☘الفصل الثامن☘

5K 206 25
                                    


الفصل الثامن:
(سماء يوسف)
========

_ألن يعود أبي بعد الآن؟!
هتف بها براء بألم وهو يجلس على طرف فراش إيزيس التي كانت متدثرة بدموعها ...
لكنها مسحتها بسرعة وهي تقول بصوت مرتجف:
_سيعود حبيبي...سيعود!
فاقترب الصغير منها أكثر وهو يهتف ببراءة مشوبة بحزن مزق قلبها:
_هل تركنا لأنه خاف من الحريق؟! أم لأنكِ أخبرتِه عن حكاياتي مع الغرباء؟!
رمقته بنظرة مشفقة ثم ضمته لصدرها بقوة ...
الصغير يظن أن العالم كله يدور حوله...ولا يدري أنه -في الحقيقة -كان الأخير في قائمة حساباتهما هي وأبيه...!!!
بينما عاود هو رفع عينيه الدامعتين إليها ليهتف برجاء:
_قولي له أن يعود وسأكون مهذباً...لن أضايقكم بسخافاتي بعد الآن...لن أشاهد الأفلام التي ضايقته...لكن لا تدعيه يتركنا يا أمي...أرجوكِ!
هنا عادت تشهق ببكائها العنيف من جديد وهي ترى في الصغير صورتها هي منذ سنوات ...
نفس الألم والنظرة الضائعة في عينين تشعران وكأنهما فقدا أمانهما للأبد!!!
لهذا ضمته إليها أكثر وكأنها تمنحه مالم تجد من يمنحه لها وقتها!!!
لا تدري هل تواسيه بهذا الآن أم تواسي نفسها!!
لقد فعلت كل هذا ظناً منها أنها تحافظ له على أبيه ...لتجد نفسها قد ضيعته ...وبيديها!!!
فبئس المصير!!!
لا...!!
هذه ليست النهاية حتماً!!
هي لن تكون ضعيفة كوالدتها التي تركتهم فريسة للضياع...
بل ستقوي نفسها بنفسها...إن لم يكن لأجلها فلأجل هذا الملاك الصغير!!
لهذا أبعدته عنها برفق أخيراً ثم كفكفت دموعها لتهمس له بابتسامة باكية:
_لا تقلق حبيبي....سيكون كل شيء على ما يرام...اذهب لغرفتك وارتدِ ملابسك ...سآخذكِ للنادي!
أومأ براء برأسه في فتور قبل أن يغادر غرفتها نحو غرفته...
فراقبته ببصرها حتى انصرف قبل أن تتعلق عيناها ببقايا وشم اللوتس الباهت على معصمها ...والذي تخضب بدمه في آخر لقاء لهما...
وبين حمرة الدم وحمرة الحب تشعبت دروبها معه ...وتاهت هي معها ...
لتكتشف أنها طوال هذا الوقت لم تكن قابضةً بكفها إلا على ...الهواء!
لكنها لن تستسلم لألم خسارتها بعده...
هو أراد قطع عنق هذا الحب تحت مقصلة خيانته فليكن له ما أراد!!
ومع الخاطر الأخير تناولت هاتفها من جوارها لتداوي نفسها بما كانت هي الداء!!!
أجل...عيناها كانتا تتسللان بحذر مشفق إلى صوره مع تلك المرأة كأنما تدوسان على زجاج مكسور ...
لكنها تأمل لو تكون نهاية كل هذا الألم...أن تفقد قدرتها على الإحساس تماماً ...
لهذا عاودت النظر مرة بعد مرة...
لكنها كانت تفشل في كل مرة!!!
عيناها الخائنتان كانتا فقط تتعلقان بملامحه فلا تزيدها إلا شوقاً وحسرة...
يزعم أنها لم تحبه؟!
فماذا يسمي شعورها هذا إذن إن لم يكن فوق الحب وأكثر؟!
هي تعلم أنها مذنبة...بل إن ذنبها قد يصل حد الجرم في حالتهما هذه...
لكن منذ متى يعاقبون المذنب بإعدامه؟!!!
هو قتلها بخيانته شر قتلة ...ورحيله عنها بعدها كان كتمثيل بجثتها المسجاة تحت قدميه...
فأي قسوة امتلكها ليفعل؟!!
أي قسوة؟!
_ألازلتِ تمسكين هاتفك هذا؟!
هتف بها يزن بحنان مشوب بالاستنكار وهو يسحب منها هاتفها ببعض الخشونة ليجلس جوارها على الفراش...
فرفعت إليه عينيها لتهمس بألم:
_مذبوحة يا يزن...مذبوحة!
قالتها وهي تلقي رأسها على صدره فضمها إليه بكل قوته وقد استنفرت كلمتها حميّته ليهتف بغضب:
_لا تقولي هذا أبداً...لا يليق بكِ الضعف يا ابنة "الأمير"!
فرفعت إليه عينيها المثقلتين بدموعها مع ابتسامة مريرة صاحبت همسها:
_ابنة "الأمير"؟! ربما كانت هذه هي لعنتنا جميعاً...والتي لولاها لحظينا بالسعادة!
عقد حاجبيه بشدة وهو يدرك ما تعنيه لكنه عجز عن الرد...
على الأقل هو يشاركها قناعتها هذه للأسف!!!
لهذا حافظ على صمته لدقائق قبل أن تقطعه هي بسؤالها المتردد:
_هل سافر حقاً؟!
أومأ برأسه إيجاباً وهو متردد في إخبارها قبل أن يحسم الأمر بقوله:
_وترك رسالةً أنه لن يعود حتى يبني نفسه من جديد .
هنا عادت تجهش بالبكاء ثانية فترك الهاتف من يده ليعتصر ذراعيها هاتفاً من بين أسنانه :
_لا تبكي هكذا...قولي أنكِ تريدينه وسأحضره راكعاً تحت قدميكِ...لن أعدم طريقة لفعلها .
هزت رأسها نفياً وهي تغمض عينيها فلانت ملامحه وهو يزفر بقوة...
ثم عاود ضم رأسها لصدره وهو يهمس لها :
_إذن...كوني أقوى من قلبك...واطوي هذه الصفحة للأبد...هو الآن أبو ابنك فحسب...ومادام كل منكما اختار طريقه فليمضِ فيه.
هنا عاودت رفع عينيها إليه لتهمس بسخرية عاتبة:
_أنت الذي تقولها ؟! لو كنت مكاني فهل ستترك مزن ترحل بهذه البساطة؟!
انقبض قلبه بقوة لمجرد مرور الخاطر على ذهنه وكأنما اعتصرته قبضة خانقة قبل أن يبتلع غصة حلقه ليهمس لها بحزم:
_وضعنا مختلف!
أشاحت بوجهها في عدم اقتناع فتنهد بحرارة ليدير وجنتها نحوه من جديد مردفاً:
_أساس علاقتكما كان أضعف من أن يحتمل ماضيكِ المعقد...لو كان يحبكِ حقاً لما تخلّى عنكِ وعن ابنه هكذا ببساطة...إذا كان هو على الفراق قادراً فأنت عليه أقدر...
ثم صمت قليلاً ليهمس لها بحزمه الحاني:
_أنتِ تستحقين بداية جديدة...دون رواسب هذه المرة!
أطلقت آهة قوية وهي تسند جبينها على كتفه لتسكن عليه للحظات...
قبل أن تعاود رفع وجهها أخيراً بملامح أكثر صلابة ناسبت همسها:
_معك حق...براء الآن هو الأهم!
أومأ برأسه في استحسان وهو يمنحها ابتسامة مؤازرة مع قوله:
_لا تحملي همّ شيء...أنا دوماً معك!
ابتسمت وهي تقبل جبينه بامتنان ثم قامت لتغادر الفراش قائلة:
_سأذهب إليه في غرفته...وعدته أن نخرج سوياً .
هز رأسه وهو يربت على ساعدها قبل أن يراقبها ببصره وهي تغادر الغرفة...
ظنّه بشقيقته أنها ستتجاوز هذه الأزمة ...صحيحٌ أن الأمر يحتاج لوقت...لكن لا بأس...هو سيكون معها هي وابنها حتى يعبرا هذه المرحلة.
براء هو طوق نجاة إيزيس في هذا التوقيت ولو لم تتشبث به جيداً فستغرق...وسيغرق معها!!
لهذا تنهد أخيراً بحرارة ثم قام ليغادر بدوره عندما وقع بصره على هاتفها قبل أن يدفعه الفضول لتناوله ...وليته لم يفعل!!
فقد اتسعت عيناه بصدمة للحظات وهو يتعرف إلى تلك المرأة في الصورة...
قبل أن تشتعلا بغضب هادر وهو يهمس من بين أسنانه:
_يا ويلها لو كانت هي!
=======
_ستعملين هنا ...مع جاد!
قالها يزن وهو يشير للغرفة التي يقفان فيها في شركته...بنبرة آمرة حملت الكثير من التوجس من تمرد هذه "النارية"...
لكن كليو كظمت غيظها وهي تدرك سبب هذا لتقول ببرود:
_لا بأس...المهم أن أجد ما أتعلمه هنا حقاً بدلاً من الاستماع لأحاديثه السخيفة.
فرمقها بنظرة طويلة ثم قال بنبرته القوية التي حملت الآن الكثير من الأسف:
_من المؤسف ألا تقدر امرأة مثلك حب رجل كجاد!
فابتسمت ساخرة وهي تعقد ساعديها أمام صدرها مع قولها المتغطرس:
_امرأة جاحدة بالنعم...لا تشغل نفسك بها!
زفر بمزيج من غضب وأسف ثم عاد يقول بنفاد صبر:
_اجلسي هنا وانتظري وصوله ...هو من سيتولى تدريبك!
قالها ثم أعطاها ظهره لينصرف فرمقته بنظرة طويلة ساخطة لم تلبث أن تحولت لنظرة شتات هائلة...
جالت بعدها في المكان ببصرها قبل أن تجلس على المكتب الخالي...
غرفة بمكتبين فقط ...أحدهما بدا معدّاً لها خصيصاً والآخر بالتأكيد لصاحب الغرفة...
الغرفة التي كانت شديدة الأناقة...توقن أنها الذوق الشخصي لجاد كما تعرفه...
بسيط متفرد لكنه حاد التفاصيل ...
خاصةً تلك اللوحة الكبيرة خلف مكتبه لوجه رجل يلتهم الدخان نصفه بينما بدت ملامح النصف الآخر شديدة الوسامة...بالغة القسوة...عظيمة الدهاء!
تنهدت بحرارة وهي تصرف بصرها عن الصورة بنفور...
هذا هو جاد دوماً ...
يحرص أن تكون له دوماً حياته الخاصة بعيداً عن وجهه البادي للعائلة...
الجميع يتندرون كثيراً عن سر اختفاءاته العديدة في الكثير من الأيام التي يظهر بعدها فجأة دون أن يفصح عن مكانه ...
لكنها تشعر أنه يخفي بهذا حياةً أخرى لا يحب أن يطلع عليها أحد...
لعلها نزوات نسائية ...
ليالي حمراء مثلاً؟!
وعلى ذكر اللون "الأحمر" رفعت إصبعها المزدان بخاتم الياقوت أمام عينيها وابتسامة عذبة ترتسم على شفتيها الحادتين مع ذكرى كنان التي مرت على خاطرها كأجمل طيف...
لازالت تذكر تلك الليلة التي هاتفته فيها بعد الحريق الغريب في بيت الأمير...
كم كان متفهماً ليلتها كعادته وهو يستمع إليها بصبر حتى ألقت مخاوفها كلها على أذنيه...
حكت له الكثير عن طفولتها ومراهقتها ومخاوف شبابها ...
حكت له عن تفاصيل تلك الليلة التي وجدت فيها منديل يوسف ودميته على حجرها ...تلك الدمية التي وجدتها هناك ملقيّة بإهمال قرب مكان الحريق...
حكت له عن العقرب وقطعة القماش المحترقة التي أفسدت زفاف يزن بتهديدها الخفي...
حكت له -بتحفظ- عن مضايقات جاد لها...غطرسته...غروره...رغبته التليدة في امتلاكها!!!
ظلت تحكي وتحكي حتى أشرق الصباح لتنتبه بدهشة لكل هذه الساعات التي قضتها في الكلام معه...
غريب!!
وكأنها صامت عن البوح طوال هذه السنوات فلم يؤذن لها بفطور إلا على مائدته هو!!
هو الذي كان يسمعها بحِلمٍ ويتفاعل مع رواياتها بذاك القدر الذي تحتاجه...
تارةً تسمع صيحة اندهاشه...وتارةً همهمة حيرته...وأخرى همسات مواساته...
لكنه عجز عن منحها أي تفسير!!!
لقد اكتفى وقتها بنصيحته لها أن تخرج بذهنها من التفكير في كل هذه الأمور الغريبة مستحسناً فكرة عملها هذا ...
ومن ليلتها وهي لا تنام إلا على صوته ...
أجل...مكالمتهما الليلية صارت طقساً يومياً لها لم تعد قادرة على التخلي عنه...ولماذا تفعل؟!
هو لا يحاول مطلقاً تجاوز منطقتها الآمنة بل على العكس يكتفي منها بقدر ما تعطيه ولا يطلب منها شيئاً...
وهو ما تحتاجه الآن بالضبط!!
هنا شعرت بالصداع يداهم رأسها فمسدت جبينها بإرهاق وهي تسترجع حلم ليلتها الماضية الذي يؤرقها منذ الصباح..

تعاويذ عمران  لِـ" نرمين نحمد الله"Tahanan ng mga kuwento. Tumuklas ngayon