكرت بصوت عال:
-"إذا كان هذا حلمي، إذن..."
سحبت الكتاب من بين يديه وأغمضت عينيها تركز تفكيرها على شيء محدد تختبر منه إن كان سينجح أم لا!
ضغطت على جفنيها بشدة، تقبض على الكتاب بقوة وفكرة واحدة تحوم في رأسها وهي اختفاء الكتاب، لتتحقق بالفعل وشعرت بصفحات الكتاب تتبخر بين يديها فعلمت أنها تستطيع التحكم في مسار حلمها!
نظرت إلى الفستان الذي وضعها إيريك فيه لتغمض عينيها مرة أخرى فتحول إلى بنطال من الجينز وكنزة خضراء مريحة لتضحك بمرح قبل أن ترفع أنظارها إليه فوجدته يناظرها بحاجب مرتفع ونظرة ساخرة، يتأمل ما اختارته:
-"حقًا من بين أزياء الكون، اخترتِ هذا"
لوت فمها ولم تجبه فتحولت ابتسامته إلى شيءٍ من الحزن ثم شد جسده في وقفته وبدأ في التحرك قائلًا:
-"حسنًا تعالي معي"
صعدا إلى الرواق الثاني الذي يبدو أنه يمتد إلى أجلٍ غير مسمى، يشمله الظلام إلا من تلك المشاعل المثبتة بجانب بعضها ومعلقة بشكل دائري في السقف، بالإضافة إلى المثبتة على الحائط من الجانبين كأنها بداخل سرداب طويل مخيف وبنهايته يكمن الوحش الكامن بداخل عرينه.
همست لنفسها وهي تدور حول نفسها بذهول:
-"الأمر برمته أشبه بكرات من الجنون"
توقفت فجأة باضطراب وكرة من القلق تضرب معدتها عندما وصلها صوت بكاء طفيف.
صدح مرة أخرى عندما فتح إيريك الباب الأول ليكشف عن غرفة نوم مجهزة بأناقة، اللون الذهبي يطغي عليها، ونوع من الهدوء يكتنفها بسبب إضاءتها الخافتة، طاولة دائرية كبيرة عليها القليل من الكؤوس وإبريق مليء بالشراب.
أمامها ترقد امرأة جميلة على السرير الهائل المحاط بالستائر المخملية باللون البني، وشعرها الذهبي يلتصق على جبينها بسبب العرق بينما تكز على أسنانها بقوة وهي تنكمش في نفسها، همس إيريك من جانبها معرفًا:
-"أمي.. بياتريس"
رأت رجلًا لطيف المظهر يجلس بجانبها ممسكًا بيدها بينما تمسح القابلة بقطعة قماش مبللة على جبينها هامسًا لها بحب ظهر جليًا في عينيه:
-"بياتريس عزيزتي أنا أعرف أنكِ قوية وقادرة على فعل هذا"
-"وهذا زوجها روبرت"
نظرت له بغباء لا تفهم ما يحدث فأكمل بهدوء وابتسامة:
-"ألتقيا عندما كانت أمي حاملًا، وكل ما أعرفه عن أبي البيولوجي هو أنه كان واحدًا منا"
أحاط ظهرها يقودها للخارج مغلقًا الباب خلفهما، وأكملا طريقهما في الرواق حتى سمعا صوت بكاء طفل صغير ليقول:
-"كنت أنا أول مولود لأمي، ولقد اعتبرني روبرت وريثه"
فتح الباب المجاور ليكشف عن غرفة مريحة مضاءة بالشموع مزينة بألوان مبهجة.. باقات الزهور منتشرة في الأرجاء، مدفئة حجرية كبيرة تأخذ نصف الحائط تقريبًا مشتعلة بالحطب تنشر الدفء في الغرفة، تتوسط مكتبتين كبيرتين مليئتين بالكتب العريقة.
وقع نظرها على ولدين جميلين بشكل ملائكي يجلسان على جانبي طاولة منخفضة، وعيناهما ملتصقتان بأوراق اللعب في أيديهما.
نظرت إليه بتساؤل فوقف خلفها حد الالتصاق يضع كفه على خصرها، يقترب من أذنها فوقفت الشعيرات القصيرة أسفل عنقها متأثرة بأنفاسه الحارة وهمسه ينساب بهدوء كالعسل الحار داخل أوردتها:
-"هذا أنا"
أشار على طفل يبدو على ملامحه الهدوء، البراءة، والعقل فابتسمت تلقائيًا بحب لمع جليًا في نظراتها واستدارت بوجهها له فالتصقت مقدمة أنفيهما:
-"أنظر إليك إيريك لقد كنت رائعًا"
لم يتمالك نفسه واقترب يطبع قبلة على جانب شفتيها بحرارة توقفت لها الأنفاس للحظات، ثم حرك سبابته على الطفل الآخر ليحل التوتر محل الهدوء بداخلها عندما التقطت المكر والخبث الفطري في نظراته:
-"وهذا أخي.. غابرييل"
صدح صوت الصغير بمرح يتقافز بانتصار:
-"لقد ربحت.. لقد ربحت"
ظهرت أمهما من خلفهما تحيط كتفي غابرييل من الخلف قائلة بصوت به بحة مميزة شبيهة بإيريك:
-"غابرييل هل غششت مجددًا؟"
فغر فاهه ونظر لها بابتسامة ماكرة:
-"بالطبع لا أمي"
ارتسم العبوس على ثغرها ورفعت حاجبها بتحذير:
-"أنت تعلم أنني أحزن عندما تكذب"
هز رأسه بإنكار ونظر لأخيه كي يساعده والذي وقف بدوره قائلًا بهدوء:
-"لقد ربح بمجهوده أمي"
نظرت آريا إليه بتعجب ترفع حاجبيها بدهشة:
-"أنت تغطي عليه؟"
رأت الأسى يلمع عليه للحظة قبل أن يختفى:
-"نعم ربما أكثر مما ينبغي"
مرت لحظات كانت كالقرون على أبنائها البالغين قبل أن تقول بقوة جادة:
-"أعرف أنك تحاول مساعدة أخيك إيريك.. لكنك لن تستطيع فعل هذا إلى الأبد.
يجب أن تفهم أن هناك قواعد وقوانين يجب أن يطيعها جنسنا من أجل البقاء والحفاظ على تعقلنا"
جلست على الكرسي تتوسطهما مسترسلة في حديثها بتحذير:
-"إذا قمنا بالغش... إذا كنا نبحث دائمًا عن الطريق السهل، فيجب علينا دفع الثمن في النهاية"
زفر غابرييل بملل يقلب عينيه بسخرية ثم نهض هاتفًا:
-"سأذهب لأرى أبي، لقد وعدني بنزهة بعد غروب الشمس"
هزت رأسها بضجر وهو يندفع من الغرفة ثم ربتت بيدها على شعر إيريك قائلة بحنان:
-"هيا أذهب، أنا أعلم أنك تريد الانضمام إليه"
سعد الصغير كثيرًا مقبلًا وجنة والدته وهرع خلف أخيه، في حين دفع إيريك الكبير آريا بلطف إلى الخارج مغلقًا الباب، فالتفتت له تسأله:
-"هل كان روبرت يعلم بهويتكما؟"
-"نعم، على الرغم من جميع النوايا والأهداف كنا أطفالًا عاديين بصرف النظر عن حساسيتنا لأشعة الشمس.
فحاجتنا لاستهلاك الطاقة البشرية لا تتطور حتى سن المراهقة المتأخرة"
تابعت بفضول تمكن منها وهي تقف أمامه تعيق طريقه:
-"وإلى متى تعيشون؟"
هز كتفيه بلا حول ولا قوة، يمط شفتيه بلامبالاة:
-"ربما إلى الأبد؟
ربما حتى نُقتل؟
أنا لا أعرف سوى عدد قليل منا، لذا فإن إطاري المرجعي ضئيل"
قادها إلى نهاية المرر مكملًا حديثه:
-"نحن جنس نادر الوجود، وكانت أمنيتنا الوحيدة أن نتحول إلى بشر"
تسمرت مكانها متسعة العينين، تنظر له بغباء تهز رأسها بكيف، فضغط على جفنيه بقوة يخفي ألم استطاعت ملاحظته وقال:
-"لا أعلم لكن عندما أصبحنا بالغين اكتشفت أمي كينونتنا فشعرت بالذنب يأكل أحشاءها، قامت بحبس نفسها في غرفتها حتى أصابها اليأس وانتحرت"
أنهى حديثه بفتح بابًا آخر لتهرب الدماء من وجهها فأصبح شاحبًا كالموتى، وقفت تحدق برعب في المقصلة التي تلوح في الأفق فوق الأرضية الملطخة بالدماء.. هنا ضربتها الحقيقة في مقتل..
لقد أنهت بياتريس حياتها بفصل رقبتها عن جسدها!!
شهقت بقوة كمن اندفع من أعماق البحر إلى السطح طلبًا للأكسجين، تنظر لإيريك بدموع وحزن ثم جذبته إلى أحضانها تخفف من ألمه:
-"أنا آسفة إيريك"
بادلها العناق بقوة يدفن وجهه في شعرها هامسًا:
-"كل شيء على ما يرام لقد تجاوزت الأمر"
رفعت رأسها فارتعد عندما رأى الدموع عالقة في أهدابها، أحاطت وجنتيه برقة وقالت بعد أن ابتلعت لعابها فخرج صوتها متحشرجًا:
-"لكنك لا تستحق هذا إيريك"
أجبر نفسه على الابتعاد ينظر في الفراغ:
-"كطفل.. لا، لكن كرجل أخشى أنني أستحق أسوأ بكثير"
صمت فجأة قبل أن يخرجا مغلقًا الباب واستمر في النزول إلى القاعة قائلًا:
-"أنا وغابرييل كنا ننجذب إلى البشر الذين يتمتعون بقوى قوية بشكل خاص، وأنواع المبدعين عادة الفنانين، الكُتّاب وفناني الأداء....."
قاطعته آريا بإدراك:
-"مثل كلير وجيسي!"
أومأ برأسه وهو يفتح الباب الذي يعطي لمحة من وراء الزجاج فرأت غابرييل يسرج حصانًا بينما ينظر إريك إليه الذي قال:
-"بدلاً من التنافس من أجل الحالمين الأقوياء في الريف، غادر غابرييل إلى لندن بينما بقيت لإدارة الأمور هنا"
أغلق الباب مرة أخرى عندما أنطلق أخوه بالحصان إلى مسافة بعيدة، فنظرت له عاقدة الحاجبين:
-"وكانت هذه آخر مرة تراه بها؟"
-"لبعض الوقت نعم، على الرغم من أن مساراتنا كانت تتقاطع بشكل دوري عبر العقود"
وصل إلى الباب الأخير الذي وللغرابة كان حديثًا بشكل غير لائق مقابل الردهة المكسوة بألواح داكنة.. وتوقف!
لاحت نظراتها بينه وبين الباب بغرابة فرفعت حاجبها بدهشة مشيرة إليه:
-"وهذا ما الذي يوجد خلفه؟"
-"شيءٌ أُصلي كي تستطيعي أن تغفري لي عنه"
ملأها شعور رهيب بالتوتر والقلق، فتقدمت تدير المقبض النحاسي كاشفة عن غرفة مألوفة، لتنصدم قابضة بشدة على المقبض تستمد منه القوة.
أنها نفس الغرفة التي حجزتها في فندق مريانا عندما كانت تبحث عن جيسيكا.

يحدث ليلًا "فانتازيا مكتملة"Where stories live. Discover now