سُكّر غامِق

By xxfayaxx

384K 16.5K 8.8K

ذات العينان الغائمتان تحمِلُ قلباً نقيّاً بروحٍ مُشوّهة وقد ظنّت انّ الحُبّ ابعدُ ما يكون عن قلبها المُرتعِد... More

تشويقة
لعنة رضوان
ابناء ايمن
تتزوجيني ؟
نيران الانتقام
وعود
وجع القلوب
مشاعر غريبة
قبلة و هروب
غالية
اشواك الورد
سيد خجول
زُمُرّد
ما قبل العاصفة
حقائق
ارواح تائهة
تعاويذ القدر
طوفان
وجوه الحب
سقوط
تعب
تشتت
طفولة
حب وحرب
رجال العشق
عذاب
عِطر
بدايات ونهايات
توق
أقدار العمر
النهاية (عبق الماضي)

وصية

8.9K 416 128
By xxfayaxx

بداخل غُرفةٍ يغلبُ عليها لون القهوة يستلقي كريم على الفِراش وعيناهُ الدعجاء تتأملّ السقف بشرود، يغرقُ ببُطء في بحرٍ من السواد، يشعُرُ كأنّهُ طفلٌ صغيرٌ يُخلقُ مِن جديد، صفحة خالية من ايّ كتابة، لا يدري عن نفسه شيئًا سوى ما قالوهُ له، اسمهُ كريم جواد رضوان، في السادس والعشرون من العُمر، أحد أحفاد رضوان فؤاد أكبر، الرجُل الأكثر غِنىً بالبلاد أجمعها.

العديد من المعلومات التي انهالت عليه بلحظةٍ واحدة لتُربِك حواسه وتُلعثِم طفولة حياته الجديدة، صُداعٌ عنيفٌ يجتاحُ رأسه كُلّما حاول التفكير بالماضي وكأنّهُ قد تلاشى خلف اللاعودة، تنهّد بأسى ليقطع سكون شروده طرقات خجولة على باب غرفته:
- تفضّل.

همس بصوته ذو النبرة التي لا يذكُرها لتدلِف تالين هامِسةً بإبتِسامةٍ حزينة:
- مرحبًا كريم، كيف حالك اليوم.
نهض مُعتدلًا بجلسته وعينيه تتفحّصانها بدقّة في مُحاولة لتذكُر أيّ لمحةٍ من الماضي عنها ولكن بِلا فائدة، تبدوا فتاةً رقيقة للغاية بذلك الوجه الدائريّ المُشِعّ بالبراءةِ كطفلٍ صغير، عيناها واسِعتان للغاية بلونهما الازرق الداكن المُلفِت للنظر، تأمّل ثوبها الابيض -المُزيّن بورودٍ زهريةٍ صغيرة- وقد التصق ببطنها المُمتلِئة بخجلٍ لا يليقُ بأشهُر حملِها الخمس، كان على وشك سؤالها عن لون شعرها المُنسدِل على كتِفها الأيمن بعفوية ولكنّهُ تراجع هامِسًا بتلعثُم:
- مرحبًا تالين، انا بخير، ماذا عنكِ، اعني هل انتِ والجنين بخير؟.

بقي واقِفًا مكانه لتقترِب منهُ وقلبها يخفِقُ بسُرعةٍ غريبة زادت من حركة الجنين بداخلها، فهمست بحُبّ عظيم:
- نحنُ بخير بوجودك.
ارتسمت بسمةً صغيرةً على شفتيه وهو يواجه نظرتها المُشتاقة، فزلّت عيناهُ على معدتها لتهمِس وغصّة الدمع تتكونُّ بحلقِها:
- إنّهُ يتحرّك، أترغبُ بلمسه.

بدى التردُّد جليًا على ملامحه الشفّافة غير قادِرٍ على التأقلُم مع حقيقة زواجه وابوّته عمّا قريب، تراجعت تالين مُجاهِدةً لإخفاء دموعها وقالت بخفوتٍ حزين:
- لا بأس، انا فقط جِئتُ لأُخبِركَ بأنّ العشاء جاهِز، ينتظِرونك بالأسفل.
خرجت دون ان تسمع ردّه ليمسح على جبينه بإنزِعاج وشعورٌ مريرٌ يجتاح قلبه بينما سارت هي بضع خطوات لتدلِف لغُرفتها وتجلِسُ على فِراشها لينساب الدمعُ حارًّا على وجنتيها.

بكت بصمتٍ وهي تُربّتُ على معِدتها بألم، علها تخفف من ذلك الوجع الذي تعيشهُ منذُ أشهُرٍ طويلة، فغيبوبته أهلكت روحها ليأتي فُقدان ذاكرته ليُجهِز على بقايا قلبها المُتعب، هو لا يذكُرُ أيّ شيءٍ عنها او عن عائلته، حتّى أُمّه لم يستطِع تذكُّرها، نسي كُلّ ما عاشاهُ من سعادةٍ ولم يذكُر ما أهداهُ لمن حوله من أوجاع، كيف ستستطيعُ إخبارهُ بأنّها كانت على وشك الإنفصال عنه؟ وكيف سيُطاوِعها قلبها على ان تُعدّد خطاياه.

هل يا تُرى قد أعطاهُ القدر فُرصةً لبدايةٍ جديدة ام انّهُ سيجترّ ذكرياته المريرة عمّا قريب؟!.
عند هذا السؤال تزايدت دموعها غير راغِبةٍ بإيلام قلبه فمهما فعل من مساوئ سيظلُّ حُبّهُ محفورًا بقلبها كتعويذةٍ غير قابِلةٍ للزوال، وحُبّها لهُ يُحتّمُ عليها عدم جُرح فؤاده، لا يُمكِنهُ ان يذكُر ما فعله لكي لا يتألّم ولكن بذات الوقت لا تستطيع تحمُّل نسيانه لها.

- ألهِمني الصبر على تحمُّل هذا العذاب يا إلهي!
تمتمت بحسرةٍ قبا ان تمسح الدمع عن وجهها وتذهب لتناول العشاء، فرؤيته ولو لخِلسةٍ كفيلةً بتضميد جِراحها.
- لماذا لم تبقى كاميليا لتتناول معنا العشاء؟
تسائل كِنان الذي يتناول العشاء عقِب مجيئه من العمل، فأجابت ريفال بنبرةٍ تُضمِرُ الكثير من الإنزِعاج:
- ادهم سيعود اليوم من عمله لذلك لا ترغب بالتأخُر، حمدًا لله على مجيئه ليُنقِذها من لِسان والدته.

اعترضت اسمهان بعدم رضىً قائلة:
- لا تقولي هكذا يا ريفال؛ فإيناس إمرأةً طيّبة القلب فقط تخافُ على ابنائها اكثر من اللازِم.
زمّت ريفال شفتاها بضيق بعد تحذير عينا كِنان ولكنّها لم تستطِع منع نفسها من القول بغضبٍ مكتوم:
- هي محظوظة لأنّني لم اتزوّج إبنها وإلاّ لوقعت في مُصيبة كبيرة.
إبتسم كنان بينما لم يستطِع كريم كبح ضحكته المُتفاجِأة وعقبها قائلًا:
- انتِ مُثيرةً للإهتِمام يا زوجة أخي.

وجد أعيُن الجميع تُسلّط عليه وخاصّة أوس الذي إحتدّت ملامحه بغضب ليهمِس بإرتِباك:
- أعتذِر.
غامت عينا والدته بدموعٍ خائنة رفضت إظهارها وهي تدعوا ان يعود ابنها الذي تعرفه، بينما همست ريفال بتذمُّر تُخفّفُ من حِدّة الموقِف:
- حقًّا؟ إذن اقنِع أخيك بهذا فيبدوا انّني لم أعُد كذلك بالنِسبة لهُ.

نظر إليها كِنان مُتفاجِأً لتُشيح عيناها عنهُ بعبوس قبل ان تُضيف بعد مُدّة من الزمن:
- طلب رضوان فؤاد رؤيتكُم جميعًا غدًا، يبدوا انّهُ في لحظاته الأخيرة.
صمت الجميع وقد علا كِنان حُزن عميق على حالة جدّه فمهما فعل من ذنوب سيظلّ الرجُل الذي ربّاه وأخويه بعد وفاة والده.

تسائل كريم قائلًا:
- لماذا قطعتُم علاقتكُم مع جدّي؟ بالتأكيد هُنالِك سبب.
نظرت أسمهان لكِنان الذي أجاب بتردُد:
- إنها خِلافات عاديّة، لا تهتم للأمر؛ فأنتَ بحاجة للراحة.
نهض هامِسًا بحِدّة:
- لستُ طِفلًا لتُلهوني بهذه السخافات، والأفضل ان أعرِف مِنكُم بدلًا عن البحث عن غيركم.

غادر قبل ان يسمع ردّهم فهمست أسمهان بقلق:
- يا إلهي! ماذا سيحدُث الآن؟ كيف سنستطيعُ إخبارهُ بما حدث؟
- لن نُخبِرهُ بشيء.
قال كِنان بنبرةٍ قاطِعة موجّهًا حديثه للجميع لينهض أوس هامِسًا برفض:
- كما تشاء فالأمر لا يعنيني ولكن إياكَ ان تطلُب منّي ان أُعامِلهُ وكأنّ شيئًا لم يكُن لأنّني لن أفعل.

غادر هو الآخر لتُربّت ريفال على كفّ أسمهان قائلةً بإعتِذار:
- لا تأخُذي على حديثه؛ فأخي طيّبُ القلب وسينسى بمرور الوقت.
- وانتِ يا ريفال، هل ستستطيعين نِسيان ما فعلهُ كريم؟ هل سيُمكِنكِ مُسامحته يوما؟.
تسائلت تالين بحُزن لتُجيب ريفال بعد تفكير:

- ثمّة شخصان فقط من هذه العائلة لا أستطيعُ مُسامحتهُما مهما حدث وهُما رضوان وجان اما البقيّة فإن طال الزمنُ أو قصُر سنتصافى ذات يوم، وبما انّ كريم لا يذكُر ما فعلهُ لي فمن الظُلم ان أُحاسِبهُ عليه، ثُمّ انّ علاقتنا أصبحت أفضل بكثير فأثناء ذهابِكُم للعمل أُجبِرهُ على دخول المطبخ وتحضير الطعام برفقتي لذا أظُنّ انني اُعاقِبهُ بطريقتي الخاصّة.

إبتسم كِنان بسعادةٍ حقيقيّة ولم يستطِع منع نفسه من النهوض ورسم قُبلةً صغيرةً على فمِها قائلًا بحنو:
- هذه ريفال التي أُحبُّها.
دارت إرتباكها هاتِفةً بتذمُّر:
- أسمِعتي قولهُ يا خالتي؛ هذا يعني انّكَ لم تُحبّني سوى الآن صحيح؟

قهقهت جوان وتالين عندما همس كنان بخوفٍ مُصطنع:
- من هذا الذي لم يُحبّكِ، اُقسِمُ انّي أشُكِ بعملكِ للسِحر الأسود لإيقاعي بِكِ.
ابتسمت أسمهان وهي ترى ابنها وزوجته يعيشان أخيرًا في جوّ هادئ بعد كُلّ ما عانياهُ من مآسي، ولم تكُن تتمنّى شيئًا سوى ان لا يواجِهان المزيد من المشاكِل.

.
.

- يجِب ان تعود باكِرًا في الغد؛ لأنّ الجميع سيأتون بِناءً على طلب جدّك، امّا انا فلن ُأُلبّي طلبهُ للأسف.
همست ليليان وهي تستلقي بين ذراعي بُراق مُغمِضةً عيناها بسكون ليزفِر الأخيرُ هامِسًا بضيق:
- هو جدّكِ أيضًا ولا تنسي انّكِ حفيدتهُ المُفضّلة.
شعرت بذبذبات الغضب تجتاحُ جسدها فنهضت لتواجِههُ هامِسةً بتهكُّمٍ يحملُ ألمًا عظيم:
- بالطبع، حفيدتهُ المُفضّلة التي يظُنّ انّ دلاله لها قد يُنسيها قتله لوالدها.

- انتِ تعلمي انه ليس من قتل والدكِ، وتُدرِكين انّهُ لم يكُن ليسمح لأحدهم بقتل إبنه ولكن كُلّ شيء حدث بسُرعةٍ غريبة.
همس بُراق بهدوء لتسيل دمعةً يتيمةً على خدّها وهي تقول مؤيّدة:
- صحيح، حدث كُلّ شيءٍ بسُرعة لدرجةِ انّني لا أذكُرُ عنهُ سوى خيالاتٍ تُراودُني بين الفينةِ والأُخرى، لقد قتلوهُ قبل ان أُكمِل عامي الأوّل بالمدرسة، لم يستطِع رؤيتي ناجِحةً أمام ناظريه ولم يقودني إليكَ بفستاني الأبيض؛ لا زِلتُ أذكُر ذلك الفراغ بقلبي عندما حمل والدكَ ابني لأول مرّة، تمنّيتُ فقط ان يعيش هذه اللحظات ولن أُعاتِبهُ بعد ذلك على الفُراق ولكنّهُ لم يفعل.

شعر بدموعها تسقُطُ حِممًا على قلبه فضمّها بقوّة لتُضيف بنبرةٍ مُتألّمة:
- ذلك اليوم عندما أخبرنا أوس بأنّ جدّي هو السببُ بموت أبي لم أُصدّقهُ، شعرتُ بأنّني سأموتُ إن كان هو من فعل هذا، حتّى كِنان حاول كثيرًا تكذيب الأمر ولكن بعد اعتراف جدّي عقِب إصابة كريم لم يعُد هُناك ما يشفعُ له؛ فلم يكُن الذنبُ على ابي عندما حاول إخراجهُ من مُستنقع الذنوب الذي يغمُرهُ من رأسه الى أخمُص قدماه، الذنبُ عليه هو بسماعه لحديث تلك الحيّة والمُتاجرة بالأسلِحة، لقد أغوتهُ بالمال لينسى انّ عائلتهُ هي من ستدفعُ الثمن.

نظرت الى عيناهُ الحزينة وأكملت بمرارة:
- كما مات أبي بإنتقام تُجّار السلاح بسبب غالية ها هو أخي قد فقد كُلّ ذكرياته بسبب إبنيها، كيف لنا ان نستطيع مُسامحته على إدخالها لحياتنا؟!.
- لا تبكِ أرجوكِ.
همس بعذاب لتُحاوِل السيطرة على شهقاتها المؤلِمة لقلبها الضعيف وتُضيف بإنهاك:
- لقد كِدتُ أفقِدكَ للأبد، بحياتي لن أستطِع مُسامحتهُ على الرُعب الذي عشتهُ بالفترةِ الماضية.

َقبّل جبينها بعُمق وقال:
- إهدأي قليلًا، نحنُ جميعنا بخيرٍ الآن وسنتجاوز كُلّ ما حدث، أعلمُ انّكِ تفتقِدين والدتكِ وأخويكِ، أعِدُكِ ان نجِد حلًّا للأمر في الغد؛ فلا أستطيعُ تحمُّل بقائكِ حزينةً هكذا.
نظرت إليه بصمت وبعيناها الكثير من الكلام الذي لا تستطيع البوح به بينما يقرأهُ هو بسهولة، فيبتسِمُ لشُكرِها وامتنانها وينهضُ ساحِبًا إيتها خلفهُ قائلًا برِقّة:
- هيا لتغسِلي وجهكِ؛ فالأشباحُ تعشقُ الدموع اليابِسة.

ضغطت بكفّها على ساعده بخوف ليبتِسم جاذِبًا إياها بقُربٍ خطير مُستنشِقًا رائحة الكراميل من عُنقها بتلذُّذ عميق قائلًا بنبرةٍ كوقع المطر على أرصِفة المدينة:
- قلبكِ هشٌّ كأوراقِ الخريف بينما عقلكِ صلبٌ كحبّةِ ألماس، حتّى تناقُضكِ مُختلِف، أشعُرُ معكِ بأنّني أُشاهِدُ عرضًا في غايةِ الحماس، لا أرغبُ بإنتهائه.
اراكِ طِفلةً خائفة، ومُراهِقةً جامِحة، إمراةً مسؤولة وأُمًّا رائعة، وبكُلّ دورين تظهرين به أقعُ في حُبّكِ مِن جديد.

إحمرّ خدّاها بحياءٍ لم تفتقدهُ بمرور الزمنِ ونظرت الى عيناهُ التي تحمِلُ رغبةً أربكت حواسها فهمست بتلعثُم:
- وأيّ شخصيةٍ تروقك أكثر.
شعرت بأنّ دلالها العفويّ أشعل فتيل حربٍ من العواطِف فسمحت لهُ بإرتشاف القليل من الراحةِ من بين شفتيها وما ان شعرت بتماديه لأكثر من قُبلة تسلّل الرُعب الى قلبها فهمست بتلعثُم:
- لم اتناولها اليوم، إبتعِد أرجوك.

لم تدري متى عادت للفِراش لتجِدهُ يبتعِد بإرتِباك مُنتزِعًا نفسه عنوةً عنها ويضع الغطاء حول جسدها قائلًا بخفوت:
- لا بأس، تُصبِحين على خير.
إلتفت ليُعطيها ظهره مُحاوِلًا كبح مشاعره الثائرة كأنفاسها التي تُحاوِلُ إلتقاطها وقد زادت نبضات قلبها بجنون، بكُلّ لحظةٍ توشِكُ على الاقتراب منهُ تذكُرُ موت طفلتها رُغمًا عنها.

فبعد عودة حياتهُما لطبيعتها عانت كثيرًا من صدّها لرغباته الجسديّة الى ان قرّرت أخيرًا ان تُطلِعهُ بقرارها بتناول حُبوب منع الحمل لعدم رغبتها بالأطفال، وبعد نقاشٍ طويل إستطاعت إقناعه بأنّها مُكتفيةً بطِفلها ولا تُريد ان تُعرّض حياتها للخطر مرّةً أُخرى ولكنّهُ يُدرِكُ انّها تكذِبُ عليه فعدم رغبتها بالحمل ليست سوى خوفًا من فقده كما حدث بالماضي، فإمتثل الى أمرها الى ان تتحسّن قليلًا وترسوا حياتهُما قليلًا بعد هذا العناء وبإمكانهُما حينها إستشارة الطبيب حول الأمر.

بتردُدٍ شديد تلمّس خُصلات شعره الذهبيّةِ المُجعّدة وهمست بحُب:
- سأبقى برفقتِك غدًا، بصِفتي زوجتكَ ووالدةُ طِفلك.
إبتسم وهي تلثُم شعره وتبتعِد لمكانها قائلةً بدلال:
- تُصبِح على خير زوجي الحبيب.

.
.

على عتبات قصر الملوك وتحديدًا امام منزِل الحُرّاس الخشبيّ القديم توقّفت سيّارة زين ليترجّل مِنها برفقة زُمرُّد التي عادت إليها ذكريات هذا المكان، رائحة الشجر، خرير مياه البِركة الخضراء، شجرة التُفّاح، وأعواد الخيزران بينما رأى زين حياتهُ القديمة امام ناظريه، ورُغمًا عنهُ ابتسم للفرق الشاسِع الذي حدث في تلك الأعوام، فمن كان ليُصدّق حقيقة عودته لهذا القصر بعد مُغادرته هربًا من ماضٍ مُخزٍ ليعود رجُلًا بالثانيةِ والأربعون من العمرُ مُتأبّطًا ذراع زوجته الصغيرة التي عشِقها بعد رحلةٍ من العذاب.

أزاحت اناملهُ خُصلاتها الرقيقة النافِرة من جديلتها الفرنسيّة الطويلة ليرفع وجهها إليه ويهمِسُ بحنو:
- ألم تعِديني انّكِ لن تبكِ، أعلمُ انّ ذكريات المكان ليست جميلة ولكنّ الأهم اننا هُنا الآن، ولا يُمكِن للماضي ان يعود؛ فأنا بجانِبك.
أخذت شهيقًا عميقًا لتزفِرهُ بتمهُّل فتسقُط دمعتان على وجنتيها سارع هو بإزالتِهِما بإبهاميه وقرص وجنتيها هامِسًا بابتِسامة:
- هيّا يا فتاتي المُطيعة، لنرى ما يُريدهُ ذلك العجوز ونعود لمنزِلنا؛ فلدينا الكثير لنقوله.

ابتسمت بخجل وامسكت بكفّه ليتقدّمها بقامته القويّة المُميّزة كحارِسٍ وفيّ لأميرته.
من على البُعد رأقبتهُما ورد وهي تنزِلُ عن درّاجة أوس ليتنامى بداخلها شعورًا مريرًا لا تُدرِكُ كُنههُ، فكُلّ ما تشعُر به هو ذلك الألم الذي يجعلها ترغبُ بالبُكاء كُلّ ما رأت والدتها، راقب أوس ردّة فعلها فهمس بتردُّد:
- والدتكِ تُحبّكِ للغاية يا ورد واظُنّ انّهُ من الواجِب ان تستمِعي إليها.

هتفت بغيرةٍ واضِحة:
- هي مُكتفية بزوجها ولم تُكلّف نفسها عناء المُحاولة لضمّي إليها، بحياتي لن أترجّاها لتُحبّني؛ فمن ربّتني هي وحدها من تملِكُ ذا الحق.
غادرت بخطوات عنيدة ليتبعها هامِسًا بتذمُّر:
- غيورة.

دلفت ريفال بملامِحها المُتعبة وبطنها المُنتفِخة تسير كبطريقٍ صغير يتعلّمُ المشي لتوّه مُستنِدةً على ساعد كِنان مُتذمّرةً بخفوتٍ عن زيادة وزنها المُبالغِ بها وقد قاربت على إنهاء شهرها التاسِع بينما جاء خلفهُما تالين وكريم الذي يتأمّلُ المكان بإعجابٍ واضِح فلأوّل مرّةٍ بعد مرضه يعود للقصر، بدأ الجميعُ بالترحيب ببعضهم البعض وقد كانت ليليان الأكثر شوقًا لعائلتها فبُعد والدتها وأخويها عنها يُحزِنها كثيرًا ولو كان بيدِها لبقِيت معهُم ولكنّ مكانها حيث يوجد زوجها

إقتربت لتُعانِق كريم هامِسةً بإشتِياقٍ حزين:
- أفتقِدُكَ للغايةِ يا أخي.
إختار الصمت غير قادِرٍ على مُبادلتها الشوق؛ فبالكاد يستطيعُ تذكُّر إسمها بعد زياراتها لهُ بالفترةِ الماضية ولكن هذا لم يُزِل شعور المحبّة الذي يجتاحهُ نحوها وكأنّهُ عاش برفقتها طويلًا، ابتعدت عنهُ هامِسةً بسعادة:
- أنِرت المكان.

- شُكرًا لك.
همس بإرتِباك لتدعوه للجلوس وقد كان محور الجلسة؛ فقد راح كُلّ من افراد عائلته الكبيرة يسرد إليه تفاصيلًا عن ذكرياته القديمة الى ان شعر بأنّهُ بحاجةٍ للهدوء فنهض مُعتذِرًا منهُم لتتبعهُ قائلةً بقلق:
- ما الأمر يا كريم؟ هل انتَ بخير؟
اجابها ويداهُ تُدلّكان رأسه بإرهاق:
- لا شيء مُهم، فقط صُداع.

طلبت من إحدى الخادِمات ان تجلِب كوبًا من الماءِ لتُخرِج دواءهُ من حقيبتها الصغيرة وتُعطيه إياه وتقول بتردُد:
- رُبّما يُمكِننا البقاءُ خارِجًا الى ان يأتي جدّي، ما رايُك؟.
- حسنًا.

اجاب وقد بدى بحاجةٍ لإبتعاد عن هذا الصخب ليخرُجان للحديقة المُمتلِئة بورود الربيع الزاهية وروائحها الطيّبة وقد انعكست الإضاءة البيضاء على بتلّات الورود النائمة بسكون بينما خريرُ مياه البركةِ أتى مصحوبًا بزقزقة العصافير واصوات الحيوانات، امام احد المقاعد المُطِلّة على البِركة جلسا ليتأوّه كريم بألمٍ وهو يضُمُّ رأسه بين يديه لتُربّت تاليت على ظهره قائلةً بحنان:
- لا تُرهِق عقلك بالتفكير؛ فأنتَ لا زِلت بفترةِ نقاهة.

نظر إليها ليقول وحاجِباهُ مُنحنِيانِ بأسى:
- يجِبُ ان أتذكّر كُلّ شيء، اشعُرُ بأنّني أجرحُ كُلّ من حولي غير قادِرٍ على منحِهم الحُبّ الذي يستحِقّوه، وانتِ أوّلهُم.
كيف لي ان انسى ذكرياتي برفقة زوجتي؟ وكيف لا أشعُرُ بشيءٍ حيال إنجابكِ لطِفلي الأوّل؟! أعلمُ انّني أحرجتُكِ للغاية عندما طلبتُ ان ابقى بغُرفةٍ لوحدي ولكنني لم ارغب بأن أجرحكِ برفضي.

زفرت حُزنًا مؤلِمًا وتنهيدةً عميقةً ودمعتان، أمسكت بكفّه الأيمن بين يداها بقوّة ونظرت لعينيه قائلةً بصِدق:
- لا تؤنّب نفسك على شيءٍ ليس لكَ فيه سبيل، انا لم أنزعِج مِنك إطلاقًا لأنني أتفهّمُ وضعك، تأكّد انّ عودتك لنا سالِمًا تعني الحياة لنا وإن لم تذكُرنا يكفي انّ بإمكاننا خلق ذكرياتٍ جديدةٍ بعيدًا عن الماضي.

تأمّلها مليًّا وابتسامةً حائرةً تشُقُّ طريق حُزنه لتدلِف لقلبها فينتفِضُ كطائرٍ مبلول، تتحوّلُ وجنتاها لحقلٍ من الورود وترتعِشُ شفتاها لتُكمِل لوحةً قانِية الجمال، شعرت بأنامله تلمِسُ ذقنها بنعومةٍ لتزداد إضطِرابًا وما ان واجهت عيناهُ الحنونتان أغمضت عيناها بإستِسلامٍ وشوق، تركت انفاسه المُرتبِكةِ تصطدِمُ بوجهها لتلفح بلهيبها برد روحها وما ان صارا قاب قوسين او ادنى من الوصول لرغبةٍ مجنونة جاء صوت الخادمة هاتِفةً من بعيد:

- سيّدة تالين، سيّد كريم، لقد وصل السيّد رضوان.
ابتعد كريم بإرتِباك وقد عاد لوعيه بينما شعرت تالين برغبةٍ عارِمة بقتل الخادِمة التي أفسدت أجمل لحظاتها ولكنّها همست بخيبة:
- هيّا بِنا.
 

.
.

- إشتقتُ إليكِ يا ابنتي، كيف حالكِ اليوم، كيف ستقضين إجازة المدرسة؟
همست زُمرُّد وهي تُعانق ورد التي أجابت بخمول:
- أعملُ بمتجر الحلوى برفقة جوان وريفال.
همست وهي تتلمّسُ خُصلات شعر ابنتها بحنان:
- ما رأيكِ ان نُسافِر سويًّا لبعض الوقت، انا وانتِ وحدنا.

ضيّقت عيناها ووضعت اصابِعها على جانب جبينها بتفكير فإبتسمت زمرُّد بحُب لإشتراكِهِما بذات الصِفات وما ان شعرت بأنّها ستوافِق أضافت بسرور:
- انّها دولةً جميلة وليست ببعيدة عن هُنا، ببداية الصيف تكونُ في غاية الجمال، سنمرحُ كثيرًا، أعِدُكِ ان تستمتِعي بكُلّ لحظةٍ برفقتي.
زفرت هامِسةً بتردُد:
- لا أعلم، سأُفكّرُ بالأمر.

- حسنًا يا صغيرتي، سأُجهّز كُلّ شيء وانتظِر ردّكِ.
همست برضا وهي تعود لتقبيل وجنتيها بعطفٍ عظيم قابلتهُ هي بشوقٍ أعظم وللحظةٍ تمنّت ان لا تبتعِد عن عِناق والدتها إلاّ انّ قِدوم رضوان على كُرسيّ مُتحرّك تقودهُ كادي جعلها تبتعِد مُتفرّسةً بملامِح كادي المُختبِأة خلف نظّارةٍ شمسية لم تنجح بمحو ذلك الألم عن وجهها ولدهشة ورد شعرت بالشفقةِ عليها فما حدث معها ليس هيّنًا؛ فهرب والدتها كسر بها شيئًا لا يُجبر.

امام ابنائه وأحفاده جلس رضوان وقسماته الهزيلة تُنبِئُ بحِدّة مرضه ومع رفضه للعلاج الكيميائي تمكّن المرضُ بالتفشّي بسائر جسده كالنارِ في الهشيم وكأنّهُ بهذه الطريقةِ يُعاقِبُ نفسهُ على ما ارتكبهُ من ذنوب.

بدى الجميع في حالة إنتباه وقد كسى البرود ملامح البعض، سقطت دمعتان على وجنتيه المُترهّلتين لينهض كِنان مُقترِبًا منه وقد آلمهُ للغاية هذا الضعف الذي لم يراهُ بجدّه من قبل، عانقه وجلس تحت قدميه هامِسًا بعذاب:
- رضوان فؤاد لا يبكي.

- كيف لا أفعلُ وانتَ بعيد، لقد قتلني الشوقُ إليكُم يا ابنائي، ان لا تُدرِكُ كم أُحبُّكَ وإخوتك، وحدهُ اللهُ يعلمُ انّكُم قِطعةٌ من روحي يا ابناء الغالي.
دمعت عينا أسمهان بينما ارتسم الحُزنُ على ملامح ليليان، ربّت كِنان على كفّي جدّه قائلًا بنبرةٍ مُثقلة بالحُزن:
- لا بأس يا جدّي، ها نحنُ بجانِبكَ كما طلبت.

كانت زُمرُّد جالِسة بعيدًا تُراقِبهُ بصمت الى ان رفع عيناهُ مُباشرةً إليها وقال آمِرًا:
- تعالي يا زُمرُّد، إجلِسي بجانِبي.
شعرت بالتردُد ولكن زين اومأ إليها بإبتِسامةٍ مُشجِعة لتشغل المقعد الذي كان يجلسُ عليه أيمن، إلتفت مُقرّبًا كُرسيّه المُتحرّك منها ونظر عميقًا لعيناها التي تأخُذهُ لعالمٍ بعيد وقال:

- لا أعلمُ كيف سيكونُ شعوركِ حيال ما سأقول ولكنّني يجِب أن أُخبِركِ انني لم أعلمُ بالأمر سوى قبل فترةٍ ليست بالطويلة، او تحديدًا عرفتُ الحقيقة من بوران بعد عودتكِ انتِ وريفال لحياتِنا.

بدى الفضول على وجوه الجميع عدا بوران التي استعدّت بدموعٍ غزيرة لكشف الحقيقة التي أخفتها طويلًا فأكمل رضوان مُفشيًا سرّهُ القديم:
- انتِ إبنتي يا زُمرُّد، انتِ من لحمي ودمي.
- ماذا؟!
هتف الجميعُ بصدمة بينما شعرت زمرُّد بأنّها لم تستمِع لتلك الكلِمات فطالبتهُ بالتوضيح هامِسةً بخفوت:
- عفوًا؟!

إنسابت الحقيقة من بين شفتيه مُصاحِبةً لدموع زمرُّد وورد الى ان قال أخيرًا بندمٍ عظيم:
- أُقسِمُ انّني لم أكُن أعلمُ بالأمر، إن عرِفتُ انّكِ إبنتي لما سمحتُ لأحدٍ بالتقرُّب مِنكِ، لما سكتُّ على إيذائكِ، آهٍ يا ابنتي كم تعذّبتُ بذنبِ ما حدث لكِ.
لم تعُد تهِمّها كلِماتهُ وهي تنهضُ لتقِف امام والدتها هامِسةً بترجّي:
- هذ يكذِب أليس كذلك؟ انتِ أُمّي وابي قد مات منذُ زمنٍ طويل، ابي مات؟ تحدّثي!

صرخت بنهاية حديثها بجنون لتهتِف بوران ببكاء:
- لقد ماتت وهي تضعكِ، ووصّتني ان أعتني بِكِ ولا أُخبِر أحدٌ بأنّكِ إبنة رضوان، لم أستطِع نكث عهدها إلاّ عندما شعرتُ بأنّني قد أخسرُ حفيدتي أيضًا، كان لا بُدّ لهُ ان يعرِف بالحقيقة.

كتمت شهقاتها بكفّها قبل ان يسحبها زين لعناقه فتنتحِبُ بألمٍ عظيم وكُلّ مصائب حياتِها تظهرُ بطريقها كأشواكٍ سامّة تجرحُ قلبها دون رحمة، إبتعدت عن زين واقتربت لتجلِس تحت قدمي رضوان رافِعةً عيناها إليه قائلةً بتعب:
- ابي الحقيقي لن يسمح لإبن زوجته بإغتِصابي، ولن يُهددني بقتل والدتي إن أفصحتُ عن الحقيقة، ابي من المُستحيلِ ان يكون سبب أوجاعي، لا يُمكِنُ لذلك ان يحدُث، لا يُمكِن.

بكى وهو يمسحُ على شعرِها لتنظُر إليه وتقول بنبرةٍ مُتألِمة:
- ما الذي فعلتهُ لكُم لتؤذوني بهذه الطريقة، لماذا كُلّ ما اندملت جروحي تعودون لفتحِها، أتلذذون بعذابي؟!
- أُمّي، دعينا نذهب من هُنا.
همست ورد وهي تُساعِد والدتها على النهوض لتحتضِنها بصمت لينضمّ إليهِما زين قائلًا بهدوء:
- هيا بِنا.

- لا تُغادِري أرجوكِ، إستمِعي لبقيّة حديثي؛ فقد لا نلتقي مُجددا.
- هل حقًّا لديك المزيد؟! ألم تكتفي بكمّ الأذى الذي يطالُ الجميعُ بسببك، حتّى وانتَ على فِراش الموت تُصِرُّ ان تمنحنا حصّةً من العذاب؟
همست ريفال بحِِدّة ليزداد ألمُ قلبه فتلتفِت إليه زُمرُّد قائلةً ببساطة:
- إن كُنتَ تطلِبُ العفو فلن أُسامِحك وإن كان لك وصيّةً فدعها لأبنائك فأنا لستُ منهُم، اتمنّى ان لا نلتقي مُجدّدًا يا ابي العزيز.

انهت حديثها بتهكُّمٍ يكسوهُ الكُره ليهتِف بقوّة:
- بلى ستبقين؛ فأنتِ ابنتي الوحيدة، لا يُمكِنني ترككِ بعد ان وجدتك.
- إبنة غير شرعيّة، يال العجب! لقد كُتِب عليّ وأُمّي ان نحمِل ذات اللقب.
همست ورد بمرارة لتُضيف والدتها بأسى:
- حياتنا تبدوا كمسرحيّة هزليّة بسببِكُم، ماذا تُريد سيّد رضوان، فأنا أحترِقُ فضولًا لسماع مُصيبةٍ أُخرى.

صمت الجميعُ مرّةً أُخرى واختفت الهمهمات مُسلّمين بإنضمام فردٍ جديدٍ لحياتِهم وفكّر كِنان بأنّ كُلّ شيءٍ يحدُث في هذه الحياة لهُ اسبابهُ وحتّى الأشياء السيئة تدرءُ ما هو أسوأ وللحظةٍ تخيّل إن مضت حياة زُمرُّد بصورةٍ طبيعيّة لكان بالتأكيد قد تزوّج من عمّته، لم يكُن مُستغرِبًا من الأمر فما حدث في الفترةِ الأخيرةِ من حياته جعلهُ يرى كُلّ شيءٍ مُمكِنا.

قال رضوان بعد ان إستعاد شيئًا من قوّته الهزيلة:
- لقد قسّمتُ ثروتي على أربعة أقسام كما تقتضيه الشريعة، كُلّ إبن من أبنائي سيأخُذُ نصيبه، وكِنان سيعتني بنصيب والدته بينما كريم وليليان سينالان نصيبهُما، زُمرُّد ستأخُذُ نِصف ما لأبنائي وشرِكة المحاصيل قد تنازلتُ لهُم عنها مُسبقًا لِذا ستخرُجُ من الميراث.
- أبي أرجوك...

همس عِماد ليُقاطِعهُ قائلًا:
- لا يا عِماد، يجِبُ ان أفعل هذا قبل موتي؛ لن أرتاح إن لم يأخُذ كُلّ واحِدٍ منكُم نصيبه، لقد وهبتُ لريفال، وأوس، وجوان، وورد أسهُمًا بنِسبةٍ مُتساوِية بعيدًا عن الميراث، وثروة تالين مُسجّلة مُسبقًا بإسمِها مُنذُ ان توفّى جدّها وأدخلتها بشرِكاتنا، وبعد ان يستعيد كريم صحّته سيعودُ للإعتِناء بأموال زوجته. زين سيأخُذُ كُلّ مُستحقّاتي الذاتيّة من عقارات و سيّارات.

- شُكرًا لكرمِكَ سيّدي ولكنّني لا أحتاجُ لشيءٍ مِنك، يكفي ان تبتعِد عن طريق زوجتي.
همس زين مُشددًا على كلِماته ليُجيبهُ رضوان قائلًا ببساطة:
- أنا لا أُريدُ مِنكُم الغُفران بل أُحاوِلُ مُمارسة حقّي كقائدٍ لهذه العائلة للمرّة الأخيرة واتمنى ان تُلبّوا وصيّتي الأخيرة؛ فهي آخرُ شيءٍ جيّدٍ أفعلهُ قبل موتي وأحتاجُ عهدًا مِنكُم جميعًا بتطبيقها.

سعل بإنهاك وأضاف بخُذلان:
- أعلمُ انّني لم أفعلُ ما يتوجّبُ عليكُم طاعتي لأجله، وأُدرِكُ انّ الكثير مِنكُم يحتاجُ لمُبرِرًا لأفعالي ولكن تأكّدوا ان من إستحقّ هذا التبرير قد حصل عليه.
وطافت نظراتهُ على كُلّ ما ريفال وزين وزُمُرُّد حيثُ هم من عرِفوا حقيقة أفعاله، عاد للقول بترجّي:
- لن أُجبِركُم على تنفيذ وصيّتي ولكنّني لن أكونُ مُرتاحًا بقبري إن لم أُكفّر عن أخطائي بحقّكُم.

- بماذا تأمُرُ يا جدّي؟
تسائل بُراق ليجيب جدّه بتردُد، ثمّة الكثير من الرغبات ولكن ما سيُنفِذ كُلّ تلك الاُمنِيات هو بقائكُم سويًّا بهذا القصر.
بدى الرفضُ جليًّا على ملامِح ريفال بينما همست كادي لأوّل مرّة منذُ مجيئها:
- انا وغصون سنعتذِر عن تنفيذ وصيّتكَ جدّي؛ فبعد إسبوعين سنُغادِر خارِج البِلاد، ولن نعود مُجددً؛ فغصون ستنتقِل لجامِعة أُخرى وسأُكمِلُ دراستي برفقتها، لن نكون بعد اليومِ مصدرًا لإزعاج أحدِكُم.

- لن تذهبا، إنسيا الأمر.
همس أوس بحِدّة لتخلع نظّارتها بحدّة لتُظهِر عيناها الحمراء المُنهكة من فرط البُكاء، بدت خاويةً من كُلّ المشاعِر بالرغم من تلك الدموع التي تلمعُ بداخل عيناها، إبتسمت مومِئةً بالرفض وقالت:
- ليس اليوم يا أوس، أخبرتُكَ ان لا تلعب دور الأخ معي.
- انا أخيكِ رُغمًا عن أنفكِ، واظُنّ بما انّني أكبرُ مِنكِ أستطيعُ فرض سُلطتي عليكِ.

همس بحنق لتنظُر إلى ملامِحه الحنونة بعُمقٍ شديد وترنوا ببصرها لريفال التي تشبهها كثيرًا، شعرت بأنّها قد تنهار بأيّةِ لحظة فركضت مُسرِعةً لغُرفتِها علّها تُخبّئُ روحها المُنكسِرة فالخيبات التي تراكمت على قلبها لم تترُكهُ على قيد الحياة، لا تُنكِر انّها كانت شريرة الطِباع كوالدتها تمامًا ولكن بحياتِها لم تُفكّر انّ لأُمّها جانِبًا آخر، ذلك الجانِب الأسود القذِر.

دومًا ما سمِعت بخُبث جدّتها غالية ولكنّها لم ترى ذلك الخُبث سوى بجُلنار، تلك المُسمّاة امام الجميع اُمّها، فبيومٍ ظنّتهُ كسائر أيام حياتِها المُمِلة دلفت للقصر لتُفاجأ بخبر إصابة أبناء عمّها بإصاباتٍ خطيرة، ذهبت للمشفى للإطمِئنان عليهم وهُناك علِمت بالحقيقة التي ألجمت لِسانها وجرحت روحها بشِدّة ولم تستطِع ان تُصدّق ان لوالِدتها يدًا بإستِمالة كريم للمُتاجرة بالمُخدّرات لينتقِم خالها من كِنان عن طريقه.

انتظرت ان تأتي والدتها لتُخبِرها انّها ليست كذاك، ان تنفي وتشتِم كعادتها وتغسِل إسمها من قذارة الإتهام ولكنّها لم تأتي، ببساطة لقد هربت، وتركت بناتها يقتسِمن ألم النبذ والكُره من العائلةِ جمعاء، بحثوا عنها طويلًا لتنال جزائها برفقة أخيها ولكن لم يجِدوا لها مكانًا وكأنّما تبخّرت مع هواء المدينة.

حاول أوس اللحاق بِها ولكن رضوان منعهُ قائلًا بهدوء:
- دعها، لا زال عودها أخضرًا على تحمُّل الألم، ولن تلتئم جروحها إن لم تبقوا بجانِبها.
- لا تُراوغ يا رضوان، سنأخُذها برفقتِنا ولن نأتي إليك.
همست ريفال ببساطة ليقول بُراق بتردُد:
- هلّا هدأتُم قليلًا من فضلِكُم، جدّي معهُ حق، أظُنّ انّ بقائنا سويًّا هو الحلُّ لكُلّ ما يحدُث.

نهضت ريفال وقالت بكُلّ هدوء:
- ليس بالنِسبةِ لنا سيّد بُراق، تُصبِحون على خير.
غادرت برفقة أوس ليتبعهُم كِنان الذي لم يُعلّق بتاتًا على قول جدّه وتبعهُم زين وقد قاد زُمرُّد التي جفّ دمعها وغدا الشرود أنيسها وكفّها يستنِدُ على كتِف ورد التي لم تُبدي رفضًا لمُرافقة والدتها؛ فهي مُتأكِدة انّها قد تنهار مُجددًا بعد أحداث هذا اليوم المُريع.

عاد الصمتُ للقصر كما كان وقد صعدت ليليان لغُرفتها بينما بقي بُراق برفقة جدّه الذي عاد للسُعال بقوّة الى ان سال خيطٌ من الدم على شفتيه، ساعدهُ بُراق على استعادة تنفُّسه بشُرب قليلٍ من الماء قبل ان يأخُذهُ لغُرفته وبصمت يجلِس بجانبه مُمسِكًا بيده وكأنّما يُخبِرهُ انّ ثمّة من يُحِبّهُ بالرغم من كُلّ مساوئه.
اغمض جفناهُ وهو يوصيه على العائلة ولمّ شملها بالبقاءِ في القصر تنفيذًا لوصيّته، حاول بُراق طمأنته قائلًا انهُ سيفعل ما بوسعه لجمع افراد عائلته.

غادر لغُرفته بعد تأكُده من نوم جدّه وما ان حلّت ساعات الفجر الأولى رنّ هاتِف ليليان لتتقلّب بإنزِعاج ليقوم أخيرًا بالردّ فيأتيه صوت كاميليا قائلةً ببُكاء:
- ليليان، ريفال تضع مولودها، يجِب أن نذهب في الحال، لقد هاتفتني وهي تبكي بشدّة يجِبُ ان أكون بالمشفى الآن.
أغلق الهاتِف بوجهها وهتف ليوقِظ ليليان:
- ليليان، هيا يا فتاة، أخيكِ سيُصبِحُ أبًا بعد لحظات إسرعي لنذهب.

.
.

بأحد المنازِل المهجورة بأطراف المدينة أغلقت جُلنار هاتِفها بعد ان جاءها على وجه السُرعة خبر ولادة ريفال، إبتسمت وبقلبها غلّ العالمِ أجمع وقالت بتصميم:
- أُقسِمُ أن أحرِق قلبكَ على طِفلك كما حرقت قلبي على أخي وبناتي...

~~~~~~~~~~~~~~~~

مرحبًا
رأيكُم بالبارت؟
والأحداث الى الآن؟

هل ستنجح جُلنار بإيذاء طفل كِنان؟
ماذا حدث لجان؟
هل سيُنفذ الابناء وصيّة جدّهم؟

هذا واكثر في الفصول القادمة

.
.
.
.
.
..
...
مع حُبّي 💙💙💙

.
.
..
...
فايا

Continue Reading

You'll Also Like

2K 560 35
مدين هذا العالم بإعتذار لكل نسائه عن العبث اللئيم الذي يحدث معهم، ولكن من الألف إلى الياء ستظلّ الأرض و السماء ممنونة لوجود النّساء. نُشرت في: 2/7/20...
281 87 4
نهضت تغادره فحاول ان يوقفها بمناداته بأسمها معتذرا محاولاً شرح موقفه قائلاً - صدقيني انا لا اقصد هذا لقد حدث سوء فهم لم تستجب حاول ان يمد يده يجذبه...
3.1K 430 25
على أنغام خيالٍ أبيض، كلوحة _الكتاب| ركنٌ يحوي رسوماتي_
697K 14.9K 44
للعشق نشوة، فهو جميل لذيذ في بعض الأحيان مؤذي مؤلم في أحيانا اخرى، فعالمه خفي لا يدركه سوى من عاشه وتذوقه بكل الأحيان عشقي لك أصبح ادمان، لن أستطع ا...