الفصل الاول

3.7K 80 24
                                    

ربما تتحول مصائرنا و تتبدل أقدارنا من مجرد خطأ ارتكبه شخص ما سواء عمدا أو بدون قصد، و لكنه القدر من فعلها، فنستسلم لمصائرنا سواء بعلم أو بجهل، فيعيش أحدنا و يترعرع بين أبوين ليسا بأبويه، و بمكان ليس بمكانه....و لكن هل ستستمر الحياة على هذا المنوال؟!...أم للقدر رأى آخر؟! 

فى ركن ما بوحدة الأطفال المبتسرين التابعة لإحدى المستشفيات الحكومية باحدى قرى مدينة العمرية التابعة لمحافظة الإسكندرية، تقبع ثلاث إناث لم يتعدى عمر الواحدة منهن السبعة أيام، نائمات بجوار بعضهن البعض على جهاز التدفئة المسمى بـ(Heater)، و إحدى الممرضات بالقسم تقوم بتجهيزهن لكى تسلمهن إلى أبويهن، و أثناء انشغالها بعملها أتتها زميلتها تقول لها بهلع:
ــ الحقى با بسمة... فى حالة vent داخلة و الحالة صعبة اوى و عايزينك تساعدى البنات.
ــ طاب و الحالات اللى قدامى دول مين هيسلمهم؟!
ــ خلى اى بنت من اللى بيتدربوا يلبسوهم و يسلموهم.
ــ طيب طيب... انا جاية اهو.
ذهبت بسمة لإحدى زميلاتها المستجدات و اخذتها من يدها و وقفت أمام الثلاثة أطفال و قالت:
ــ بصى يا ايمان البنتين اللى على اليمين دول توأم سلميهم للأستاذ سيد، و البنت التالتة دى سلميها للأستاذ وليد...اوعى تتلغبطى و لو نسيتى ابقى بصى على أساور التعريف اللى فى ايديهم.
ــ حاضر يا مس بسمة متقلقيش.
تركتها بسمة و انصرفت لمساعدة زميلاتها فى الحالة الحرجة، بينما الأخرى و قفت تحدق بالثلاثة إناث بابتسامة بلهاء، و هى تتحدث بصوت مسموع:
ــ الله...دا التلاتة شبه بعض أوى كأنهم اخوات...سبحان الله نفس اللون و الحجم و الطول، حتى شعرهم كلهم ناعم و جميل...قمرات يا ناس.
قالت كلمتها الأخيرة و هى تداعب و جناتهن و تتأملهن بإعجاب و انبهار، ثم شرعت فى تلبيسهن ملابسهن و لكنها أثناء تلبيسهن انخلعت الأساور التعريفية من أياديهن، و بجهل منها و عدم خبرة كونها حديثة التدريب وضعت الأساور جانبا حتى تنتهى من إلباسهن، حتى اذا ما انتهت قامت بإعادة تلبيسهن للأساور مرة أخرى و لكنها أخطأت و بدلت أسورتين منهما، حيث أنها ظنت أن الطفلتين من جهة اليسار هما التوأمتان، نظرا لتشابه خلقتهم الى حد كبير، فالأطفال فى ذلك العمر ملامحهم تتشابه و من الصعب تمييزها، و عندما انتهت قامت بتسليم طفلتين للمدعو سيد واحدة منهما فقط هى ابنته، و سلمت الطفلة الثالثة للمدعو وليد و هى ليست طفلته من الأساس، و أخذ كل منهما من اخذ و عادوا إلى منازلهم و الهوية الوحيدة التى تفرقهن عن بعضهن البعض قد تم تبديلها بالخطأ.

دلف وليد شقة حماته حاملا الطفلة على يديه و هو فى حالة من السعادة الغامرة، و ما إن انفتح باب الشقة حتى صرخ حمزة ابن أخيه ذو الثمانية أعوام بسعادة و اخذ يهتف بحماس:
ــ عمو جيه و جاب النونو معاه..شهد..شهد...تعالى بسرعة شوفى النونو.
أتت شهد ابنة وليد ذات السبعة أعوام و هى تهتف بسعادة غامرة و تجذب أبيها من بنطاله:
ــ هات أشيلها يا بابا...علشان خاطرى عايزة أشيلها.
ضحك الاب بصخب من حماسة الولدين و قال و هو يضحك:
ــ يا حبايبى دى لسة صغننة اوى و ممكن تقع من ايديكم...دى قد المعلقة..
ضحك الولدين من تشبيهه الساخر، ثم تركهما و اتجه إلى زوجته القابعة بالغرفة تعانى من آلام جرح الولادة.
ما ان دلف الغرفة حتى نهضت بتثاقل و اعياء تستقبل طفلتها التى غابت عنها منذ ولادتها و لم ترها بعد، بينما هتف بها وليد بجزع قائلا:
ــ خليكى قاعدة يا هالة و انا هجيبهالك لحد عندك...ارتاحي انتى عايزين الجرح يلم بقى.
اجابته باعياء:
ــ وحشتنى اوى يا وليد...ما صدقت انها خرجت من الحضانة.
كان قد أعطاها الطفلة فالتقطتها منه بابتسامة واسعة و سعادة غامرة نابعة من غريزة الأمومة المتأصلة بها، و اخذت تتأمل الطفلة بفرح و هى تقول:
ــ بسم الله ما شاء الله...قمر حبيبة قلبى...ربنا يخليكي ليا يا حبيبتى و يبارك فيكى يا رب.
سكتت مليا و هى ما زالت تدقق بملامحها ثم باغتت زوجها بسؤالها:
ــ بس هى شبه مين يا وليد؟!...تعالى بصلها تانى كدا..انا مبعرفش أشبه.
هز رأسه بسخرية مجيبا بنبرة متهكمة:
ــ شبه ايه بس يا هالة اللى بتتكلمى عنه دلوقتي...دى لسة يا دوب عمرها سبع أيام...و لسة هتتغير على ميت شكل لحد ما تثبت على شكلها الأصلى...
سكت لبرهة و هو يتذكر هيئة الأطفال أثناء نومتهم بحضانات القسم ثم قال:
ــ انتى عارفة...العيال اللى فى الحضانة اكترهم كانوا شبه بعض...اللى صغيرين أوى زيادة عن اللزوم و فى منهم اللى مقلبظ..سبحان الله.
ضحكت هالة و هى ترمق زوجها بتعجب ثم قالت:
ــ سبحان الله...فعلا ملامحهم مبتبانش غير بعد كام شهر.
عادت تنظر لطفلتها و هى تبتسم ثم قالت:
ــ هتكتبها امتى بقى و هتسميها ايه؟!
ــ ما احنا خلاص اتفقنا على الاسم يا هالة...احنا هنعيده تانى؟!
امتعضت ملامحها بضجر ثم قالت و هى تزم شفتيها بضيق:
ــ بردو هتقولى "شيرويت"؟!..بقى يا راجل حد يسمى بنته الاسم الغريب دا؟!
هز رأسه بيأس من رأسها اليابس، فلكم حاول اقناعها بتسمية ابنتهما بذلك الاسم ثم قال بنبرة جادة ممزوجة ببعص اللين:
ــ انتى عارفة يا هالة انى مش عايز أكسر بخاطر الولد اليتيم دا...الواد نفسه يسميها على اسم امه الله يرحمها و انا مش قادر ارفضله الطلب دا....و بعدين دا حتى اسم نادر و جديد و محدش بيسميه قد كدا.
لوت شفتيها لجانب فمها بضيق قائلة باستهجان:
ــ جديد ايه بس يا وليد...دى شيرويت الله يرحمها متسمية على اسم ستها التركية.
ــ اهو شوفتى؟!...دا حتى الأسامى التركية بقت موضة اليومين دول.
ما ان انتهى من سرد جملته الأخيرة حتى انفتح الباب و دلفت والدة هالة تلتها الصغيرة شهد تلاها الصغير حمزة.
اقبلت الجدة تحمل الرضيعة و هى تتلو عليها ما تيسر من القرآن، فباغتهم حمزة بقوله:
ــ عمو هتسميها" شيرويت" على اسم ماما...صح يا عمو؟!..انت وعدتنى.
نظر وليد لزوجته نظرة ذات مغذى ثم حمل الصغير و قبله من وجنته و قال له بنبرة حانية:
ــ طبعا يا حبيبى...انا مقدرش أرفض طلب للبشمهندس حمزة.
ابتسم الصغير بسعادة و انزله عمه مرة أخرى، فاسترسل حمزة ببراءة:
ــ خلاص يا عمو...انا هسيب شهد و هتجوز شيرويت...انا بحبها علشان اسمها على اسم ماما.
ضحك وليد من كل قلبه و اخذ يمسد على شعره بحنو و هو يقول:
ــ يا سيدى و انا موافق بس بشرط!!...تطلع باشمهندس قد الدنيا.
ــ ماشى يا عمو...و أنا موافق.
ناظره بابتسامة حانية ثم قلب ملامحه للجدية و جلس بجوار زوجته بالفراش و قال:
ــ مش هتشدى حيلك بقى يا هالة علشان نرجع بيتنا و نشوف مصالحنا اللى متعطلة دى؟!
ردت والدتها بعتاب:
ــ دى يا دوب لسة مسبعة يا ابو شهد..سيبها يومين تلاتة كمان.
امتعضت ملامحه بضيق قائلا:
ــ يا حاجة العيال وراهم مدارس و انا راجل نقاش على باب الله و شغلى متعطل و جايلى شغلانة و بأجل فيها علشان خاطرها و خايف الزبون يزهق و يطير منى.
أطرقت هالة رأسها بحزن و هى تقول:
ــ خلاص يا وليد اللى تشوفه...انت كلامك صح بردو ياخويا.
ابتسم وليد بارتياح و قال:
ــ الله ينور عليكى يا ام البنات...الصبح ان شاء الله نلبس و نركب القطر و نشد على شبرا.
هزت رأسها بموافقة قائلة:
ــ ماشى يابا اللى انت عايزه.
ــ يخليكي ليا يا غالية يا ست العاقلين.
فى صباح اليوم التالى غادر وليد شقة حماته باحدى قرى مدينة العمرية بالأسكندرية عائدا بزوجته و بنتيه و ابن شقيقه اليتيم إلى مسقط رأسه و محل إقامته بأحد الأحياء الشعبية بمركز شبرا الخيمة التابعة لمحافظة القليوبية.

و تشابكت أقدارنا(مكتملة) Место, где живут истории. Откройте их для себя