الحلم الرابع والأخير: فلسطين

131 24 5
                                    

حين لاحت أول خطوط الفجر، استيقظ الشيخ محمد يسقي شجرة البرتقال الوحيدة في الحديقة الضيقة، يقلم أغصانها بما امتلك في صدره من أبوة ويسمد تربتها ويعطيها من روحه ما استطاع.

ولمّا انتهى، خطى بجسده المثقل بكل تراكمات العمر الطويل ليجلس على كرسيه الهزاز في غرفة الجلوس ويشاهد على الجدار صورة قديمة جدا جمعته بوالديه وزوجته في شبابها الخصب وأولاده الصغار وتنهد وقد تفتحت على شفاهه ابتسامة تعبق بالحنين.

غسلت زينب الملابس بيديها المجعدتين، عصرتها وعلقتها على حبل الغسيل بساحة البيت الخلفية الصغيرة، ثم راحت تعجن الخبز في مطبخها، تخرج كيس الدقيق وقارورة الزيت والإناء من الخزانة القديمة أين اعتادت أن ترتبهم وحسب النظام ذاته منذ زمن طويل جدا.

حين نضج الخبز اختارت أجمل أوانيها المزخرفة لتسكب في الكؤوس اللبن وتنسق الرغيف الساخن ثم تذهب بهم إلى غرفة الجلوس، قرب الشيخ محمد. قدمت له قدح اللبن وشيئا من الخبز بعد أن أضافت له العسل، ثم سحبت أدوات التطريز من تحت الطاولة لتطرز أغلفة جديدة للوسائد.

قال الشيخ محمد وقد تنهد العمر في نفس ثم زفره:

- آه يا زينب الجميلة، هل تذكرين يوم جئت بك عروسا إلى هذا البيت؟ كم كان يوما جميلا حين التففنا نتناول عشاءنا الأول وأبي وأمي وجدي وجدتي وأخوتي حولنا والفرح يغمر هذه الغرفة كرائحة الخبز.

توردت زينب كأنما عادت الأصوات إلى أذنيها وكساها حياء الزمن الغابر ثم تبسمت وهمهمت:

- كم كانت أياما جميلة رغم صعوبتها!

وانطلق الشيخ محمد يغني أغنية غزلية لتضحك زينب وقد حرك قلبها الحنين لأيامها الماضية، أيام الشبيبة والفرح. واستمر الشيخ محمد يقول وقد طفى البشر على تجاعيد وجهه الكثيفة فجمّله:

- إن هذا المنزل أكبر من بيت يخبئ لحمنا، هنا ولد جدي وعاش، وولد أبي وولدت أبنائي وغدا نزوجهم فتعود له بهجته ويملأه الصغار مجددا. إن هذا البيت هو التاريخ والحضارة والإنسان بما ذاب فيه من عمر الأجيال.

وأشعل الشيخ بعدها جمر الأرجيلة وراح يدخن ويميح خياله بين الماضي والمستقبل، تلتهب الذكريات في قلبه كنيران الجمر وينفثها دخانا في الأرجاء، وانطلقت زينب ترصع على القماش اسما لابنها ومخطوبته وتفكر في الأطفال الصغار.

حين لاحت أول خطوط الفجر، استيقظ الشيخ محمد على صوت ضوضاء بالحديقة الضيقة فهرع حيث شجرة البرتقال ليجد رجلا طويل القامة، سميك البنية، يقتلع الشجرة وعلى الأرض رصف مشاتل لأزهار غريبة فانطلق الشيخ من الهلع يحاول أن يدفعه بعيدا، وقامت زينب لترى امرأة ممشوقة القامة تكسر الأواني وتدفع الخزانة لتحط مكانها رفا بسيطا وأواني من بلور جديدة، بعد أن جمعت ملابسها في أكياس وقطعت حبل الغسيل، فهرعت زينب تحمي مطبخها وخزانتها وثيابها.

وامتد الصراع بعد أن انتصر الرجل القوي على بنية الشيخ محمد واقتلع البرتقالة وانقض على الصور المعلقة بغرفة الجلوس يزيلها ليعلق مكانها لوحة لبيكاسو وهرعت المرأة تخرق الوسائد المطرزة وتحط مكانها أخرى معطرة. وظلت زينب تبكي وتعول، تمسك بأيادي المرأة كي تمنعها فتدفعها المرأة حتى تسقطها وتقوم. وبقي الشيخ محمد ينزل لوحة بيكاسو ليعيد صور العائلة وهو يصيح بالرجل الغريب أن يخرج من منزله، فغضب الغريب وكسر صور الشيخ ثم مزقها ودفع الشيخ بقوته حتى أسقطه وصدح لتكسر عظمه صوت طقطقة فركضت زينب نائحة نحو زوجها وفي الأثناء اتصل الغريب بالشرطة.

حضرت الشرطة سريعا، وراح الغريب يقول في غضب:

- هؤلا العرب الهمج يريدون السطو على بيتي وكسروا أمتعتي.

فصاح الشيح محمد وهو يئن من الوجع:

- كذب وبهتان، هذا بيتي، وتلك صور أجدادي وأولادي قد كسرها ثم مزقها وهناك برتقالتي قد قتلها وتلك ملابسي قد قطعها وتلك أواني قد هشمها وهذا عظمي قد حطمه وهذا بيتي هو من اقتحمه وسطا عليه، وهذه الأرض تشهد أنها أرضي وكل ما في هذا الحي يعرفني وتلك البرتقالة التي كبرت على يدي تشهد على أن هذا البيت بيتي! هو الهمجي يا سيدي.

عم الصمت، ومشى الشرطي ليكبل بسلاسله يد الشيخ المرتجفة ويرمي بزوجته العجوز إلى الشارع وقبل أن يحملهم بعيدا عن البيت اعتذر من الرجل الغريب على وقاحة الشيخ محمد وبارك له منزله الجديد.

#أنقذوا_حي_الشيخ_جراح

لمن لا يعرف عما يحدث حاليا بحي الشيخ جراح بفلسطين، رجاء ابحثوا في الأمر وانشروا القضية على مواقع التواصل الاجتماعي.

مقبرة الأحلامWhere stories live. Discover now