سُكّر غامِق

By xxfayaxx

389K 16.6K 8.8K

ذات العينان الغائمتان تحمِلُ قلباً نقيّاً بروحٍ مُشوّهة وقد ظنّت انّ الحُبّ ابعدُ ما يكون عن قلبها المُرتعِد... More

تشويقة
لعنة رضوان
ابناء ايمن
تتزوجيني ؟
نيران الانتقام
وعود
وجع القلوب
مشاعر غريبة
قبلة و هروب
غالية
اشواك الورد
سيد خجول
زُمُرّد
ما قبل العاصفة
حقائق
ارواح تائهة
تعاويذ القدر
طوفان
وجوه الحب
سقوط
تعب
تشتت
طفولة
حب وحرب
رجال العشق
عذاب
وصية
عِطر
بدايات ونهايات
أقدار العمر
النهاية (عبق الماضي)

توق

9.8K 423 248
By xxfayaxx

التفتت للجِهة المُقابِلة للشرِكة، ابتسمت بحماس وما ان ازال كنان يداهُ أُضيئ المبنى المُقابِل بألونٍ تخطِفُ الأنفاس ليتجلّى أسم "سُكّر غامق" على واجِهةٍ كبيرة تنبِضُ بالروعة، وقبل ان تُعبّر عمّا يجوب بخاطِرها أضاف كِنان برِقّة:
- هنا ستعودين لفعل ما تبرعين فيه.
إلتقط كفّها ليستنشِقهُ بتلذُذٍٍ ويقول:
- سيعودُ عبقُ القِرفة، والفانيلا، والكاكاو لهاتين اليدين، وسأحظى أنا وابنتي بحلوى السُكّر الغامق.

اتسعت عيناها التي تشبهُ في لونها نعاس القمر خلف الغيوم السوداء وتحوّلت ابتسامتها لعبوسٍ حزين بالتزامُن مع ترقرُق عيناها بالدموع وهي تقولُ بتردُد:
- انا لا أستطيع، لم أعُد قادِرة على صُنع شيء؛ فكُلّ مرّة لا أذكُرُ سوى وجه فاتن، وعندما اتذكّرُ حديثها أشعُرُ بأنني حقيرة للغاية.

- ريفال، انظُري إليّ جيّدًا، انا لن أسمح لكِ بإيذاء نفسكِ بهذه الطريقة، وان كان هُنالك من هو حقيرٌ في هذه الحكاية فهي فاتن التي تخلّت عنكِ لأجل المال الذي أخذتهُ من جُلنار وباعت سنوات صداقتكما بأبخس الأثمان وعندما عاتبتِها جعلتكِ المُخطِئة لتُبرِر ما اقترفتهُ من ذنب مُدرِكةً انكِ ستكرهين نفسكِ بعد أقوالها.

الى الآن لا أُصدّقُ انني استمعتُ لرجائكِ ولم أُبلِغ الشُرطة عنها، ولكن يُمكِنني الآن ان أفعلها وستُحاسب على ما حدث؛ فأنا لن أنظُر اليكِ وانتِ تكتئبين بسببها.
- كنان!
نبرتها المُعترضة جعلتهُ يهمِسُ بانزعاج:
- سأحبِسها إن لم تعودي الى العمل، انا لا أمزحُ يا ريفال.

زمّت شفتيها بحنقٍ أزال كُلّ سعادتها ليزفِر بخيبة فقد كان تخيُّلهُ لردةِ فعلِها أكثر رقّةً من ذلك؛ فقد أمضى الشهران الفائتان في تجهيزه ولكنها بكُلّ بساطة لا تُراعي لكُلّ ما يفعل لأجلِها، نظرت لملامحه الحزينة وأدركت انّها تمادت في الرفض وأزعجتهُ في أوّل ذكرى لزواجهما.
- هل سنبقى بالشارِع طويلًا ام سندلف للداخل فالجوّ باردٌ كثيرًا على ما أرتدي.

نظر إلى ثوبها ذو الأكمام المائلة مُظهِرةً كتِفيها الرقيقين ووضع يديه عليهما قائلًا بزجر:
- لماذا لم ترتدي معطفًا؛ فكتِفيكِ مُتجمّدين، وساقيكِ كذلك.
أجابتهُ بشغبٍ جريئٍ لا يليقُ بسواها:
- لم أُظنّ انني قد أحتاجهُ بعد رؤيتك.

لم يستطِع كبح ابتسامته العميقةِ وهو يضُمّها بين ذراعيه الحانيتين مُسلّمًا بأنّ ريفال رضوان ستظلُّ الأُنثى الأولى والأخيرة بحياته مهما حدث لن يستطيع أحدٌ ان يُزلزِلُ مكانتها بقلبه، قادها لداخل المقهى الفارِغ سوى من كُرسيّان أنيقان بمُنتصفِهما طاوِلة تحوي شموعًا بعطر الفانيلا وورود الياسمين المُفضّلة لريفال التي ابتسمت باعجاب لمرأى المكان من الداخل فبالرغم من خلوّه من الطاولات والمقاعد إلاّ انّها رسمتهُم بخيالها ليغدوا المكانُ غايةً في الجمال.

كانت الألوان الزاهية والجريئة تقطُرُ من كُلّ مكان فالحوائط ملوّنة بعدّة تصاميم رائعة وجانب طاولة العرض المُغلقة بزُجاجٍ ملون جعلها تتذكّرُ مكانها القديم الذي يعبقُ بالجمال بالرغم من بساطته ولكنّها رفضت أن تسمح لحُزنها بالسيطرة عليها بل أرادت ان تكون هذه الليلة أجمل ليالي حياتهُما.

جلست على المقعد الذي ازاحهُ لها كِنان بلباقة وقبل ان يجلِس بمكانه امامها بمسافةٍ ليست بالقصيرة قالت بتأفُف:
- أجلب كُرسيّكِ واجلس بجانبي؛ فلن أستطيعُ التحدُّث إليكَ من هذا البُعد.
أطاعها لتبتسِم بعفويّةٍ غير مُهتمّة للقوانين والمسافات التي يصنعها الأغنياءُ فيما بينهُم فحُبّها لزوجها سيكونُ طِبقًا لقوانينها وحدها.

بعد دقائق قصيرة من أحاديثهما حول عطر التي وضعتها برفقة ليليان دلف النادِلُ حامِلًا أطباق العشاء ليضعها بترتيب ظنًّا منهُ انّ كنان سيعود لمكانه وقبل ان يعترِض كنان تبرّعت ريفال بالقول:
- ألا ترى اين يجلس؟ أتُراهُ سيأكُلُ عن بُعد ام ماذا؟!
نظر إليها كنان بحدّة لتهمِس بخفوت مُحاوِلةً تهذيب نبرتها:
- هلّا وضعتهُ هُنا من فضلِك؟.

اشارت إليه امام كنان ليهمِس بتهذيب:
- أعتذِر سيّدتي.
كانت ستتحدّثُ نافيةً لقب "سيّدتي" الذي لا تُحبّهُ ولكن كنان قال بهدوء:
- لا بأس.
غادر النادِلُ لتهمِس بحرج:
- آسِفة، أُحاوِلُ التصرُّف بلباقة ولكنني لا أستطيع.

- لا بأس حبيبتي، بمرور الوقت ستتحسّنين.
قال بعد ان قبّل خدّها ليأكُلا طعامهما بصمت قبل ان يردِف كنان بابتِسامة:
- إذن؟ ما رأيكِ بالمكان؟
- جميل، بل للصراحة أروع مطعم أراهُ بحياتي.

لم تُرِد ان يعودا للتناقُش حول أمر عودتها الى العمل لذا همست بجانب أُذُنه بدلال:
- أرغبُ بأن نبقى وحدنا، هل يُمكنُ ذلك؟
- بالطبع.
قالها بحنانٍ وأشار للنادِل بأن ينصرِف هو والطبّاخ بعد ان وضع أمامه قالب الحلوى الصغير المصنوع من الشوكولا والكرز، أشعل كنان الشمعة اليتيمةُ بمُنتصف القالب وأشار لريفال بالجلوس على حِجره لتقول بتذمُّر:
- لا، فالوزن الذي اكتسبتهُ بسبب ابنتكَ يجعلني أثقل من المُعتاد.

نظر الى جسدها بجُرأةٍ وهو يحفِرُ مُنحنياتها المُكتنِزة بأمومةٍ طاغية قبل ان يجذبها لاستقِرّ على قدميه قائلًا بحُب:
- النساءُ القصيرات عندما يُصبِحن أُمّهات لا يُقاومن؛ فالأمومة والطفولة عندما يجتمعان سويًّا بالأُنثى يُذهِبن بعقول الرِجال، ولذلك أغارُ من كُلّ من يلمحكِ، أرغبُ أحيانًا بأن أضعكِ هُنا على صدري وأُغلِقُ عليكِ معطفي الى الأبد لكي لا يراكِ أحدٌ سواي.

قهقهت بحياءٍ يُداهمها دومًا من كلماته الرقيقة وقالت ببراءة:
- سأُحاولُ ان لا أحقِدُ على ذوات السيقان الطويلة وأُصدّقُ حديثك، هيا لنُطفئ الشمعة.
قرّبها إليه مواجهًا وجهها وقال:
- قبل ان نُطفئ هذه الشمعة هُنالكَ حديث يجِبُ ان أقولهُ، بما انّنا تجاوزنا كُلّ ما سبق يجِبُ ان لا نصنع المزيد من المُشكِلات؛ فيُمكننا مناقشة كُلّ شيء بهدوء دون ان نلجأ للعصبيّة والصراخ، يجِبُ ان ننام كُلّ ليلةٍ براحة دون ان يكون أحد منّا مجروحٌ من الآخر، وأخيرًا يا حبيبتي سنعتني بابنتنا سويًّا ونجلِبُ لها الكثير من الإخوة.

رفعت كفّها تُداعبُ خُصلاته بحنان قبل ان تُريح فمها على عُنقه قائلةً بضحكة:
- تُريدُ المزيد من الأطفال؟
- خمسة عشر طفلا.
قال بابتِسامة متلهفة لتضحك ملء فمها كما لم تضحك من قبل ليضيع بين أسنانها الصغيرةُ وشفتاها المُمتلئتين.

أغرقت خدّه بقُبُلاتٍ مُشاكِسة وكأنّها تُداعِبُ طفلًا صغيرًا وهي تقول:
- كنان، الشمعة ستذوب، هلًّا أطفائناها ويُمكننا مُتابعة حديثنا بعدها.
- ليس قبل توعديني بأن تُنجِبي لي خمسةَ عشر طفلا.
قال بعنادٍ طفوليّ لتُجيبهُ بحيرة:
- كنان! انتَ تمزح أليس كذلك؟!

- بالطبع أمزح، أرغبُ بثمانية أطفال.
تمتم ضاحِكًا ليُطفِئا شمعة سنة زواجهما الأولى وحُبّهما القديم الذي لن تُمحيه الأيام.
تناولت قِطعةً كبيرةً من الكعكة فسالت الشوكولا على فمها اثناء تصوير كنان لها ليقول ضاحِكًا:
- انظروا يا ابنائي الثمانية لاُمّكم في عيد زواجنا الأوّل "وحش الشوكولا" يليقُ لها هذا اللقب، عندما ترون هذا الفيديو سأكون في عِداد الموتى لأنها الآن ترمقني بنظرةٍ حادّة وستقتُلني حالما تُنهي ما بفمها.

ابتسمت وهي تمسحُ ما علِق على فمِها من حلوى مُزيلً حُمرة شفتيها لتعود متوّردةً ببراءة قبل ان تقول بعبوس وهي تُطالِعُ الكاميرا العتيقة:
- هل هذا الوجه البريئ يشبهُ الوحوش، سامحكَ اللهُ يا كنان.

اخذت منهُ آلة التصوير على حين غُرّةٍ قبل ان تُلوّث وجههُ بالشوكولا وتبدأ بتصويره والتحدُّث الى ابنائها المُستقبليّون الذين سيُشاهدون هذا التسجيل برفقة العديد من التسجيلات التي صوّرها كنان لريفال منذُ بداية زواجهما.

بعد ان غسلا وجهيهِما من آثار الحلوى تفاجأت ريفال بالعُلبة التي قدّمها إليها كنان وما ان فتحتها حتّى همست بانبهار:
- يا إلهي! انّهُ جميلٌ للغاية.
أسعدهُ انّ هديّتهُ أعجبتها فقال بمرح:
- علِمتُ انّهُ سيُعجِبكِ؛ لأنّكِ تعشقين غزل البنات.

سمحت لهُ بوضع السلسال الذهبيّ الناعِم الذي يحوي قطعةً زرقاء على شكل غزل البنات على عُنقها وتمتمت بذهول:
- وأقراط أيضًا؟!
- وخاتمٌ أيضًا.
قال وهو ينظُرُ الى عُنقِها بافتتان، تلمّست بقّية قِطع الطقم الرقيق وقالت بتلعثُمٍ حزين:
- انا لم أجلِب لكَ هديّة، يا لي من حمقاء!.

- النِساءُ لا يأتين بالهدايا بل يتلقّينها.
عقِب قوله أصرّت ان تمنحهُ هديّةً بسيطة ومُختلفة فخلعت حذائها الرياضيّ وارتدت خلاخليها التي تحتفِظُ بها في حقيبتها الصغيرة، ونهضت بعد ان شغّلت هاتفها على نغمٍ رقيقٍ ينفِذُ الى الروحِ دون حائل.
انحنت تهمِسُ امام فمه بهُيام:
- سأرقُصُ لكَ على انغام خفقات قلبي حُبًّا بك.

ابتسم وثمّة كهرباءٌ خفيّة تسري بأطرافه وهو يشهدُ انبلاج النور عن الأرض وارتكازه على جسدها المُتمايل بنغمٍ لم يسمع مثلهُ في حياته، لقد كانت أُغنيةً محلّيةً قديمة تناقلتها الأجيالُ لتُغنّيها الأفواهُ المُختلِفة والفنّانين القُدامى والجُدُد ولكن اليوم ريفال هي من دمجت صوتها العذبُ مع تلك الموسيقى الراقِصة المُثيرة للمشاعر.

عيناهُ لهيبٌ من سحرٍ
وانا المصليٌّ بذي النار
شفتاهُ لهيبهُما يسري
بحياتي مثل الإعصار
والوجهُ مليحٌ كالسُكّر
والقلبٌ بقسوةِ بتّار
والخصرُ نحيلٌ كالمِرواد
والصدرُ كشمسٍ بسِتار
وانا المصلوب على الذكرى
لجميل الوجه الغدّار
أتُراهُ يذكُرُ كفّ يدي
وحناني وبقايا الدار؟
ام انّ العُذّال اجتمعوا
رجموا جسدي بالأحجار
لا يا زهر البلدِ الأصفر
لا تُنسيه وعد الجار
واخبرهُ انّ حبيب العُمر
سيبقى رغم الأضرار
يهواكَ كأنّ الموت غدًا
ويهيمُ بحُبّكَ ليل نهار
يا بحر البُّنُ بعينيه
لا تُغرِقني يا جبّار
فأنا مسكينٌ لا أقوى
غرقًا بمتاهات النار
أرجوك تمهّل وتقبّل
حُبًّا لا يحمِلُ إنكار
حُبًّا يسموا بحنايا الروح
ويأكُلُ حزن الأعمار.



دارت وإحدى قدماها تتأرجحُ في الهواءِ ليرِنّ صوت خلخالها بصخب بينما يداها تسبحان في ملكوتٍ من الخيال برفرفاتٍ حزينةٍ تارةً وأُخرى حماسيّة، ينسابُ صوتها مُحاكيًا جمال الكلمات وينتفِضُ الثوب من حولها راغبٌ بالتحُرر من قيود رِدفيها المُغويين ومع كُلّ رنّةٍ تُسقِطُ جُزءً من وقاره مُجرِدةً إياهُ من قيود التهذيب ليعود رجُلًا بسيطًا يملئهُ الحُبُّ من رقصة أُنثاه.

تُغريه بتمايُل روحها قبل جسدها ليذوب بنظراتها الشقيّةُ المُسلّطة عليه بعشقٍ عظيم، وما ان تأمُرها عيناهُ بالاقتراب تبتعِد بتمنُّع امراةٍ خبيرةٍ بما تفعل، ينهضُ فتبتسِم، يقترِبُ فتبتعِد، يبتعِدُ فتعبِس، يركُضُ فتقِفُ ليتلقّفها بين ذراعيه مُكمِلًا الرقص بها على أوردة قلبه.

تلهثُ بتعبٍ في مواجه قُبُلاته الضارِية ولا زال قلبها يرقُصُ على نغمٍ عالٍ جدّا، ترتفِعُ للغيومِ مُتشبّثةً بكتِفيه كطفلةٍ تخشى مُلاعبة والدها، تهمِسُ باسمه ضاحِكةً آمِرةً بمُلامسة الأرض ولكنّهُ يأبى، تُشاكِسهُ مُحذّرةً إياهُ من ألم ظهره جرّاء حمله إياها ليهمِس بحنان:
- عندما ألمِسكِ أشعُرُ بأنني أُلاطِفُ طيفًا لا يُمكِنُ لأحدٍ رؤيتهُ سواي، وعندما أحمِلكِ هكذا يتزِنُ قلبي وكأنني أُعيدُ الروح لجسدي، بحياتكِ لن تكوني ثقيلةً على كاهلي بل كُنتِ ولا زِلت قِطعة نفسي التائهة، حالما اقترِبُ منكِ أكتمِل.

أكمل وهو يضُمّها الى صدره بلُطف:
- كحلوى القُطن انتِ، خفيفةً وناعِمة، تتفجّرين بداخلي لبركينٍ من السُكّر الى ان تذوبين بين مساماتي وتلوّنينني ببصمة حُبّك.
- أتُحبُّني يا كِنان؟!
تمتمت وقلبها يتضخّمُ عِشقًا الى ان تفجّر كبحرٍ لا ينضب مع صوت آهة الشجنِ بصوته الرخيم، لامست قدماها الحافِيتان الأرض عندما همس بنبرةٍ عميقة:
- كثيرًا، جِدًّا جِدّا.

.
.

لم تستطِع كبح نفسها عن التشبُّث بعُنُقه لتضُمّهُ الى قلبها بتوق أُمّ تجِدُ طفلها بعد ضياع، ابعدها عنهُ بجفاء وقال بصوتٍ هادئ:
- نحنُ يجِبُ ان ننفصِلُ يا زُمُرُّد.
ابتعدت عنهُ بصدمةٍ وكأنّ حيّةً لدغتها، وضعت كفّها المُرتعِش على فمها وتمتمت باختِناق:
- ماذا؟!

زفر أنفاسًا حارّة من عُمق جوفه المُحترِق واقتلع عيناهُ المُشتاقة عنوةً عنها ليقول بهدوء:
- لم تعودي بحاجةٍ إليّ؛ فلديكِ عائلة ستُحبّكِ وتحميكِ مهما طال الزمن، وابنتكِ أيضًا بقُربك، ليس هُنالكَ داعٍ للإستِمرار بهذا الأمر.
صوت شهقتها العاليةُ احدث شرخًا حادًّا بمُنتصف قلبه ولكنّهُ حارب ذلك الألم ببسالة مُدرِكًا انّها ستكون أفضل بدونه؛ فبحياته لن يستطيع مُسامحة نفسه إذا آذاها رُغمًا عنه، لم يكُن القرارُ سهلًا عليه ولكن لأجل راحتها سيفعل المُستحيل وإن كانت النتيجة موته من الفُراق.

- أنتَ تمزح أليس كذلك؟ لا يُمكِنكَ ان تترُكني، لقد وعدتني انّكَ ستبقى معي دائمًا، انا لا أقوى على الحياة بدونك ولا أنتَ تستطيع البقاء وحدك، لا تستطيع!
هتفت بعذاب ويداها تحتويان وجههُ المُتعب بحنان مُجبِرةً عيناهُ على رؤية ما لا يتحمّل؛ فهي تعلمُ انّ دموعها هي أكبرُ نقاط ضعفه.
- انا لا أخلِفُ وعودي، سأكونُ دائمًا بقُربكِ ما ان تحتاجيني، سأبقى حارِسكِ الى ان أموت، لن يتغير شيء سوى انني لن أُزعِجكِ بعد اليوم.

ابعدها عنهُ وثمّة غصّةٌ حادّة تكتُمُ انفاسه، ولكنّها لم تستجِب لحديثه بل وضعت يده على خدّها هامِسةً بهذيان:
- رُدّ إليّ الصفعة آلاف المرّات ولكن لا تذهب، أعلمُ انني أذيتُكَ كثيرًا بسببي وأقحمتُكَ في حياةٍ لا ترغبُ بها ولكنك أحببتني...
قاطع حديثها وانامِلهُ تمسحُ على دموعها قائلًا باستِنكار:
- أتظُنين انّ هذه اليد التي طالما أمسكت بكِ قادِرةٌ على إيذائكِ؟! بحياتكِ لن تعلمي ما تعنينهُ لي، ولم أعُد أرغبُ بأن تعلمي لذا دعينا نُنهي هذا الأمر بأسرع وقت.

كاد ان يتوجّه للخارِج ولكنّها سقطت على الأرض هامِسةً بعذاب:
- لقد أحببتُك أكثر من أيّ شيءٍ في هذه الحياة، أعلمُ انّكَ تكرهني في هذه اللحظة ولكنني أُحِبُّك، أُقسِمُ انني أفعل، انا فقط خائفة، بكُلّ لحظةٍ أحاولُ ان أقترِب منك أشعُرُ بأنّ لمساته عالِقةٌ بجسدي.

وضعت انامِلها المُرتعِشةُ على فمِها وتمتمت وروحها تنتفِضُ بوجعٍ من هول الذكريات السوداء التي تأبى ان تُبارِح عقلها:
- يكتِمُ صوتي بيده الكبيرة، يخنِقُني، ونظرته تبثُّ الهلع بقلبي.
لم يظُنّ انّ حديثها عن الأمر سيبعثُ الألم الحارِق لقلبِه بهذه الصورة فقد شعر بأنّهُ يموتُ ببُطء، جلس بجانبها هامِسًا بتعب:
- يكفي أرجوكِ.

ولكنّها تابعت بشرود وهو تُمرّرُ اظافِرها الحادّةُ على عُنقِها بتقزُز:
- لقد حاولتُ ان أصرُخ ولكن صوتي قد تجمّد، بكيتُ طويلًا ولكن لم يسمع صوتي احدٌ سواي والى الآن هذا الصوت يصُمُّ أُذُناي.
وضع يداهُ على أُذُنيه وحسرةً أليمةً تعصِفُ بكيانه غير راغِبٍ بسماع المزيد إلاّ انّهُ نظر إليه بأسف لينتبِه لتوّه لتلك الآثار الحمراء على عُنقِها.

تسلل الهلعُ الى ملامِحه مُبعِدًا يداها التي تركت خطوطًا من الدم على عُنقِها لتقول ببكاء:
- منذُ ان ذهبت وهو يأتي إلى منامي، يؤذيني مِرارًا وتِكرارا، ابكِ وأصرُخُ باسمكَ لتُنقِذني ولكنّكَ لستَ هُنا، وابقى أُحارِبُ ذلك الألم وحدي الى ان يأتي الصباح.
اتسعت عيناهُ مُمعِنًا النظر في وجهها المُشوّه بخدوشٍ حمراء، رفع اكمام قميصها المنزليّ الطويل ليهمس وقلبُهُ يُعتصرُ من الصدمة:
- يا إلهي!

تفحّص ساقيها ليجِد المزيد من الخدوش العشوائية المُتقيّحة ذات اللون الأحمر الداكِن، تصاعد الحنقُ المُختلِطُ بالحسرة والهلع الى ملامحه عندما قال بتلعثُم:
- أين هي ورد؟ كيف تسمح لكِ بإيذاء نفسكِ بهذه الطريقة؟!
- لقد ذهبت بعد مُغادرتك وتركتني وحدي، لم أستطِع إخبارها انني اخاف البقاء وحدي، حاولتُ مُهاتفتكَ ولكن...
عناقه المُفاجِئ لها أخرس كلِماتها وفجّر صوت نحيبها المُرتعِد.

تكوّرت بداخل صدره علّها تختلِطُ به الى الأبد ولا يعودُ ذلك الخوف الى قلبِها، آلمتها نبضات قلبه العالية ولكنها لم تستطِع ان تتحدّث، اكتفت بمُعاتبته بنحيبٍ حزين، اما صمته فقد حمل براكينًا من الندم والحسرة؛ فبحياته لم يستطِع تخيُّل انّها قد تصلُ لهذه المرحلة من العذاب، كيف لم يفطِنُ لخوفها من غيابه؟ وكيف لم يُفسّر انّ لحاقها به في اليوم التالي من عودته للبلاد ليس سوى خوفًا من البقاء وحدها؟! ثلاثة ليالٍ وهو يظُنُّ انّها تُبالِغُ بردود فعلها تجاههُ ولم يُراعي لأنّ بعض الآلام لا تمحوها السنين، كيف سيُسامِحُ نفسهُ على رؤيتها بهذا المنظر؟! وكيف سيمحوا مرارة هذه اللحظة من ذاكرته؟

تحشرجت أنفاسه المُتلاحِقة وانفجرت غصّة حلقه لدموعٍ مُتألِمة، بكى خوفه عليها وحُزنه على ما آل إليه حالها، وتخيّل للحظة كيف سيكونُ الأمرُ لو كانت حياتهُما عاديّة كأيّ زوجين لهُما من الحياة ستّة عشر عام، سيمتلئُ المنزِلُ بالأطفال ويتشبّعُ القلبُ بالعِشق بدلًا عن الدموع.

تأمّل عيناها المُتعبة من فرط السهر والبكاء ونظرت هي لوجهه النابِض بالندم، مسحت على خدّيه الغارِقان بالدمع قائلةً بنبرةٍ خافِتة مُنهكةٍ حزينة:
- آسِفة، آسِفةٌ يا حبيبي.
عضّ على شفتيه كابِحًا حديث قلبه المهموم واومأ بالإيجاب وعيناهُ تُخاطِبها بأسى:
- أعلمُ انّكِ آسِفة، وهذا ما يؤلِمُني!

لقد عادا لنُقطةِ البدايةِ التي ظنّ انّها تجاوزتها، أعوامٌ طويلةٌ قضياها لتعود لطبيعتها ولا تؤذي نفسها، لقد كان بقائها في القصر آمِنًا ولكن عندما ذهبت لبلدٍ آخر لم تكُن قادِرة على التعامُل مع احد، تبكِ وترتعِبُ من أيّ كان، تحبِسُ نفسها في المنزِل واظافِرها تخدِشُ جسدها بقسوة، يُحاوِلُ إثناءها ولكن حالتها تزداد سوءً ما ان يُحاوِلُ الاقتراب منها، ثلاثة أعوام من المُعاناةِ الجسديّةِ والنفسيّة حتّى استطاعت ان تُواجِه الحياة ولكن ها هي تعود لحالتها في ثلاثةِ أيامٍ ظنّ فيها انّها ستكونُ بخير برفقة ابنتها.

نهض بصمت ورفعها بين ذراعيه وقد بدت خاويةٍ كخِرقةٍ بالية، بصمتٍ شديد فعل ما كان يفعلهُ قديمًا، أزالت ثوبها لتبقى بثيابها الداخليّةٍ وسمحت لهُ ان يغسِل جسدها بماءٍ دافئ مُزيلًا آثار الدماء المُتيبّسة، اغمضت عيناها ولا زال الدمعُ حليفهُما عندما مرر يداهُ على رأسِها بحنان، وضع ثيابها بجانب مِقبض الباب وخرج لتتبعهُ بعد دقائق جالِسةً على الفِراش واعطتهُ ظهرها ليُجفف شعرها ويُمشِطهُ بعطفٍ وكأنّهُ يُعامِلُ طفلةً صغيرة.

استلقت على الفِراش ليُمرّر القُطن المُبلل بالمُعقّم على خدوش جسدها فتئنُّ بألم، يُربّتُ على وجنتيها قائلًا برِقّة:
- لا بأس، ستزولُ بعد أيام.
انهى ما كان يفعلهُ ووضع الغِطاء حولها وقال:
- خُذي قِسطًا من الراحة ريثما أصنعُ لكِ الطعام فبالتأكيد لم تأكُلي جيّدًا بغيابي.
- لم اتناول شيء منذُ ذلك اليوم.
همست بضعف ليقول وعيناهُ قد اسودّت من الحنق:
- تمزحين أليس كذلك؟!

سكوتها جعلهُ ينهض قائلًا بحزم:
- أنتِ تعلمين انني لن أضرِبكِ ولكنّني لن اتحدّث اليكِ مرّةً أُخرى إن ارتكبتِ هذه الحماقة؛ أجُننتي يا زُمرُّد، ثلاثة أيامٍ بلا طعام؟! أترغبين بالموت، لا تتحدّثي! لا أرغبُ بسماع تبريراتكِ الطفوليّة، سأصنعُ كمّية من الطعام وسأطلُبُ لكِ قالب كعك من المتجر المُقابِل، ستتناوليه كُلّه وبعدها سنتحدّث طويلًا؛ فقد حان الوقتُ لتسيري على قوانيني بما انني سأبقى معكِ الى الأبد.
ابتسمت لأوّل مرّةٍ منذُ بدايةِ حديثهُما لترتسِمُ الراحةُ على ملامحه قائلّا بعطف:
- يبدوا انني علِقتُ معكِ الى الأبد.

.
.

لم تستطِع ليليان إغماض جفنيها وهي تنظُرُ لعِطر النائمة ببراءةٍ بين ذراعيها، زفرت تنهيدةً مُثقلةً بالألم والرغبة ولثمت خدّ الصغيرة بحنان قبل ان تضُمّها الى قلبها المُنهكِ علّهُ يشعُرُ باحتِراقها، تململت عطر وفتحت عيناها باتِساع تُطالِعُ وجه عمّتها بتفرُّس قبل ان تنفجِر باكيةً بصوتٍ عالٍ جعلها تهمِسُ بهلع:
- إهدأي يا عِطر ما الأمرُ يا حبيبتي؟ لما كُل هذا البُكاء؟!

سارع بُراق الذي كان يُراقِبها بصمت بحمل الصغيرةِ قائلًا:
- قد تكون جائعة، اجلِبي طعامها بسُرعة.
وضعت قنينة الحليبِ بفمِها ولكن بلا فائدة فقد رفضت تناوله واستمرّ بُكائها بالرغم من هدهةِ بُراق لها وعندما لم يُفلِح الأمر اضطرّت لأخذِها لجدّها، حملها أيمن بحنان وأخذ يهمِسُ اليها بأُغنيةٍ كانت تُغنّيها عِطر لريفال لتنام وما هي إلاّ دقائق حتّى هدأت الصغيرة وعادت للنوم تحت نظرات ليليان المُندهِشة، وضعها جدّها على فِراشه والتقط قنينةَ الحليب من ليليان قائلًا:
- دعيها معي وانا سأعتني بها الى ان تعود والدتها.

اومأت بصمت وغادرت ليوقِف أيمن بُراق قائلًا:
- زوجتكَ بحاجةٍ لطفل لا تحرِمها من هذه الأُمنية ولا تخف على قلبِها فاللهُ قادِرٌ على حمايتها.
شعر بُراق بمرارٍ حارِقةٍ تجتاحُ حلقه فغادر دون ان يستطيع التحدُّث ليهمِس أيمن بأسى:
- ليت كُلّ أُمنياتنا قابِلةٌ للتحقُق!

استلقى بجانب حفيدته ذات الشهران ونِصف من العُمر وسهِر مُشبِعًا عيناهُ مِن النظر إليها، بينما عاد بُراق لغُرفته ولكنّهُ لم يجِدها بفِراشها ولكن الشُرفة المفتوحة ذات الستائر المُرفرِفة مع نسمات الهواء المُحمّل بالمطر جعلتهُ يقترِب منها ليراها هُناك تجلِسُ على الأرض وقدماها تُلامِسان الهواء مُتشبّةً بالسور الخشبيّ العتيق.

جلس بجانبها بصمت واستمرّ تحديقها بالأرض المُظلِمة التي تفوحُ برائحة الخصوبة فاتِحةً مِصرعيها لضمّ بذورٍ ستغدوا وردةً أو ثمرة، قهقهت بمرارةٍ؛ فحتّى الأرض تحمِلُ الشجر ولكنّها لا تستطيع، بالماضي لم يكُن أمر الأطفال يعنيها فقد ظنّت انّها ستُنجِبُ عاجِلًا ام آجِلًا ولكن بعد ان تُحقق ذاتها، كان بُراق راغِبًا بالأطفال فأنجبت جواد وبالرغم من مرورها بمرحلةٍ رائعة وتحوّلها لأُم إلاّ انّ الأمر كان عاديًّا للغاية؛ فآلاف النِساءِ يُنجِبن في اليوم الواحد، سُرعان ما عادت لروتينها مُوكِلةً مُهمّة الاعتناء بالصغير للمُربّية وتسمحُ لها الأيامُ باللعِب معهُ لبعض الوقت ورؤيته يكُبرُ امام عينيها، ولكن الآن تغيّر كُلّ شيء.

أزاحت خُصلات شعرها الطويلٍ الى جانبٍ واحد ووضعت رأسها على صدره قائلةً بنبرةٍ ناعِمة لا تشبهُ أُنثى سواها:
- أنظُرُ لتلك النجوم.
أشارت إليه للنجمات الثلاث المُتقارِبات وأكملت:
- أُحبُّهم كثيرًا منذُ ان كُنتُ صغيرة؛ لأنهم لا يفترِقوا عن بعضِهم البعض، أخبرني كِنان انّ هذه النجوم تحمي من يُحبُّها وتبقى بجانبه الى الأبد، لذلك لا أُحِبُّ الأجواء الغائمة؛ أرغبُ بأن أراها دائمًا لأشعُر بأنني بخير.

- أظُنّ انني سأغارُ مِن هذه النجوم؛ لا يُمكِنكِ ان تُحبّيها أكثر مِنّي.
قال جاذِبًا إياها بحنان لتقول بصِدق:
- أُحِبُّكَ أكثر.
- سأُحاوِلُ أن أُصدّق.
تمتم ضاحِكًا وعيناهُ تشتعِلُ بحنينٍ لا يملِكُ لهُ دواء، واخفت ضحكته خوفًا مؤلِمًا بعدم رؤية وجهها مُجددًا لبقى مُتقلّبًا بين نار ألمِها وخوف إصابتها بمكروه.
- أنا وانتَ وجواد مثل تلك النجوم الثلاث لا نفترِق، أليس كذلك؟

تسائل بشرودٍ قلِق لتُجيبهُ بثِقة:
- بالطبع لن نفترِق يا بُراق، أعلمُ انّني أتوتّرُ قليلًا هذه الأيام ولكنني لن أسمح لقلبي بأن يضعف بعد الآن، أرغبُ بأن أمنحكَ الكثير من الحُب، أتمنّى بأن نشيب سويًّا ونرى ابننا يكبُرُ أمام أعيُنِنا، سيكونُ رجُلًا رائعًا مثل أبيه.
ْاراح جبينه على جبينها قائلًا بإنفِعال:
- بالطبع ستفعلين، صحيح انّهُ سيكبُرُ ولن نستطيع ابقاءه بقُربنا دائمًا ولكن نجاحهُ وتقدُّمه في الحياة سيكون فخرًا لنا.

- أُمّي، أبي، أين انتُما.
صوت جواد الباكي جعلهُما ينهضان بفزع لتقترِب ليليان وتحمل ابنها قائلةً بقلق:
- لما البُكاءِ يا بُني؟! ما الأمرُ؟
قال جواد مُتشبّثًا بعُنق والدته:
- لقد شاهدتُ حُلُمًا مُخيفًا للغاية، سأنامُ بجانِبكُما لكي لا يأتيني الوحش.
جلست به على الفِراش وقبّلت عيناهُ الباكية قائلةً بحُب:
- الأولاد لا يبكون يا صغيري، ولا وجود للوحوش.

- إنّهُ يتحجج للنوم بجانِبكِ.
قال بُراق مُتذمّرًا ليرُدّ جواد بانفِعال مُبتعِدًا عن اُمّه:
- انتِ تُحبّين عِطر أكثر منّي، هيا اذهبي إليها، انا لا أُحِبّكِ ولا أُريدُ أُختًا كعِطر لتُحبّيها هي ايضًا.
- جواد!
هتف والده زاجِرًا لينخرِط بنوبةِ بُكاءٍ عالٍ وقد أرعبهُ صُراخ ابيه بينما اتّسعت عينا ليليان وانتفض قلبها بخفقاتٍ عالية الى ان ربتت على صدرها بألم ليهتِف بُراق بخوف:
- إهدأي يا ليليان، ما الذي يؤلِمكِ؟ حاولي التنفُّس بانتِظام، لا تهلعي يا حبيبتي.

بدى الشهيقُ مؤلِمًا وكأنّ سكّينًا حادًّا يشُقُّ قلبها شقّا وكلماتُ ابنها يترددُ صداها ليُثبِت انّها أخفقت من جديد، كعادتها لا تُفكّرُ بشيءٍ سوى أحلامها مُتناسِيةٍ مشاعر ابنها الذي عاتبها بقسوة.
مرّت دقائق قاسِية على بُراق الذي حاول تهدئتها الى ان انتظم تنفُّسِها وخفّت شهقاتها المُتعبة، بقي جواد يُطالِعُ والدته بأسىً وندم قبل ان يقترِب مِنها مُتسلّقًا السرير ويضُمّها بكُلّ ما يملِكُ من قوّة قائلًا بنبرةٍ حزينة:
- انا أُحِبّكِ كثيرًا، لا تحزني.

نظرت الى بُراق الذي همس اليها دون صوت:
- لا بأس، انتِ بخير.
أغمضت عيناها وضمّت صغيرها بحنانٍ ليقول بتردُد:
- أنا خائفٌ من فتيات الحُلُم، لقد كُنتِ تلعبين معهُنّ وتحمليهِنّ كما تفعلين لعِطر.
- بماذا حلُمت يا جواد؟

قال والده وقد جذبهُ الحديث ليقُصّ الصغيرُ حُلُمهُ الى والديه ليقول بُراق مُبتسِمًا:
- لا بأس لا بطل، لننم الآن ففي الغد لديكَ مدرسة.
وأكمل بداخله برجاء:
- ادعوا الله ان يتحقّق الحلم لتحظى بأخوات جميلات كما وصفت لنا.

.
.

اثناء عمل أدهم على أحد الصفقات المُهمّة دلفت كإعصارٍ من الورد، تتحدّثُ بغضبٍ وانفعال وعلى وجنتيها احمِرارٌ طفيف، بنطال الجينز الضيّق لا يليقُ بامرأةٍ سواها، لا تتهذّبُ أبدًا بتلك الأكمام المائلة التي تكشِفُ كتِفيها الصغيرين، لم ينتبه لتلك الابتسامةٍ البلهاء التي ارتسمت على شفتيه ليفيق على هتافها الحانِق:
- سيّد أدهم!
- يا قلب سيّد أدهم!

أغلقت عيناها بحنق وقد استفزّها ردّ فعله اللامُبالي غير مُراعِيًا لأهميّة هذا العمل بالنسبة لها، تصاعد توتُّرها وهي تهمِسُ بحِدّة:
- يبدوا انّني سأُعيد النظر حول العمل معكُم.
ألقت امامهُ ملّف الأوراق وحاولت الخروج إلاّ انّ نبرته المُشاغِبةُ اوقفتها بمكانها مع قوله:
- ولكننا لن نقبل بهذا سيّدةَ كاميليا؛ من أزعج سيادة الملِكة لأرفِدهُ من العمل؟.

- لقد طلبت مجموعة من السيّارات الخاصّة وطاقم من السائقين لأجل معرض الغد وقد ظننتُ انّني أنهيتُ الأمر ولكن أُفاجأ اليوم بأنّكُم لم تنظروا لطلبنا من الأساس، أتمزحون؟!
كانت نبرتها لا تحمِلُ المزاح وهي تُزيح يداهُ عنها عندما حاول الاقتراب منها ليقول بجِدّية:
- حقًّا؟ لم يصلُني طلبُكم.

- بالطبع لن يصِل؛ فمُديرةُ أعمالِك تقوم بتعديل زينتها وليس مُتفرّغة للعمل.
تمتمت بداخلها بحنق وهي تُطالِعهُ بصمت ولم يلبِث ان تحوّل مرحهُ الى غضبٍ وهو يستدعي أحد موظّفيه وفي غضون دقائق كان مُدير قسم المُعاملات الخارِجيّة المُرتبِطة بكُلّ شرِكات أكبر يدلف وعلى ملامحه الخوف من غضب أدهم الذي قال بخفوتٍ حانِق:
- هل وصلكُم طلب شرِكة الهندسة؟!

نظر الرجُل الى مُديره بقلق قبل ان يقول مُتلعثِمًا:
- نحنُ نعتذِر للغاية سيّدتي؛ ستكون السيّارت المُتفق عليها جاهِزة بالوقت المُناسب وساُشرِفُ بنفسي على اختيار طاقم السائقين.
- حقًّا؟! هذا يعني انّ الطلب وصلكُم ولم تعملوا عليه، أليس كذلك؟!
قال أدهم بحدّةٍ أجفلت كاميليا بينما أحنى المُديرُ رأسه آسِفًا ليُكمِل هامِسًا بوعيد:

- أبلغ طاقم عملك بأن لا يختلقوا أعذارًا لأنني لن أتساهل معكُم اليوم، بعد نِصف ساعة أُريدُ حضور من ترأسهُم الى غُرفة الاجتِماعات، وتأكّد انّ ما حدث لن يمُرّ على خير.
خرج الرجُل مُدرِكًا انّها ساعاته الأخيرة في العمل بهذا المكان فغضب أدهم لا يُسفِرُ عن رحمة، شعرت كاميليا بأنّها ارتكبت خطأً فادِحًا عندما لجأت لرؤية أدهم فإن كان الأمرُ لدى بُراق سيتعامل بهدوء ولكن زوجها لا يوجد بقاموسه سوى الحِدّة.

اقتربت منه قائلةً بتردُد:
- إهدأ يا أدهم؛ الأمور لا تؤخذ بهذه العصبيّة، أنتَ لن تفصلهُ من العمل أليس كذلك؟
- هؤلاء لا ينفعُ معهُم سوى هذا الأسلوب، دعكِ منهُم الآن، كيف تسيرُ أموركِ؟ اتمنّى ان يكون خطأ شركتنا هو الوحيد في قائمة أعمالك.

جلست على الأريكة ومسحت على جبينها بتعب:
- لا أعلم الى الآن ولكن أظُنّ انني يجِبُ ان اتفقّد كُلّ شيءٍ بنفسي؛ فمعرض الغد أهمّ حدثٍ في مسير عملي وإن لم ينل النجاح الذي أتوقّعهُ لن أستطيع الوقوف على قدماي مرّةً أُخرى.
- ستنجحين، أنا أثقُ بقُدراتكِ وأعلمُ بأنّكِ تُحبّين ما تفعلين وهذا ما سيجعلكِ تصلين لأعلى المراتِب.

قال بصدق مُحتضِنًا وجهها الحزين، ابتسمت بامتنان وشعور الراحة يتسلل الى قلبها لوجوده بقُربِها وبثّه الامل بتردُدها وخوفِها، وتأكّدت انّها ستُكمِلُ يومها بأفضل طريقة بعد رؤيتها له، عانقتهُ قائلةً بحُب:
- شكرًا لك يا زوجي الحبيب؛ فقد خففت من قلقي.
نظر الى عيناها التي تُحاوِلُ عبثًا إخفاء الحُزن والانكسار ليقول بقلق:
- كراميل! لا تُنهكي نفسكِ أرجوكِ، سيكونُ كُلّ شيءٍ على ما يُرام.

نهضت قائلة:
- لا تقلق؛ سأُنهي تفقُّدي لبقيّةِ التجهيزات وسأعود للمنزِل على الفور، سأُغادر الآن، ونلتقي في المساء.
ودّعها بقُبلةٍ صغيرة وأخبرها بأنّهُ سيُنهي أعمالهُ باكِرًا لينضمّ اليها؛ فقد كانت الفترة الماضية صعبةً على كِليهِما خاصّة بمرور كاميليا بمرحلةٍ من الإكتآب الذي حاولت تجاوزه بالانخراط في العمل وقد فكّرت بتنفيذ حُلم حياتها الذي تمثّل في إنشاء معرض خاص بهندسة الديكور والتصميم الهندسي.

حيث ستعرِض كُلّ أعمالها ومُخطّطاتها كما تُعرض اللوحات الفنّية وسيحضُر المعرض العديد من رؤساء الشرِكات ومُصممي الديكور المعروفين وقد كانت الفكرة غريبة بعض الشيء ولكنّها لقت إقبالًا عظيمًا من كُلّ أصدقائها وقد قررت انّها ستفعل المُستحيل لتُنجِح هذه الفكرة التي ستكون الأولى في هذا المجال وهذا سيصنع لها شُهرةً لا مثيل لها.

.
.

- لما البُكاء يا تالين؛ انتُما بخير وبعد اسبوعان سيأتي طِفلنا الى الحياة لماذا انتِ حزينة.
قال كريم مُحاوِلًا تهدِئة تالين من نوبة البُكاء التي داهمتها اثناء كشفِها الأخير وقُرب ولادتها، أجابت بنبرةٍ تقطُرُ ألمًا وحُزنا:
- ليت أُمّي وابي على قيد الحياة؛ أحتاجُهُما كثيرًا يا كريم، أكثرُ ممّا قد تتخيّل.

- هُما يريانكِ الآن وبالتأكيد سيسعدان لسعادتك؛ لا تبكِ أرجوكِ فأنا أبيكِ وأُمّكِ وكُلّ عائلتكِ.
ربّتت على كفّيه الموضوعين على خدّها وأغمضت عيناها قائلةً وسط شهقاتها:
- طالما كرِهتُ قدري وتمنّيتُ ان أحيا قِصّةً لا تنتمِي الى واقِعي ولكنني اكتشفتُ ان الحياة قد لا تكون عادلةً كفاية ولكن ذلك القليل الذي تمنحنا إياه بإمكاننا ان نصنع منهُ حياةً جديدة وهذا ما فعلتهُ أنا، صحيح انّ كُلّ عائلتي قد ماتت ولكن وجودك بقُربي هو ما يمنحني سببًا للعيش.

قُبلته على جبينها جعلتها تهمِسُ بنحيب:
- عندما أذكُرُ ذلك الحادث وكيف كِدتُ ان أفقِدكَ أشعُرُ بأنني أموتُ ببُطء، كيف لي ان أعيشَ بدونِكَ يا حبيبي؟!
تأكّد بأنّهُ فعل شيئًا صالِحًا بحياته لتُكافئهُ الدُنيا بإمرأةٍ مثلها، كيف لا يقعُ بحُبّها وهي تُحيطُ به كأُمّ حنون؟

طوال الغترة الماضية كانت هي من تعتني به وليس العكس وبالرغم من تعثُّر حملِها وتقلُّب مشاعِرها إلاّ انّها لم تنساهُ في خِضمّ حياتها المُشبّعة بالأحداث والأشخاص بل وضعتهُ في مرتِبةٍ فريدة تخُصّهُ وحده ليس كزوجٍ فقط بل كصديقٍ وأبٍ وحامي.
لم يُشارِكها الفِراش فحسب بل شاركها الضحكةَ والحُزن والدموع، وبعد أشهُرٍ قصيرةٍ لم يستطِع فيها تذكُّر أحداث حياته السابِقة أدركَ أنّهُ وقع في حُبّ تالين لأوّل مرّةٍ وآخِرِ مرّة.

قبّل فمها مُخرِسًا ما تبقّى من حُزنٍ بكلِماتها وقال بنبرةٍ رخيمة:
- ماذا قُلنا يا حبيبة كريم؛ لن نتطرّق للماضي أبدًا وسنحيا الحاضِر بكُلّ ما يحمِلُ من حزنٍ وفرح، لن نتحسّر على لحظةٍ مضت ما دُمنا قادِرين على التكفير عن اخطائنا والبدء من جديد، أليس كذلك؟.
- نعم.
قالت وابتسامةً حزينةً ترتسِمُ على محياها وبتلك الكلمات استطاع كريم أخذ زوجته من المشفى وذهبا الى السوق حيث أصرّ على شِراء المزيد من ألعب الأطفال وثيابهُم.

وعندما عادا للمنزِل وجدا ريفال تجلِسُ على الحديقة وبيديها عِطر التي تنظُرُ الى ما حولِها باستِكشاف، سارع كريم بحملِها قائلًا بحُب:
- يا مرحبًا بعِطر ورائحتها الزاكِية.
حملها مُقبّلًا وجنتيها بقوّة بينما عانقت ريفال تالين ودلفن للداخل ليتبعهُما حامِلًا الصغيرة التي لدهشته سكتت ولم تبكِ كعادتها عندما يحمِلها.

بينما راقبهُم رضوان من بعيد وعلى عيناهُ المُتعبتين ابتسامةً حانِية؛ فقد كان قدر فُقدان كريم لذاكرته أخفّ عِقاب له فهو لن يذكُر ما حدث وريفال ستغفِرُ لهُ عاجِلًا ام آجِلا ولكنّها لن تُسامِحهُ هو ولو انطبقت السماء على الأرض ولها كُلّ الحقّ بذلك فما اقترفهُ في حقّها لا يقبلُ السماح.

.
.

بأحد سجون المدينةِ يجلِسُ وقد كسى الشيبُ رأسهُ وأحنت الأحزانُ هامتهُ ليغدوا كشبحٍ خفيفٍ لا يزِنُ ذرّةَ هواء، لا يحمِلُ من العالمِ الخارِجيّ سوى ذكرى كلماتٍ حُفِرت على مسامِعه وابت ان تختفي منذُ ان قابلتهُ زُمرُّد قبل أعوامٍ طويلة، كانت يومها امرأةً راشِدةً تحمِلُ حُزنًا وانكسارًا وقوّة لا تُقهر، لم تشتِمهُ او تلعن اليوم الذي رأتهُ فيه بل كُلّ ما قالتهُ كان ذي أثرٍ على حياته.

" بما انّني لن أستطِع محو الماضي فأنا مُمتنّةٌ لكُلّ ما حدث بعد ان اغتصبتني، لقد أخبرتني الأيامُ انّ البشر جِنسٌ لا يخضعُ سوى لقانون الاختِلاف؛ فبالرغم من انّ من هُم على شاكِلتكَ موجودين بكثرة فمن يشبهون زين أكثر مِنكُم، الحياةُ عادِلة ولكن من وِجهة نظر الأحداث وليس الأشخاص، لذلك شُكرًا لأنّكَ كُنتَ سببًا لمعرِفتي بأفضلِ رجُلٍ قابلتهُ في حياتي"

لقد تخيّل كُلّ شيء في حياته عدا ان يراها بهذه القوّة، تذكّر هشاشتها ونعومتها وخوفِها منه ولكنهُ لم يرى سوى امرأةً قويّةً شرِبت من مرارة الحياة الى ان ملّها الألمُ وتعِب منها العذاب، لقد ضربتهُ يومها في مقتلٍ عندما قالت:
- بالمُناسبة، لقد حمِلتُ مِنكَ فتاة، أعلمُ انّ رضوان لم يُخبِرك بالأمر ولكن الفتاة الصهباء الصغيرة التي تعملُ خادِمةً في القصر تكونُ ابنتك وابنتي، وهي من حاولت قتلك قبل قليل، وستكونُ ثاني شيءٍ أشكُركَ عليه.

لقد كان لديه ابنة ولا يدري! كم الألم الذي عصف بقلبه ذلك اليوم لن يستطِع التخلُّص منهُ الى الآن، لا يذكُرُ شكل الخادِمة التي قصدتها، يتوقُ لرؤيتها ولكن ما باليدِ حيلة؛ فمُحاولة قتله لكريم انتهت ببتر ساقه وسجنه لمُدّة خمسةَ عشر عامًا سيُكمِلهُم غدا ويخرُج من هذا المكان ولكن هل يا تُرى سيستطيعُ رؤية ابنته بعد هذه السِنين؟.

لم يعُد بعُمره باقٍ ولا يرغبُ بعد كُلّ ما حدث في حياته سوى ان يشعُر بشعورٍ نظيفٍ لا يشوبهُ الشكُّ والنِفاق، يُريدُ النظر في عيني ابنته دون ان يخاف من عدم نسبِها له، يرغبُ برؤية أحفاده اذا كان لديه احفاد، رؤيتها ولو من بعيد ستُشبِعُ رغبةً بقلبه.
اغلق عيناهُ بأملٍ رؤية ابنته التي تبلُغُ الحادي والثلاثون من عُمرها ولم يحدُث ان لمح وجهها.

.
.

- جدّي، أتُحبُّني لأنني على اسم جدّتي أم لأنّني حفيدتكَ المُفضّلة؟!
وضعت عِطر رأسها على كتِف جدّها الذي احتضنها قائلًا بحنان:
- .....

~~~~~~~~~~~~

مرحبا
رأيكم بالبارت ؟
والأحداث الى الآن ؟

توقعاتكم للفصل الأخير

.
.
..
...
مع حبي 💙💙💙



.
.
.
.
..
...
فايا

Continue Reading

You'll Also Like

3M 150K 40
لكلّ شيء ثمن، وكلما عزّ المراد ارتفع ثمنه. كأن همًّا واحدًا لا يكفي، أو كأنّ الهموم يستأنس بعضها ببعض، فلا تنزل على الناس إلا معًا. العمر حين يطول يق...
1.8M 37.9K 66
للعشق نشوة، فهو جميل لذيذ في بعض الأحيان مؤذي مؤلم في أحيانا اخرى، فعالمه خفي لا يدركه سوى من عاشه وتذوقه بكل الأحيان عشقي لك أصبح ادمان، لن أستطع ا...
3M 64.5K 64
تعالت همسات الجميع من حولها منهم المشفق منهم الشامت بينما هي تجلس مكانها جاحظة العينين غير مصدقة انه فعل بها هذا لقد غادر بوسط الزفاف تاركاََ اياها ت...
203K 2.8K 16
أنت نقطة ضعفي أنت ولو أحب ثاني أرد وأرجع أحبك