سُكّر غامِق

By xxfayaxx

384K 16.4K 8.8K

ذات العينان الغائمتان تحمِلُ قلباً نقيّاً بروحٍ مُشوّهة وقد ظنّت انّ الحُبّ ابعدُ ما يكون عن قلبها المُرتعِد... More

تشويقة
لعنة رضوان
ابناء ايمن
تتزوجيني ؟
نيران الانتقام
وعود
وجع القلوب
مشاعر غريبة
قبلة و هروب
غالية
اشواك الورد
سيد خجول
زُمُرّد
ما قبل العاصفة
حقائق
ارواح تائهة
تعاويذ القدر
طوفان
وجوه الحب
سقوط
تعب
تشتت
طفولة
حب وحرب
رجال العشق
عذاب
وصية
عِطر
توق
أقدار العمر
النهاية (عبق الماضي)

بدايات ونهايات

10.3K 471 302
By xxfayaxx

- لا يُمكِن، بالتأكيد انّها إحدى مزحات فاتن السخيفة، ستأتي الآن وتُعطيني ابنتي فبالتأكيد هي تبكِ الآن وتُريدُني.
تمتمت ريفال بتشوّش قبل ان تُضيف بجنون:
- هي لن تؤذيني بهذه الطريقة، هي أُختي وصديقتي، لا يُمكنها ان تخونني!
شعرت بأنّ لأرض تدورُ من حولها وهي تهذي وألمٌ عظيمٌ يجتاحُ فؤادها:
- فاتن طيّبة ولن تقتُل طفلتي، أليس كذلك يا جوان؟!

ضمّتها جوان بشدّة وعيناها مُتّسِعتان برُعبٍ وآلافٍ من الأسئلة تعصِفُ برأسها، كيف لفاتن ان تؤذي ريفال؟! من المؤكّد انّ هنالِكَ خطأٌ ما.
التقط أوس الهاتف ليهمِس بحدّة:
- إنها فاتن بالطبع.
- لقد ساعدت جُلنار على الأغلب، اقترِحُ ان ننقسِم لنصفين ونمضي لرؤية المرأتين، كنان إياكَ ان تفتعِل ما لا يُحمد عُقباه، سنجِد الصغيرة بأسرع وقت فقط إهدأ.

همس أدهم مُشددًا على كلماته بينما أضاف بُراق مؤيّدا:
- سأذهبُ أنا وأدهم لجُلنار وانتَ وكريم إحضِرا فاتِن.
ابتعدت ريفال عن جوان ونهضت بصمت بغية الخروج من غُرفة المشفى، اوقفها كنان هامِسًا بزجر:
- لا تتحرّكي من مكانكِ يا ريفال؛ سأجلب عِطر بعد قليل، اعتني بنفسكِ فأنتِ لستِ على ما يُرام.

نظرت الى كفّه التي تُمسِكُ بذراعها وصرخت بعذاب:
- فاتن لن تقتُل ابنتي، انا يجِبُ ان اتحدّثَ إليها، لا يُمكِنكَ ان تطلُب منّي البقاء وابنتي ليست هُنا، انا أحترِق، أموت، وانتُم لا تشعرون، أُريدُ ابنتي يا كنان، اُريدُها الآن، أجلبها إليّ أرجوك!
افلتت من بين ذراعيه لتذهب لليليان التي تبكي بصمت وتهزّها من كتِفيها هاتِفةً بألم:
- انتِ تشعُرين بما أشعُر، لقد فقدتِ طفلكِ، أخبريهم انني أحتضِرُ يا ليليان، أخبري أخاكِ ان هذا الشعورُ يخنِقُني، كيف سأتخلّصُ من هذا الوجع؟!

شهقت ليليان والألمُ يُحفرُ بعُمق روحها عندما همست ريفال بصوتٍ مُنخفِض:
- قلبي يذوب، لا أشعُرُ بنبضي، آهٍ يا روحي، اُريدُ ابنتي يا الله!
ضمّتها ليليان بقوّةٍ ومات الحديثُ على حافّة شفتيها غير قادِرةٍ على محو العذاب عن قلب زوجة اخيها مُدرِكةً ان لا شيءَ في الكون قد يواسيها سوى عودة طفلتها الى احضانها.

شعر بُراق بألمٍ عظيم وعيناهُ تلتقي بعيني زوجته التي اغمضت حدقتيها ليسقُط دمعها الغالي امام الجميع بقهرٍ وخُذلان، اما كنان فقد سارع بالإمساك بريفال التي فقدت وعيها مرّةً اُخرى ليحملها واضِعًا إياها على فِراش المشفى بينما سارعت جوان بمُناداة الطبيب، قال ايمن موجّهًا حديثه لأوس بعد ان ابعده عن ريفال:

- ابقى برفقة اُختِك واياكَ ان تترُكها وحدها الى ان اعود، سأجلِب ُابنتها وسأقتُلُ جُلنار إن لزِم الأمر، ثِق بي هذه المرّة وأعِدُكَ ان لا أخذُلكُما.
نظر أوس الى ابيه وعيناهُ تلتمِعُ بالدمع والعِتاب وقال بهدوء:
- بحياتي لم أعتبِركَ أبًا لي ولكنها تفعل.

نظر الى ريفال النائمة بسكون وعاد لوالده مُكمِلًا بأسى:
- لا تعودون من دون عِطر، لأنّها لن تُسامِحكُم ما حييتُم.
كان حديثه موجّهًا للجميع ولكن النصيب الأكبر لكنان وأيمن اللذان تسببا بكُلّ ما هو سيئٌ بحياتِها.

ابتعد كنان مُسرِعًا للخارِج وتبِعهُ كُلٍ من أدهم وأيمن وكادي التي اصرّت على الذهاب لرؤية والدتها الحقيرة بينما ذهب بُراق وشِهاب وكريم للتحقُق من فاتن ومعرفة اذا كانت الصغيرة بحوزتها ام برفقة جُلنار بينما ظلّت النِساءُ برفقة ريفال بعد ان اعطاها الطبيبُ حُقنةً مُنوّمة لتهدأ من انهيارها آمِلًا ان تعود الطفلةُ سالِمة فقد هدد كنان بإغلاق المشفى الى الأبد إن لم يعثُر على طفلته.

على مقاعد الانتظار بجانب غُرفة ريفال جلس الجميعُ والصمت المُثقل بالدعوات يكسوا ملامِحهم، ضمّت نور الحياة كاميليا التي خارت قواها من البُكاء وقالت لها بخفوت:
- سيجِدوها، لا تبكِ أرجوكِ.
- دعيها تبكِ، وإن ذابت عيناها من البُكاءِ لن تغفِر افعال والدتها الحقيرة.

تدخّلت ايناس وهي ترمِقُ كاميليا باستِحقار وكُره لتهمِس نور الحياة بإنزِعاج:
- أرجوكِ يا اُميّ يكفي الى هذا الحد، كاميليا هي أُخت ريفال أيضًا.
اجابت ايناس بحدّة على تدخُّل ابنتها:
- أصبحتِ ترُدّين على والدتكِ يا حياة، أتُريدين افتقار الأدب الذي علّمتُكِ إياهُ بسبب هذه الشيطانة؟!

نظر أوس بحدّة الى إيناس بينما ابتسمت كاميليا ابتسامةً صغيرة حفرت خاندِقًا من الجروح بقلبِها الهشّ وهي تستقبِلُ كلمات إيناس بصمتٍ وتنهض راكِضةً بنحيب علّها تخبو الى الأبد وترتاحُ من حياتِها البائسة، الى متى ستظلُّ والدة زوجها بهذه القسوة معها هل كُلّ هذا لأنّ القدر شاءَ بأن تكون ابنة جُلنار ام انّ حظّها العاثِرُ وضعف شخصيّتها هُما من يجعلاها غير لائقة بإبن إيناس؟!

تبِعتها غصون بِغيةَ البقاء بقُربها إلاّ انّها زجرتها قائلةً انّها ترغبُ بالبقاء وحدها فعادت غصون والحُزن يكسوا ملامِحها الرقيقةُ قهرًا على أُختها المسكينة التي لا تستطيع الردّ على قسوة والدةَ زوجِها.

.
.

قهقهت جُلنار بظفر وهي تتأمّل الصغيرة التي تبكِ دون انقطاع غير رآئفةٍ بصِغر سنّها الذي لا يتجاوز بضع ساعات، صعدت بواسطة سُلمّ القبو المُلحق بالمنزِل المُهترئ الذي تُقيمُ فيه تارِكةً الصغيرة هناك بمُنتصف الظلام والاترِبة والحشرات، وفكّرت انّها لا يجِب ُان تتسرّع وتقتُل الطفلة؛ يمكنها ان تبتزّ كِنان لتأخُذ بعض المال لتستطيع الهرب خارِج البِلاد وبالطبع لن تُعطيه ابنته.

جلست على الأريكة قديمة الطِراز وامسكت بالهاتِف الصغير الذي ابتاعتهُ مؤخّرًا وقبل ان تقوم بالإتِصال على كِنان كُسِر باب منزِلها بقوّة ليدلِف كُلّ من كِنان وأيمن وأدهم بينما تجُرّ كادي أقدامها بضعفٍ مُتأكّدةً انّها اليوم سترى والدتها لآخر مرّة، فزِعت جُلنار لمرآهُم ولم يكُن هذا ضِمن خُطّتها مُطلقًا، كيف عرِفوا مكانها بهذه السُرعة؟!

ما ان رأت كادي حتّى فطِنت للأمر ولعنت نفسها آلاف المرّات؛ لم يكُن عليها الإتِصال على كادي فهذه الفتاة تُماثِلها ذكاءً وبالتأكيد استطاعت تحديد مكانِها بتسجيل مُكالمتها.
ركض أيمن وأدهم يبحثان عن مكان عِطر بينما تأوّهت جُلنار بألم وكِنان يسحبها من شعرِها القصير ليُلقي بها على الأرض بقوّة وقد وصل غضبه لآخر مداهُ بعد أن أخبرهُ بُراق بأنّ فاتِن اعترفت بالتآمُر مع جُلنار لخطف ابنته وآخر ما قالتهُ انّها سلّمتها لجُلنار ولا تعرِفُ مكانها.

نشب أظافره على عظام فكّها الحاد ورفعها عن الأرضِ لتواجِه عيناهُ المُستعِرة بالقلقِ والغضب، نظر إلى ملامِحها الشيطانيّةُ بنظرةٍ سوداء تحمِلُ الموت لتبتسِم بإستِفزاز بالرغم من الألم الذي يتدفّقُ على وجهِها ليُشدد قبضته حول شدقيها هامِسًا بخفوتٍ مُخيف:
- أين ابنتي؟
خرج صوتها ضعيفًا ويدهُ تستقِرُّ على عُنقِها خانِقًا إياها لتقول:
- إنّها بأمان الى الآن ولكن بعد ساعتين من هذه اللحظة ستكون برفقة جدّتها عِطر إن لم تُنفّذ ما أقول.

اتسعت عينا كادي بصدمةٍ حقيقيّة وهطلت دموعها بغزارةٍ وللتوّ فقط كرهت كُلّ لحظةٍ تمنّت فيها أن تُصبِح كوالدتها.
- اين ابنتي يا جُلنار؟ إن فقدتُ أعصابي وقتلتُكِ في الحين لن يُفيدكِ هذا الصمت.
- عشرةَ ملايين نقديًّا وتأشيرة خروج من هذا البلد وستكونُ ابنتكَ بين ذراعيك.

هتفت بصعوبة ما ان افلتها لتصطدِم بالأرضِ مرّةً أُخرى وعلى إثر كلِماتها عاد أدهم وأيمن خالِيا الوِفاض بعد تقليبِهم للمنزِل شِبرًا شبِرا ولم يجِدا أثرًا لعِطر.
همس أيمن بألمٍ ورجاء:
- سأُعطيكِ كُلّ ما ترغبين فقط أعيدي الصغيرة؛ والدتها ستموتُ من الخوفِ عليها، أرجوكِ يا جُلنار لا تؤذينا في طفلةٍ لا تعرِفُ معنى الحياة.

شعرت بدموعٍ حارِقة تسيلُ على وجهِها الدامي فتحرِقهُ بملوحتِها، فتحت عيناها الزائغة لتُرسِل نظرة كُرهٍ لزوجِها الذي يخونها بكُلّ لحظةٍ منذُ زواجِها منهُ وهي ترى نظرة الشوق والشرود بعينيه لحبيبته القديمة، وبكُلّ لحظةٍ تشمُّ فيها عطرها بين ثيابه ترغب بقتِلِهما معًا، كُره عظيم يجتاحها نحو عِطر التي رأتها مرّةً واحِدة وأدركت انّ كُلّ معارِكها ضدّها خاسِرة؛ فقد أخذها الموتُ ولا زالت صورتها مطبوعةً على عيني أيمن تراها كُلّ ما نظرت إليه، هي بالفِعل لم تُحبّهُ ولكن لا يُمكِنُ لإمرأةٍ تقبُّل مُشاركةِ رجُلها مع أُخرى، كيف عندما يُنجِبُ منها أبناءً أيضا.

انتقامها لم يكُن مِن كِنان بل من ريفال التي تُذكّرها بلُعبةِ الانتقام القديمة التي لا بُدّ لها من الفوز فيها ولو كلّفها الأمرُ حياتها، يجِبُ أن تقتُل الصغيرةُ لتضمن موت أُمّها من الألم وعلى الأرجح ستكونُ حينها في قمّة سعادتها وهي تُرسِلُ الفتاتان لعِطر الحقيرة.
- الجدُّ خائفٌ على حفيدته، يال الحُزن!
همست بأسف ليجثو أيمن على رُكبتيه امامها قائلًا بتعب:
- هانذا أمامكِ يُمكِنكِ قتلي ولكنني لن اسمح لكِ بإيذاء عِطر، يكفي انّكِ قتلتي جدّتها بالحُزنِ والحسرة.

إحمرّت عيناها عندما سمِعت إسم عِطر ومُجرّد تسمية الصغيرة بهذا الأسم يجعلها ترغب قتلها بكُلّ استِمتاع دون ان يرِفّ لها جِفن.
اتّصل كِنان على بُراق طالِبًا منهُ جلب النقود بينما بدت عينا أدهم تذرعان المكان بتفكير مُتأكّدًا ان جُلنار تقومُ بهذا الأمرِ وحدها وهذا يعني ان الطفلة بمكانٍ ما بهذا المنزِل ولكن أين لا يدري، بداخل القبو كانت صرخات عِطر تشُقُّ سكون الظلام وعيناها الصغيرتان تريا عالمًا أسودًا غير مفهوم، يداها الصغيرتان تتحرّكان بتخبُّط وكأنها تتقفّى أثر أحدٍ يُخرِجها من هذه العتمة ليُعيدها لعينانِ رماديّتانِ ووجهٍ مُبتسِم.

شعرت كادي انّ بُكائها لن يُجدي نفعًا ويجِبُ ان تجِد ابنةَ ريفال بأسرع وقت وحينها فقط ستشعُرُ بأنّها لا زالت تحمِلُ القليل من الخير بين السواد الذي اهدتهُ إياها والدتها، اقتربت من الأريكة التي سقطت والدتها أمامها ودفعتها بقوّة لينتبِه إليها أدهم ويُساعِدها على إبعادها ليرفعا السجّاد الذي تحتها ولكن لا يجِدا شيء، إرتعبت جُلنار ما ان قالت كادي بتفكير:
- لا بُدّ انّ هُناك قبوٌ بهذا المكان.

نظر أدهم لردّة فِعل جُلنار وأدركَ انّ كادي مُحِقّة ولكن ما فعلتهُ جُلنار بلحظةٍ واحِدة جعل الجميع يتجمّدُ مِن الصدمة؛ فقد سحبت سِلاح أيمن وصوّبتهُ نحوهُ هامِسةً بجنون:
- ليس بهذه السهولة، يجِب أن يدفع أحدكُم الثمن.
كانت عيناها زائغة ويداها ترتجِف ولكنّ تصويبها على أيمن جعل ثلاثتهُم في حذرٍ تام مُدرِكين انّها قد تُنفّذُ تهديدها بأيّ لحظة.

بدى أيمن هادِئًا للغاية وكأنّهُ يتمنّى الموت ليلحق بمحبوبته وهذا ما قرأتهُ جُلنار بعينيه الشارِدتان بإبتِسامة مُشرع اليدين طالِبًا مِنها ان تبعثه للموت على وجه السُرعة ممّا جعلها تُزمجِرُ كحيوانٍ جريحٍ غير راغِبةٍ بإهداء عِطر نجاحًا آخر بل استطاعت أخيرًا ان تذهب إليها في الجحيم لتأخُذ روحها من جديد.

خبّأ أدهم وجه كادي بين ذراعيه وصوت طلقةٍ حادّةٍ تخرُجُ عن السِلاح الصغير لتُفجّر رأس جُلنار وقد انتهى بها الأمرُ مُنتحِرةً امام اصغر بناتِها، هدأ المكانُ فجأةً ليتناهى صوت صُراخٍ ضعيفٍ من باطن الأرض ليُسرِع كِنان مُزِيحًا الأريكة الأُخرى والسجّاد المُحيط بها ليرى قِفلًا صغيرًا كسرهُ بُرعب ورفع الغطاء الخشبيّ الذي يقود لسُلّمٍ تحت الارض.

أسرع بالنزول وقد بات صوت صغيرته أكثر وضوحًا كما نبضات قلبه التي تطرُقُ حاجِز عظامه بقوّة، أشعل ضياء روحه ليراها هُناك على الأرض القذِرة تبكي بعُنف، بيدين مُرتجِفتين ودموعٍ تُحاكي دموعها رفعها عن الأرض ليضُمّها الى صدره هامِسًا بعذاب:
- صه يا صغيرتي! لا تبكِ يا أُمّي انتِ، ها قد أتيت لأخذكِ لوالدتكِ، يا إلهي!.

ضمّها ودموعهُ تسقطُ رُغمًا عنهُ غير قادِرٍ على تخيُّل ان لا يراها مُجددًا، لم يكُن موت جُلنار يعنيه؛ فعلى الارجح قد نالت جزاء أعمالها، لقد قتلت نفسها بالحِقد والكُره وانتهى أمرها تقتُلُ جسدها لتُحرر روحها الشرّيرةُ للسماءِ كوالدتها تمامًا، فقد انتحرت هي الأُخرى ما ان أكتشف رضوان خيانتها وعدم أبوّته لجان وكانت مُدرِكة انّهُ سيقتُلها لا محال لذلك انهت حياتها بنفسها وطوت صفحةً سوداء بعائلة رضوان والآن بعد موت جُلنار وسجن جان قد تخلّصت العائلة من عِرقٍ فاسِد إقتصّتهُ الأيامُ قبل ان يُفسِد شجرة العائلة.

بصعوبةٍ إستطاع الخروج من القبو حامِلًا الحقيبة التي تحوي طفلتهُ بإحكامٍ شديد ولا زالت تبكي بتعبٍ وجوع، اقترب ايمن لينظُر الى حفيدته قبل ان يسقُط أرضًا شاكِرًا اللهُ على حفظها وبقائها بخير، نظر لبركة الدماء التي تُحيط بجُلنار وهمس ببرود:
- هيّا بِنا.
أومأ كنان بينما همس أدهم بأسى:
- كادي، إغمضي عيناكِ، لا تنظُري إليها، لقد ماتت ولا يُمكننا فعل شيءٍ لها.

حملها بخِفّةٍ لتتشبّث بعُنقه بوهن وقد بات جسدها خفيفًا كغيمةَ صيفٍ صافية، وبالرغم إحكامها لعيناها الدامعتان لكنّها لم تستطع منع نفسِها عن إلقاء نظرةٍ أخيرةٍ على والدتها، بركةَ دماءٍ وعينان جاحِظتان جعلاها تفقِدُ الوعي وقد إلتقط عقلها هذا المشهد ليُخزّنهُ في ذاكِرتها الى الأبد، لمح كِنان نظرتها ولم يستطِع سوى التمنّي بأن تستطيع الوقوف على قدميها بعد رؤية هذا المنظر.

فمن البداية لم يكُن عليهم جلبها ولكن في تلك اللحظات لم يستطِع احدٌ التفكير في شيءٍ سوى انقاذ الطفلة، عندما خرجوا من المنزل كانت سيّارة الشُرطة وسيّارتيّ الإسعاف التي طلبها ايمن قبل دقائق تقِف امام الباب، وما أن تعرّف قائد الفِرقة على عائلة رضوان ورأى الصغيرة التي سارع كنان بإعطائها الى المُسعفين بينما وضع ادهم كادي على النقّالة سمح لهُم بالمُغادرة وشرع فريقهُ الجِنائي برصد مشهد جُلنار التي لا زالت تحتفِظُ بسِلاح أيمن بيدِها.

بسيّارة الإسعاف رفض كنان ان يحقن المُسعِفون طفلتهُ ليضعون المُغذّي بجسدها وأخبرهُم انّها لم تُكمل الاربعة وعشرون ساعةٍ بعد كيف يُمكِنهُم إدخال موادٍ غريبةٍ لجسدها؟ اخبرهُ المُسعِفُ انّ الصغيرة تُعاني من جفاف حاد نظرًا لعدم أخذها للحليب لمُدّة سبع ساعات متواصِلة وإن لم تأخُذ مواد تُعيد توازُن جسدها الصغير قد تُفارِقُ الحياة.

سمح لهُم على مضضٍ بغرز حافّة الحُقنةِ الحادّةِ على ظهر كفّها الصغير ليتألمّ وكأنّها وضعت على ظهر قلبه خاصّة مع بُكاء الصغيرةِ المُتواصِل الذي هدأ شيئًا فشيئًا الى ان نامت بوجهٍ مُحمرّ من البُكاء، وحينها فقط تنفّس الصعداءُ والتقط هاتفه ليُخبر أوس أنّهُم في الطريق.
- يا إلهي! أسمِعني صوتها يا كِنان، أرجوك.

همس ريفال وقد أخذ الإنهاكُ مأخذهُ من صوتِها وجسدها إلاّ انّ اللهفة المُشتعِلة بعيناها المُغرورِقتين بالدموع جعلت كنان يهمِسُ بحُب ناظِرًا الى عِطر:
- إنّها نائمة كملاكٍ بريئ، تمتصُّ إصبعها الصغير بجوع، وتشتاقُكِ كثيرًا يا أُمّها.
تناهى الى مسامعه صوت نحيبها الخافت فهمس برجاء:
- لا بأس، جميعنا بخيرٍ الآن، لا تبكِ ارجوكِ، بعد دقائقٍ قليلة سترينها.

دفنت وجهها بالوسادةٍ وبكت بإنهاك غير قادِرةٍ على تحمّلُ رُعب الساعات الماضية والى الآن تشعُرُ بخفقات قلبها المُتألّمة، إلتقطت جوان الهاتف لتُحادِث كنان بينما همس أوس بألم:
- ريفال! لا تفعلي هذا بنفسكِ ارجوكِ، ابنتكِ بخير لما البُكاء الآن؟!

لم تستطِع الردّ عليه وهي نفسها لا تعلمُ سبب بُكائها، فكل ما ترغب به الآن هو التخلُّص من الألم الذي يعصفُ بقلبِها، ظلّت تبكي ولم يفلِح أحدٌ بتهدِئتها فاقتربت منها ليليان واحتضنتها قائلةً برِقّة:
- لا بأس، إخرجي كُلّ ما بقلبكِ من خوف، أبكِ لترتاحي وحاولي الهدوء قبل مجيئ كنان وعطر لكي لا تُفزِعي الصغيرة، يكفي ما عانتهُ من خوف.

- ماذا حدث لتلك الحقيرة؟ هل أنتُم بخير يا كِنان؟.
تسائلت جوان بقلق ليُجيب بعد صمتٍ قصير:
- لقد انتحرت.
شهقت بصدمةٍ لتلفِت انتِباه الجميع لتهتِف أسمهان بذُعر:
- ما الأمرُ يا ابنتي؟ ما الذي حدث.
- يقولُ أنّ جُلنار انتحرت.

اجابت وهي تنظُرُ لغصون بحُزن لتسقُط دموع الاخيرةُ هامِسةً بارتِجاف:
- ماذا؟!
رفعت ريفال عيناها المُلتهِبتان بالدمع وتمتمت بذهول:
- يا إلهي!
- لا! لا يُمكِنها ان تموت بهذه السهولة، لا يجِبُ ان تموت قبل ان تُكفّر عن أخطائها، لن تذهب للجحيم بقدميها!

همست غصون بألم قبل ان تُسرِع بالركض خارِج الغُرفة التي تحوي كُلّ من يكرهُ والدتها، نظر اوس لأثرها ورغبةً عظيمةً تحُثّهُ للحاق بها ولكن في هذه اللحظة بالذات يشعُرُ بأنّ وجودهُ قد يؤلمها أكثر؛ فعلى الأرجح هي تظُنّ ان موت والدتها بسبب ريفال.
ورُغمًا عن أسمهان سقطت دمعتا راحةٍ على عينيها وهي تستذكِرُ موت غالية بذات الطريقة وكأن قتل النفس هو جزاءهُما لما قتلاهُ من أرواحٍ وقلوب.

امام بوّابة المشفى وعلى درجات السُلّم المُطِلّ على واجِهة الشارِع جلست كاميليا تضُمُّ وجهها الى رُكبتيها تبكي عذاب حياتِها البائسة تنظُرُ الى سيّارات الإسعاف المُحمّلة بالأرواح المُتهالِكة مُتمنّيةً ان يأخُذها شبح الموت المُحيطِ بالمكان علّها تستريحُ من هذا الذُلّ وكُره الذات، واثناء شرودها وجدت كنان يخرُجُ من سيّارة الإسعاف حامِلًا الصغيرة فركضت إليه هامِسةً بسعادةٍ حقيقيّة:
- حمدًا لله أنّكَ عثرتَ عليها، ريفال ستموتُ من الخوف عليها، يا إلهي! ماذا حدث؟ هل هي بخير؟! وكيف وجدّتها؟ هل أخذتُم أُمّي الى مركز الشُرطة؟!

تسائلت وهي تتلمّسُ كفّ الصغيرة الموصول بالمُغذّي لينظُر كنان إليها بإشفاقٍ عظيم؛ فهي لا تستحِقُّ أُمًّا كجُلنار ولكن الحياةُ ليست عادِلة طوال الوقت، نظر خلفه ليجِد ادهم قد وصل بسيارته فقال بحنان:
- سيُخبِركِ ادهم بكُلّ شيء، يجِبُ أن أُسرِع بالصغيرة للداخل.

اومأت إليه وهي تمسحُ دموعها ليترُكها وتنتبه توّها لوالدها الذي تقدّم برفقة كادي الموضوعة على ناقِلة الإسعاف، شعرت بقلقٍ عظيمٍ يطرُقُ ابواب قلبها ولكن قبل ان تسأل والدها بادرها بعِناقٍ حانٍ همس من خلاله بأسف:
- أُمّكٍ قد انتحرت، لقد قتلت نفسها يا ابنتي!

طنينٌ حاد إجتاح مسمعها فإنتزعت نفسها من بين ذراعيه عنوةً لتضع كفّيها على أُذُنيها وتهاوت باكيةً بصمت وصوتها يأبى الخروج للعلن؛ فما يعتمِلُ بصدِرها من حديثٍ لا يُمكِنُ للكلِماتِ ترجمتهُ.

تجرّع أدهم مرارة ألمٍ دموعها فسحبها عن الأرض ليضُمُّها بقوّةٍ ليزداد ارتِجاف نحيبها المكتوم ليبتعِد أيمن مُسرِعًا للحاق بكادي مُدرِكًا أنّ كاميليا لن تحتاج لأحدٍ سوى أدهم في هذه اللحظات، التصقت بجُدران قلبه بشدّةٍ وهمست بآهةٍ مُختنِقةٍ أردت روحه قتيلةً عندما أضافت بهذيان:
- ليس لي أُمًّا سواها، كيف سأستطيعُ العيش دون وجودها بحياتي، آهٍ يا إلهي!.

كاميليا لا تعرِفُ الكُره ولم تُجرّب يومًا ان تكره سوى ذاتها، بالرغم من كُلّ ما جنتهُ من والدتها عديمة القلب لم تستطِع ان تكرهها وهذا أمرٌ مُحزِنٌ للغاية؛ كيف للمرء أن يمنح الناس ما لا يستطيعُ منحهُ لنفسه؟! لماذا لا تستطيع الغُفران لنفسِها والمُحاولة للتغيُّر للأفضل؟ لماذا تحتفِظُ بهشاشة الأجنّةِ الى الآن؟ لا يُمكِنُ لإمراةٍ بحنانِها ونقائها ان تحيا في هذا العالمِ القاسي.

فكّر أدهم بحُزن وهو يُحاوِلُ عبثًا التخفيف عنها ولكنّ الأمرَ اصعبُ ممّا يتخيّل، وبعكس ما يمُرُّ به أدهم وكاميليا كانت ريفال بالداخل تبكي فرحًا بعودة ابنتها التي منحتها الحياةُ أولى مصاعبها ولم يتجاوز عُمرُها اليوم الواحِد، بصعوبةٍ استطاعت السيطرة على مشاعرها المُنهارة خاصّة بعد رؤيتها للضمادة الصغيرة التي وضعها الطبيبُ على يد عِطر عقِب إخراج إبرة المُغذّي ولم يستطِع تهدئتها سوى عناق عطر التي عادت للبُكاء مُتشبّثةً بها ببراءةٍ لا مثيل لها وكأنّها قد علِمت بعودتها لأُمّها.

حينها هدأت تمامًا وانتفض قلبها بألمٍ لذيذ وأدركت أنّها أصبحت أُمًّا لهذه الدُمية الصغيرة التي ستغدوا يومًا فتاةً رائعة الجمال، خرج الجميع لتركهما تنعمُ بحُبّ طفلتها بينما لم يستطِع كنان تفويت فُرصة النظر لإبنته التي تتناول طعامها بنهمٍ عظيم بينما اغلقت ريفال عيناها بإنهاك مُستنِدةً على صدره بغية الراحة بعد كُلّ هذا العذاب ولكن تلك التساؤلات التي تطوفُ برأسِها تمنعها من السعادة برجوع عطر، وأوّل هذه التساؤلات:
- لماذا خانتني؟! ماذا فعلتُ لها لتطعنني بهذه الطريقة؟!.

همسها الحزين جعلهُ يُدرِكُ حديثها عن فاتِن فأجاب بأسف:
- ليس هُنالِكَ سببًا سوى الجشع، أو الكُره، وكِلاهُما لا يُغفران، أعلمُ انّكِ ستغضبين منّي ولكن يجِبُ أن أُبلِغ الشُرطة عن مُشاركتها بخطف عِطر.
نظرت إليه بإنزِعاج غير مُصدّقةٍ انّ صديقتها الوحيدةُ قد حاولت قتل ابنتها:
- يجِبُ ان اتحدّث إليها.

قالت بإصرار ليومئ بالإيجاب ويُقبّل جبينها قائلًا:
- ولكن ليس الآن، يجِبُ ان ترتاحي قليلًا لنعود لمنزِلنا.
وافقتهُ الرأي لتقول بعد صمت:
- إخبرني بما حدث، ارجوك، كيف انتهى الأمرُ بانتحار جُلنار؟! واين وجدتُم عِطر؟.
حكى لها كُلّ ما حدث باستِثناء وجودهم لعِطر في القبو فهمست بعبوس:
- لا أعلمُ ماهيّة شعوري تجاه موتها ولكنني لستُ سعيدةً كما تخيّلت دائمًا، بالتأكيد أخواتي لسنَ بخيرٍ الآن.

واتا أيضًا أشعُرُ بالأسفِ عليها، على العموم هي من اختارت هذا الطريق من البداية ولم تُلقي بالًا لبناتِها، هُنّ قطعًا لسن بخير وخاصّة كادي الصغيرة، أخشى ان لا تستطيع المُضيّ قُدُمًا بحياتِها بعد رؤيتها لذلك المشهدِ الفظيع.

إزداد حُزن ريفال فتنهّدت بأسى مُستسلِمةً للمساته الرقيقة على وجنتيها غير راغبةٍ بشيءٍ سوى نسيان كُلّ ما حدث، مرّ وقتٌ من السكون فظنّ انّها قد نامت إلاّ ان صوتها الخافت أنبأهُ بالعكس عندما قالت بإصرار:
- عطر يجِبُ ان تعيش مع عائلتها الكبيرة، لا أستطيعُ حِرمانها مما حُرِمتُ منهُ سابِقًا، يجِبُ ان نعود للقصر يا كِنان.

غزت السعادةُ فؤادهُ فإبتسمت بحنان ما ان همس بتردُد:
- هل انتِ مُتأكّدة؟ أعني إن لم تشعُري بالراحةِ لهذا القرار يُمكِننا ان نبقى بمنزِلِنا الخاص.
اجابتهُ دون تردُد:
- منذُ فترةٍ وانا أُفكّرُ بالأمر، عندما تُغادِرُ المنزِل أشعُرُ بأنني لستُ بأمان، ولكن بالقصر لن أكون كذلك لأنّ الجميع حولي ثُمّ إنني لن أستطيع الإطمئنان على عِطر بمكانٍ سوى القصر.

- ريفال!
- لقد وعدتُكَ ان أكون أُمًّا صالِحة، وهذا أول شيءٍ جيّدٍ أفعلهُ لإبنتي.
قالت بسُرعةٍ خوفًا من تزعزُعها عن قرارها ليلثُم فمها بشدّةٍ ويقول بإنزِعاج:
- لستِ بحاجة للتضحية لتكوني أُمًّا رائعة؛ فأنتِ بالفعل كذلك، ارجوكِ يا ريفال لا تؤلمي قلبي بهذا الحديث، انا احببتكِ كما انتِ وابنتكِ ستُحبّكِ بكُلّ عيوبكِ وستكونُ دائًما فخورةً بكِ كما أنا فخورٌ بكِ الآن.

قبّل منابِع دموعها وهمس بصِدق:
- أنا أسعدُ الرجال بالكون لأنّكِ إمرأتي وأُمّ طفلتي، حريٌّ بكِ الزهو بنفسكِ لأنّكِ أُنثى لن يُكرِرها الزمن، كونكِ ريفال ابنةَ عِطر، بائعة الحلوى، ومُثيرة المشاكِل هذا ما أوقعني على أنفي في حُبّكِ وهو السبب الوحيد الذي لا زال يُغرِقني أكثر بكِ، لذا يا حبيبتي انا من لن يسمح لكِ بمحو هذه الشخصيّة.

- عانِقني!
همست ببكاء ليُغرِقها ببحره بعناقٍ ذكّرها بأوّل مرّةٍ تُعانقهُ فيها، بيومِ ميلادِها الرابع عشر، كانت مُجرّد مُراهِقةٍ صغيرة ترسمُ وجههُ على دفاتر مُذاكرتها، بينما رسمها هو على سطح قلبه وعُمق روحه ولوّن بها حياته الباهتة.

.
.

- صباحُ الخير حبيبتي.
همس زين لزُمرُّد التي افاقت من نومِها بصُداعٍ عنيف جعلها تهمِسُ بعبوس وهي تجلِسُ بالأريكة المُقابِلة له:
- يبدوا انّني لن أكون بخيرٍ ما دُمتُ حيّة؛ فالمصائب لا تسقُطُ على رأسَ أحدٍ سواي.
اقترب ليجلِس بجانبها مُلتقِطًا كفّها بين يديه وقال بحنان:
- أعلمُ ان ما حدث كان صعبًا عليكِ ولكننا تجاوزنا ما هو أسوأ ولن نسمح لشيءٍ بأن يُعيدنا الى نُقطة البداية، أليس كذلك؟.

نظرت لعينيه التي تحمِلُ حُبًّا وحزمًا دفعا بالمزيد من الدموع لعينيها فألقت برأسِها على كتِفه وبكت بقهر وكلمات رضوان تترددُ على مسامِعها بإيقاعٍ مُزعِج جعلها تهمِسُ بإنهاك:
- أشعُرُ بالخجل مِن كُلّ ما يحدُث بحياتي؛ فكُلّ ما بنيتهُ من آمالٍ بحياةٍ أفضل ذهب مع الريح، ألا يكفي انّكَ تورّطت بالبقاءِ معي مدى الحياة، كيف سأرفعُ رأسي أمامكَ ولستُ سوى ابنةَ خطيئةٍ عابِرة؟!.

- يا إلهي! ارغبُ حقًّا بضربكِ!
همس بدهشةٍ وهو يحتويها وعاطِفةً عميقةً تجتاحهُ نحوها ليمنحها دفئ صدره جوًّا مُناسِبًا للبُكاء المُختلِط بالشهقاتِ المُعذّبة فتضع يداها حولهُ راغِبةً بالإختِباءِ من كُلّ أحزانها بينما شعر هو بالحياةِ تسري عبر شرايينه كنهرٍ دافِق فإحساسه بإحتِياجها لهُ وحدهُ كفيلًا ببثّ السعادةِ لروحه المُعذّبة:
- كيف لكِ ان تخجلي منّي وانتِ انقى من رات عيناي؟!

همس بزجر وارغم يداهُ على إبعادها قليلًا لتواجِه عيناهُ صدق كلماته عندما اكمل بحُب:
- لن أسمح لكِ ان تُقللي من شأنكِ لأجل أيّ أحد؛ فزوجتي الجميلة أفضل نِساءِ الكون وأكثرهُنّ حنانًا ورِقّة، وهذا يا حبيبتي ما يجعلكِ باكيةً طوال الوقت.
مسح وجهها المُبلل بالدمع ورسم قُبلتان صغيرتان على وجنتيها وأضاف بإفتِتان:
- هاتان الوجنتان يا حُلوتي لم تُخلقا للغرق بالدمع بل لا يحِقُّ لهما سوى التورُّدَ خجلا.

داعبت بسمةً رقيقةً ملامحها الحزينةُ وتسائلت بحِيرة:
- كيف لكَ أن تستطيع إسعادي بأحلكِ اوقاتي؟!.
اجاب وعيناهُ تلتهِمُ ملامِحها بتوقٍ لا نهاية لهُ سوى القصاص بقُبلةٍ تأخُذُ حقّ اعوامِ الكبت المؤلِمة:
- الامرُ بسيطٌ للغاية، لأنّي مُغرمٌ بكِ.
فغرت فمها زافِرةً هواءً حارِقًا زاد من جنون مشاعره العاصِفة بينما اتسعت عيناها ذات اللهيب الأخضر بدهشةٍ بريئةٍ وصادِقة تُساوِرها مع كُلّ كلِمة حُبّ من بين شفتيه وكأنّها لا تُصدّقُ كلماته او تستغرِبُ كمّ المشاعِر التي يكنّها لها.

الى الآن ثمّة حاجِزٌ لم يستطِع كسره بينهُما، تبدوا مُتلعثِمة للغاية ولكن عيناهُ الخبيرةِ تُدرِكُ لمعة الرغبة الخجولة بحدقتيها ولكن تلك الرغبةُ مخضّبةٌ بالخوف والتردُد، ليتهُ يستطيع إزالة ذلك الخوف عن روحها ليُريحها من تعب هذه السنين.
- سأصنعُ قهوة، لكِلينا.

همست بارتِباكٍ شديد وهي تدفعهُ قليلًا ليفكّ وِثاق عيناه عنها فتُسرِعُ للمطبخ هربًا وخوفًا وخجلا من كُلّ ما يمنحهُ لها من مشاعِر بينما بقي هو سارِحًا بطيف أُمنياته البائسة، لقد بدأ اليأسُ يتسللُ الى قلبه؛ الى متى ستصُدّهُ بهذه الطريقة؟ والى متى سيتستطيعُ كبح مشاعره التي تعصِفُ بدواخله بجنونِ مُراهِقٍ يُجرّبُ لذّة العِشق للمرّة الأولى؟!

.
.

دلفت ريفال لغُرفة رضوان فور وصولها للقصر وتبِعها كِنان حامِلًا عِطر بين ذراعيه، ابتسم رضوان بوهن غير مُصدّقٍ حفيديه الى القصر الذي أوشكَ على الإطباق على انفاسه لخلوّهم عنه، كان مُتابِعًا لما يحدُث ولكن صحته لم تسمح لهُ بالخروج من المنزل ولكن ها هي اولى فتيات الجيل الثالث من عائلته تُجلبُ امامه، والأكثر سرورًا انّها ابنة كِنان، الحفيد الأحبّ الى قلبه.

رفع يديه بسعادة ليضعها كنان بين ذراعيه، ابتسم لرؤية عيناها الصغيرتان وهما تُطالِعان للأعلى بشرود ومرّر انامِلهُ المُجعّدةُ على جُمجُمتها الرخوة المُغطّاة بزغبٍ أشقر اللون وكأنّها ستحمِلُ شعر ووالدتها.
- قولي مرحبًا لجدّكِ يا عِطر.
همس كِنان وهو يُمسِكُ بكفّ الصغيرة فنظر إلي كنان بدهشة لتقول ريفال بزهو:
- عِطر كِنان رضوان، حفيدة بائعة الحلوى التي دمّرت حياتها، ها هي ستجلِسُ بمُنتصف قصرك، بل وستكونُ حبيبةَ كُلّ افراد عائلتك.

ابتسم واشار لها بالإقتراب منهُ فاخذ كنان عِطر لتجلِس هي بجانبه فيُمسِك بكفّها بين يديه الواهنتين ويُقبّلهُما ليسقُط دمع اعتذاره سخيًا على يدها قبل ان يُعانِقها قائلًا بندم:
- سأظلُّ آسِفًا طوال حياتي على عدم معرِفتي بكِ من قبل.
قبّل جبينها وأضاف بابتِسامةٍ حزينة:
- مرحبًا بكِ بمنزِلكِ وعائلتكِ، اتمنّى ان تُهديكُما الحياةُ افراحها وتحجِبُ عنكُما شرورها، سأدعوا الله ان لا يخيبُ حُبّكُما ولا تخبوا شرارته.

ابتسمت ولم ترُدّ على كلماته مُدرِكةً انّها لن تستطيع تزييف مشاعِرها وبحياتها لن تستطِع مُسامحتهُ وإن كان على فِراش الموت، ومجيئها لرؤيته ليس سوى للإنتقام لوالدتها بطريقةٍ سلميّة.

.
.

بغُرفة كادي تجلِسُ كُلّ من غصون وكاميليا بجانب أُختِهما التي لم تنهار كما توقّع الجميع بل لم تسقُط دمعةً من عينيها وتعاملت وكأنّها تمُرُّ بأيامٍ عاديّة ببرودٍ وانعزال كما عهِدها الجميع، مما جعل إخوتها يخافون كثيرًا على احتمال إصابتها بصدمةٍ عصبيّة، حاول والدها عرضها على طبيبٍ نفسيّ ولكنّها رفضت قائلةً أنّها بخير ولا تُعاني من شيء وعندما حاول جعل الطبيبة تأتي الى المنزِل جُنّ جنونها وهددت بالهرب من القصر.

نظرت الى أُختيها اللتان ترتديان الأسود بينما ترتدي هي بيجامةً رماديّةً باهِتة وقالت بإنزِعاجٍ حقيقيّ:
- كاميليا غادري لمنزِلكِ وانتِ يا غصون إذهبي لغُرفتكِ من فضلِك، أرغبُ ببعض الخصوصيّة بغُرفتي ولا أُريدُ ان أُغلِقها عليّ لكي لا تظُنّوا انني أذيتُ نفسي، لذا إغرُبا عن وجهي.

- من تظُنّي نفسكِ يا فتاة؟ الى متى ستظلّين عديمة أدبٍ مع الجميع؟! إنّهُما أُختاكِ الكبيرتان ولا يجوز ان تتحدّثي إليهِما بهذه الطريقة.
قال أوس الذي دلف على صوت هُتافها الحاد لتقترِب منهُ وتقِف امامهُ رافِعة اصبعها امام وجهه قائلةً بخفوت:
- انتَ لا تتدخلّ، واخرُج من غُرفتي حالًا.

اقترب منها بشدّة الى ان لامس اصبعها صدره فإنحنى لقامتها القصيرةُ قائلًا بسُخرية:
- أتدري ان بإمكاني حملكِ بيدٍ واحِدة وقذفكِ من هذه الشُرفة؟
إلتفت لغصون وكاميليا وقال:
- غادِرا من فضلِكُما، لا تقلقا سأبقى معها قليلًا.
نظرت إليه كاميليا بتردُد قبل ان تُغادِر برفقة غصون لتقول كادي وهي تدفعهُ بقوّة:
- وانا لا أرغبُ بأن تبقى معي، ما هذا البرود؟.

قهقه ولم تُزعزِعهُ دفعتها شِبرًا عن مكانه فزفرت بضيق قبل ان تُعاود الجلوس على الأريكة السوداء المُماثِلة لأثاث غُرفتها الكئيبة التي لا تليقُ بمُراهِقة بمُقتبل العُمر.
جلس بجانبها وكساهُ الصمت لبِضع دقائق حاول فيها ترتيب كلماته ولكن ما فاجأهُ هو تلك الدموع التي سقطت على وجنتيها على حين غُرّةٍ من حوار نظراتِهما، سارعت بمسح دموعها والتفتت بعيدًا عنهُ وقالت بمرارة:
- ليس هُنالِكَ داعٍ لتُمثّل انّكَ حزينٌ لأجل موتِها، وانتَ تُدرِكُ انني لستُ حزينة لذا ليس هُنالِكَ داعٍ لهذه الكآبة.

- أعلم، انتِ حزينةً على نفسكِ، يؤلِمُكِ الشعورُ بالسوء الذي خلّفتهُ بداخِلكِ، ترغبين بنسيانها من حياتكِ والبدء من جديد ولكنّ من حولكِ لا يفهمون.
- يبدوا انّ جيناتنا تتوافق أكثر من اللازِم.
قالت بإبتِسامةٍ حزينة ليضُمّها إليه قائلًا بعطف:
- لستِ بهذا السوء، فقط عليكِ ان تعيشي سنّكِ، انتِ صغيرة للغاية يا كادي وكُلّ ما احتفظتي بهذه الطفولة ستكونين بخير، ما رأيكِ أن أصطحِبكِ انتِ وورد الى الملاهي، ستستمتِعان بكُلّ تأكيد.

- أتُحبّها؟
فاجأهُ سؤالها ولكنُهُ أجاب بصِدق:
- نعم، وسأتزوّجها ما ان أُنهي دراستي الجامِعيّة.
- جيّد، إذن خُذها واستمتِعا سويًّا فأنا لا أُحِبُّ تلك الأجواء.
- ستأتي رُغمًا عنكِ، سآخُذكُما بالدرّاجة البُخاريّة.
ظهر الفزعُ على ملامِحها وقالت بحِدّة:
- اخرُج حالًا أوس رضوان.
- تُصبِحين على ما تتمنّين أُختي الصغيرة.
قهقه وقبّل وجنتيها قبل ان يخرُج وقد منحتهُ لحظات الوجود معها تسليةً افتقدها طويلا.

.
.

مرّت فترة ليست بالقصيرة على تلك الحادثة وعادت عائلة الملوك للهدوء بعد احترام قرار زُمُرُّد بعدم البقاء في القصر والاستقرار برفقة زوجها وابنتها بمنزلهم الخاص بينما بقِيت بوران بالقصر ولا زالت علاقتها بزُمرُّد مُتذبذِبة، وضعت ريفال عطر بين يدي جدّها الذي اصطحبها لغُرفته لتؤنِس عُزلته التي اتخذها منذُ موت جُلنار.

شعرت برغبةٍ بالرسم فإتجهت للدُرج المُلحق بمِرآة تسريحتها وأخرجت أوراقها البضاء المطويّة بعناية وقلم الرصّاص الكئيب الصديق لخطوط ملامح الوجوه الحزينة التي ترسِمها منذُ الصِغر، جلست على الأرض بعد ان رفعت خُصلاتها المجعّدة على شكل كعكة كثيفة للأعلى وما ان انحنت وامسكت بقلمها سقطت دموعها على الورقة.

كوّرتها بعنف وألقت بها بعيدًا وكلمات فاتن -التي قالتها في آخرِ لِقاءٍ لهُما- لا زالت مرارتها عالِقةً بقلبِها:
- طوال حياتكِ وانتِ مُنافِقةً كبيرة، ما ان ماتت والدتكِ حتّى احببتي لعِب دور الأُنثى المسكينة التي تُضحّي بكلّ شيءٍ لأجل أخوتها ولكن الحقيقة كانت مُغايرة تمامًا لما يراهُ الجميع؛ فإن كانت هذه غايتكِ كُنتِ سمحتي لجوان بإكمال دراستها وانتِ مُدرِكةً لتفوّقها الدراسيّ الذي لا يُمكِنكِ تحصيل رُبعه، ولكنكِ بكُلّ بساطة قتلتي كُلّ أحلامها ودفنتِها بداخل أومِركِ وتسلُّطكِ.

قاسيةً، ووقِحة، ولا يُعجِبكِ شيء، تتحكّمين بكُلّ من حولكِ غير مُراعيةٍ لعُمر أُمّي التي انتهي بها الأمرُ عبدةً لديكِ، تفعلُ كلّ ما تُمليه عليها لأنّها بحاجةٍ للعمل ولأنها تُحبُّ والدتكِ ولكنكِ بكُلّ مرّةٍ تتمادين أكثر، حاولتُ كثيرًا ان لا أكرهكِ ولكنني فشلت، ما ان دخل كنان لحياتكِ وتزوّجكِ وانتِ بعالمٍ آخر، لقد احببتي المال والجاه وظننتي اننا اغبياء لنصدّق كُرهكِ لمن حولكِ؛ فبأوّل فُرصةً لكِ غرستِ نفسكِ بقلب العائلة.

ريفال تزوّجت وذهبت لشهر العسل، ريفال حامل ولا تستطيع العمل، ريفال ممنوعة من الحركة، ونحنُ نعملُ ليل نهار لتأتي ريفال وتُعطينا بِضع قروش وتأخُذُ هي النصيب الأكبر.
عادت لواقعها المُرّ وأدركت انّ جُرحها من فاتِن لن تستطيع الأيام ان تُشفيه، فهي لم تُحاوِل قتل ابنتها بل قتلت ثِقتها بكُلّ من حولِها، بسببِها فقد رغبتها بالشيء الوحيد الذي تُجيدُ فِعلهُ في الحياة.

لم تعُد قادِرةً على صُنع الحلوى فكُلّ قطعة سُكّرٍ تُعيدُ إليها ذكريات "سُكّر غامق" الذي تنازلت عنهُ لفاتن وعائلتها بالرغم من رفض جميع من حولها لقرارها إلاّ انّها كعادتها رمت بحديث الجميع عُرض الحائط مُتأكّدةً انّها لن تستطيع العمل معهم بعد الآن لسبب بسيطٍ وهو انّها عندما تكرهُ أحدًا ستؤذيه بشدّة وستأخُذهُ بذنب كُلّ من حوله لذلك لا يُمكِنها الإساءة للسيّدة نور الطيّبة وزوجها الحنون وقد ارادت ان ترُدّ الصفعة لفاتِن بإهداءها ما ترغب من أموال مُدرِكةً انّها ستعلمُ عمّا قريب انّ الصداقة لا تُشترى بثمن وحينها لن تُسامِحها أبدا.

زفرت بضيق وهي تنهضُ عن الأرض ماسِحةً دموعها بعُنف، ذهبت لغُرفة جوان التي تُجهّزُ لالتحاقها بكُلّية إدارة الأعمال بأحد الجامعات المُهمّة بالبِلاد، ابتسمت جوان التي كانت تستعِدُّ للنوم وعانقت ريفال قائلةً بحُب:
- مسائكِ سُكّر يا فتاة، هل نامت المُشاكِسة الصغيرة؟
- لم تنم بعد، سأذهبُ بعد قليل لأجلِبها من غُرفة والدي.

قالت وهي تأخُذُ عنها فرشاة الشعر لتُملّس خُصلاتها بعطفٍ أُموميّ طالما ساورها تجاه جوان الصغيرة، وأضافت بتهكُّم:
- سيّد كِنان لا يستطيعُ النوم من بُكاء عِطر لذا يُغرِقُ نفسهُ بالعمل الى ان يهلك نُعاسًا وحينها فقط لا يستمِعُ لوصلات بُكائها الليليّة.
- لا بأس يا حبيبتي، الأطفال مُتعِبون في البِداية ولكن عندما يكبُرون يكونون غايةً في الروعة، ريفال لماذا كُنتي تبكين؟!

باغتتها بالسؤال لتتواجه عيناهُما للحظةٍ كانت كافية بمنح جوان الإجابة دون ان تنطِق بكلِمة لتلتفِت إليها قائلةً بإنزِعاج:
- ريفال أُختي لن تُوقِفي حياتك لأجل سببٍ تافِه، وانا لن اسمح لكِ بالعزوف عن العمل، إن ظننتِ انّ دراستي تعني ترك المتجر ستكونين مُخطِئةً للغاية.
نظرت الى عيني ريفال بإصرار وقالت بثِقة:
- سنبدأُ من جديد، أنا وانتِ وعِطر، سنصنع الحُبّ مع السُكرّ الغامق، سنُهدي أيامنا لذّة العسل ولن نستسلِم أبدا.

تنهّدت بأسى ولا زالت غير قادِرةٍ على اتخاذ قرارها حول العودة للعمل ولكنّها لم تشأ ان تُحزِن أُختها فهمست بحنان:
- انتِ بالنِسبةِ لي أكثر اهميّةً من ألف متجر، أرغبُ فقط بأن أراكِ فتاةً ناجِحة واجمل زوجةٍ بالكون، بحياتي لن أُسامِح نفسي على السنين التي ضاعت من حياتَكِ بالعملِ معي.
منعتها عن الإعتراض وهي تتلمّسُ خُصلاتها الشقراء الناعمة وأكملت بمرارة:

- لم أُفضّل أوس عليكِ ولكنني لم أرغبُ بأن أجعلهُ كأبناءِ حارتنا المُقسّمين بين الإجرام والسجون، كنتُ مُتأكّدة انني لن أستطيع السيطرةَ عليه ما أن يكُبر ولكن عندما يتعلّم ويلتحِقُ بالجامِعة لن يضطرّ ان يسرِق ليجلِب المال بل سيعمل ويجتهِد ليُعيلنا ما ان نحتاجه.

رغِبتُ بأن يكون شخصًا مُهمًّا في هذا العالمِ الكبير لنستنِد عليه، وأُقسِمُ أنني تمنّيتُ أن أستطيع إدخالكِ للجامِعة ولكن مُتطلّبات أوس كسرت ظهري، كُنتُ أعمل ليل نهار وتتعاظمُ غصّة ألمي عليكِ كُلّما رأيتُ نظرة الحُزن بعيناكِ عندما ترين صديقاتكِ الملتحِقات بالجامعة، حديث فاتن صحيح، لقد كُنتُ أنانيّةً للغاية معكِ.

- لم تكوني يومًا انانيّةً معي، أنتِ أُمّي وأُختي وعائلتي، لو أهديتكِ روحي ستكونُ قليلةٌ على ما فعلتيه معي؛ فقد كان من السهل ان تبعثيني لأيّ ملجأ او تطرُدينني بعد موت خالتي ولكنّكِ أفنيتي حياتكِ لأجلي، كيف لي أن أنسى ملمس يداكِ على رأسي وسهركِ عندما أمرض، وكيف لا أذكُرُ عدد الفتيان الذين ضُرِبوا على يدكِ دفاعًا عنّي.

همست وهي تحتضنها بقوّةٍ وتنتحِبُ بوجع قبل ان تُكمِل بإبتِسامةٍ حزينة:
- أتعلمي يا ريفال، أنا لا أذكُرُ وجه أُمّي ولا أحتفِظُ بالكثير من الذكرياتِ مع خالتي ولكنّكِ الوحيدة التي عندما أنظُرُ لأيامي القديمة أراها مُمسِكةً بيدي، لذلك بحياتي لن أفترِق عنكِ، سنشيبُ سويًّا ونُعلّم أطفالنا ان يُصبِحوا إخوةً مِثلنا.

ابتسم أوس وعيناهُ تلمعُ بالحُبّ والامتنان وهو يرى من شكلن حياته وعلّمنهُ احترام النِساء، بحياته لن يستطيع ردّ ما منحنهُ إياهُ من حياة، ولن يستطيع سوى ان يحرص على ان لا تُفارِق السعادةُ حياتهُما.
- لن يكونوا إخوةً مثلنا.
إبتعدت الفتاتان عن بعضِهما البعض ونظرن لأوس الذي أكمل حديثهُ مُقترِبًا مِنهُنّ:
- ابناء ريفال سيعقون بغرام بناتكِ الشقراروات انا مُتأكّدٌ من هذا.

قهقهت جوان عندما جلس بينهُنّ وسحبهُما في عناقٍ قويّ لتهمِس ريفال بمرح:
- إبتعِد يا فتى؛ لقد اختنقنا!
- أُحبُّكُما! ماذا أفعل لقلبي المُرهف، لم أستطِع تحمُّل عدم عناقكُما.
ابعدهُما عنهُ قائلًا بصرامة:
- لا تبكيان مرّةً أُخرى فقد أُشارِككُنّ الدموع بالمرّةِ القادِمة.

مسح على وجهيهِما بعشوائيةٍ لتقول جوان موجّهةً حديثها لريفال:
- بالمُناسبة غدًا عيد زواجِكُما، ما هي خُططكِ للأمر؟ هل جلبتي هديّة لكِنان؟.
- حقّا؟ لم أذكُر الأمر من الأساس، ثُمّ أنتُم تعلمون انني لا أُحِبُّ الإحتفالات، وهو من يحِقُّ عليه جلب هديّةٍ لي؛ ألا يكفي أنني انجبتُ لهُ فتاةً كالقمر.
- مسكين كِنان، مُتزوّجٌ بضابط شُرطة وهو لا يدري.

همس أوس بأسف لتقول ريفال بزهو:
- ضابط شُرطة أو حارس مدرسة، يموتُ لأجلي في الحالتين.
- بالطبع سيفعل.
قالت جوان مؤيّدة لها فقال أوس:
- فليعين اللهُ كِنان وشِهاب عليكُما.
إحمرّ وجهُ جوان بحياء ما أن مرّت حروف أسم شِهاب على مسامِعها وشردت بما فعلهُ بالفترةِ الماضية، فأخيرًا قد طلب يدها من أوس الذي وافق بعد تمنُّعٍ وشروط، وبعد إسبوعين ستتِمُّ خِطبتهُما.

- انظر الى وجهِها ما ان ذكرنا خطيبها المُنتظر، أتُحبّينهُ لهذه الدرجةُ يا فتاة؟
قهقه أوس مُجبِرًا إياها على النظر لوجهها فهمست بإنزِعاج وازدادت حُمرةُ وجنتيها:
- هيا اخرُجا من غُرفتي.
- لا أُصدّق أنّ جوان الصغيرة التي استمتِعُ بشدّ شعرِها ستتزوّج عمّا قريب.

قال بمرح وهو يقرِصُ وجنتيها بينما عادت ريفال للضحك ما ان تشاجرا كعادتِهما وظلّت تنظُرُ إليهِما بحُبّ مُدرِكةً انّ العالم أجمع لا يُساوِي لحظةً بجانبها، وان كُلّ أحزان الحياةِ تزولُ برؤية ابتسامتِهِما.

.
.

تقدّمت ورد وجلست بجانِب زين على طاوِلة الإفطار بينما خرجت زُمُرّد حاملةً آخِرُ اطباق البيض والنقانق التي تعلّمتها بمُساعدة ورد التي بقِيت برفقتها طوال الفترةِ الماضية، وضعت أفضل الأطباق أمام زين ووقفت بجانبه كطالبةٍ نجيبة ليبتسِم قائلًا:
- يبدوا طعامًا لذيذًا، سلِمت يداكِ حبيبتي.

- لا تُجامِلتي أرجوك، أرى انّهُ ليس جميلًا كما تصنعهُ انتَ وورد.
قهقت ورد قائلة:
- إجلِسي يا أُمّي، لن تهرُبي مِن بين أيدينا إن لم يكُن لذيذ.
جلست وهي تُراقِبهُما بقلق، قضم زين قِطعةً كبيرةً وأخذ يمضِغُها دون ان يظهر شيئًا على ملامحه امّا ورد فقد سعلت غير قادِرةٍ على تحمُّل ملوحة الطعام، سكبت إليها بعض الماءِ فإرتشفتهُ ناظِرةً لزين غير قادِرةٍ على التعليق ليحذوا حذوها مُرتشِفًا القليل من الماء وقال بإبتِسامة:
- بداية جيّدة ولكنّكِ أكثرتِ قليلًا من المِلح.

- يا إلهي، آسِفة للغاية، لا أعلمُ كيف نسيتُ وأضفتهُ مرّتين.
اعتذرت بحرجٍ عظيم ليقول زين بحنان:
- لا بأس؛ ففي المرّةِ القادِمة ستكون أفضل من هذا، ثم انني سأتناول السم من بين يديك ولن اعترض.
- سأذهبُ لأُحضّر طعامًا آخر، وأكمِلا أنتُما حديثكُما الغرامي.

قالت ورد وهي تدلِفُ للمطبخ ونهضت زُمُرُّد بِغية اللحاق بابنتها إلّا انّ كفّ زين أجبرتها على الجلوس بين قدميه لتهمِس بزجر:
- زين! ما الذي تفعله، أترُكني أرجوك.
- لن أترُككِ.
قال بجِدّية وإحدى يداهُ تستقِرّان على خصرها مانِعًا إياها من النهوض، لتهمِس برجاء:
- الفتاة ستأتي بعد قليل، لا تُحرِجني أرجوك.

- لن أفعل يا زُمُرُّد، يجِبُ عليكِ إزالة مرارة المِلحِ عن فمي، وبعدها قد أُفكّر بترككِ.
- تناول هذا البُرتُقال وتهذّب من فضلِك.
تلوّت بإنزِعاج وهي تُشير لكوب البُرتُقال الموضوع امامه فقال وشفتاهُ تقترِبان من فمِها:
- أُريدُ سُكّرًا مِنكِ أنتِ، أشتاقُ لطعم قُبلتكِ الوحيدة التي اقتلعتها عنوةً قبل أعوام، لقد تعِبتُ من انتظار الحُبّ منكِ، أنا أُريد يا زُمُرُّد ولا شيءَ بالكون سيقِفُ بطريق رغبتي بكِ.

- هل جُنِنت؟!
صفعتهُ وهمست برُعب ما ان حاول تقبيلها ويداهُ تتمادى بلمس جسدها فتركها مصدومًا بردّة فعلها العنيفة التي ذكّرتهُ بذات التقزُز الذي شعر به ما ان قبّلها قبل خمسةِ أعوام ودفع حينها ثمنًا باهِظًا بفُراقِها عنهُ لفترةٍ طويلة لدرجة انّها رفضت في البداية البقاء معهُ عندما جاءا للبلاد لأوّل مرّة بعد هروبهما.

نهضت مُبتعِدةً عنهُ وقلبها ينتفِضُ بخفقاتٍ عالية بينما قدماها غديا كالهُلام، ودهشةً وندمًا يجتاحا قلبها غير مُصدّقةً أنّها صفعت زوجها للمرّة الثانية بعد ان ظنّت انها ستكونُ لهُ ما أن يقترِب مِنها، ترقرق الدمعُ على وجنتيها وحاولت الاعتِذار إلّا انّ لِسانها عصاها وهي ترى ملامِحهُ المُحتدّة التي قلّما تشهدُ بروزها وللحظةٍ ظنّت أنّهُ سيرِدُّ إليها الصفعة عشرٍ ويُجبِرها على أخذ حقّه مِنها إلاّ أنّهُ نهض مُبتعِدًا عنها وكأنّهُ لا يراها وصفع خلفهُ الباب بعُنفٍ جعل ورد تخرُجُ من المطبخ وما ان رأت والدتها ساهِمةً تنظُرُ الى سيّارة زين التي تحتكُّ بالأرضيّة بصوتٍ مُزعِج أدركت انّ والدتها افتعلت شيئًا فظيعًا وقبل ان تسألها وجدتها تُتمتِمُ بصدمة:
- لقد صفعتهُ! لن يعود هذه المرّة، لن يعود!
عانقتها قائلةً بحنق:
- ما الذي فعلتيه يا أُمّي؟!

.
.

بيوم الذِكرى الأولى لزواجِهما ظنّت ريفال ان كِنان سيحتفِلُ بها بطريقةٍ لطيفة ولكنّهُ لم يهتم للأمر بل لم يتذكّرهُ حتّى، ظلّ مزاجها سوداويًّا الى ان أتى المساء وما ان أغلقت عيناها بتأفُف من بُكاء عطر رنّ هاتِفها مُنبِئًا عن اتصال كنان فردّت قائلة بإنزِعاج:
- نعم يا كِنان، أليس من المُفترض ان تكون في الطريق للمنزل، لا تبكِ يا عِطر لأسمع حديث والدكِ.
ابتسم كنان قائلًا بحُب:
- حبيبة أبيها تفتقِده، قبّليها لي بشدّة الى ان أعود.

- اختصِر سيّد كِنان فأنا لست ُبمزاجٍ للحديث.
قالت بتأفُف ليضحك ناظِرًا الى هديّتها التي أخذ فترةً طويلةً لتجهيزها لها وحان الوقت لتراها وقال بصرامةٍ مُصطنعة:
- نحنُ يجِبُ انت نلتقي الآن، سيأتي شِهاب ليجلِبكِ إليّ، وقبل ان تعترضي على عدم قدومي ستعلمين كلّ هذا ما ان أراكِ.

اغلقت الهاتِف ولا تدري كيف مرّت الدقائق التاليةُ لتجِد نفسها برفقة شِهاب ويبدوا انّهُما مُتّجِهين لطريق الشرِكة التي يعمل فيها كنان، وما ان وصلا امام الشرِكة ترجّلت وتقدّمت منه بثوبها الزهريّ اللامِع ذو الكريستالات السوداء الصغيرة والتصميم الجريئ بالرغم من إتساعه اللطيف وقد بهتت أطراف خُصلاتها العسليّة لتغدوا شقراء ثائرة، تقدّمت منهُ وابتسمت رُغمًا عنها لنظرة عينيه المُشاغِبة، ارتفعت على اطرف أقدامها بحذائها الرياضي الطفوليّ وقبّلت شفتيه قائلةً برِقّة:
- كنتُ سأغضبُ للغاية إن لم تذكُر هذا اليوم.

غادر شِهاب بعد ان همس بتذمُّر:
- ليت جوان تحمِلُ القليل من جُرأة اُختها، على الأقل كنتُ لأُقبّلها.
- كيف سأنسى أجمل ليلةٍ بحياتي.
قال وهو يُقرّبها منهُ بشوقٍ عظيم لتقول بضحكة:
- على الأرجحِ انّهُ أسوأُ عامٍ بحياتِك، أعلمُ انني كِدتُ ان اتسبب لكَ بجلطةٍ دماغيّة.

وضع كفّيه على عينيها وهمس بجانِبُ اُذُنيه بخفوت:
- صحيح أنني كِدتُ ان أُجنّ بسببكِ ولكنني أُحبّكِ، ماذا سأفعلُ لقلبي المسكين، هيا إستديري ببُطء، وانظُري للأعلى عندما أُزيلُ يداي، ستجدين هديّةً مِن عِطر وابيها، وبما انّها هديّةً منّا نحنُ الإثنين لا يحِقُّ لكِ رفضها.

التفتت للجِهة المُقابِلة للشرِكة، ابتسمت بحماس وما ان ازال كنان يداهُ أُضيئ المبنى المُقابِل بألونٍ تخطِفُ الأنفاس ليتجلّى أسم "سُكّر غامق" على واجِهةٍ كبيرة تنبِضُ بالروعة، وقبل ان تُعبّر عمّا يجوب بخاطِرها أضاف كِنان برِقّة:
....

.
.

ثلاثة أسابيع وهي تتقلّبُ على جمر الألم، ملّ الدمعُ عيناها وبُحّ صوتها من النحيب ولا زال بعيدًا عنها، زين رجُل حساس للغاية وهي تُدرِكُ ذلك جيّدًا لذا من المُستحيل ان يراها بعد ان رفضتهُ للمرّة الألف بكُلّ انانيّة، لقد جرحت رجولتهُ واهانتهُ كثيرًا وبالرغم مِن ذلك ظلّ يُعامِلها كطِفلةٍ لا يهتمُّ لزلّاتها ولكنّها تمادت كثيرًا ونست أنّ مشاعره لها حدّ تحمُّل وهي تعدّت هذا الحدّ منذُ سنين.

اغلقت عيناها بوهنٍ عظيم وهي تجلِسُ بغُرفته تُشبِعُ فراغ قلبِها برائحته مُتمنّيةً أن يعود وستركعُ حينها تحت قدميه طالبةً العفو والسماح؛ فلا يُمكِنها ان تحيا من دونه، ولن تسمح لهُ بالذهاب.

اثناء غرقها بالتفكير فيه سمِعت صوت سيّارته التي من الشوق بات صوتها كنغم نايٍ حزين على مسامِعها، ركضت بخطوات عاشِقةٍ أضناها الوله لحبيبها وما ان وجدتهُ يدلفُ بوقاره المُعتاد لم تستطِع كبح نفسها عن التشبُّث بعُنُقه لتضُمّهُ الى قلبها بتوق أُمّ تجِدُ طفلها بعد ضياع، ابعدها عنهُ بجفاء وقال بصوتٍ هادئ:
- نحنُ يجِبُ ان ننفصِلُ يا زُمُرُّد...

~~~~~~~~~~~~~~~~~~

مرحبا
مرأيكُم بالبارت؟
والأحداث الى الآن؟

اعتذر بشدّة عن تأخُر التنزيل ولكن أردتُ ان يكون الفصل قوي لأنّهُ الأهم على الإطلاق، اتمنّى ان يكون بالمستوى المطلوب.

ثمّة بعض الحقائق المبتورة التي سيتم إيضاحها بالفصلين القادمين.

هل تظُنّون ان ريفال ستقبل هديّة كنان؟
ماردّة فعل زمرد حول حديث زين؟

سنرى هذا في الفصلين القادمين.

.
.
.
.
.
..
...
مع حُبّي💙💙💙

.
.
.
.
..
...
فايا

Continue Reading

You'll Also Like

2.1M 44K 72
نتحدث هنا يا سادة عن ملحمة أمبراطورية المغازي تلك العائلة العريقة" التي يدير اعمالها الحفيد الأكبر «جبران المغازي» المعروف بقساوة القلب وصلابة العقل...
448K 37.2K 15
في عالمٍ يملأهُ الزيف غيمةً صحراويةً حُبلى تلدُ رويدًا رويدًا و على قلقٍ تحتَ قمرٍ دمويْ ، ذئبا بشريًا ضخم قيلَ أنهُ سَيُحيى ملعونًا يفترسُ كلُ منْ ح...
2K 560 35
مدين هذا العالم بإعتذار لكل نسائه عن العبث اللئيم الذي يحدث معهم، ولكن من الألف إلى الياء ستظلّ الأرض و السماء ممنونة لوجود النّساء. نُشرت في: 2/7/20...
908K 33.2K 39
فتيـات جميلات وليالــي حمـراء وموسيقـى صاخبة يتبعهـا آثار في الجسـد والـروح واجسـاد متهالكـة في النهـار! عـن رجـال تركوا خلفهم مبادئهم وكراماتهم وأنس...