لحظة ما التقط كايرو صوت إليس، تنده عليه بتعليمةٍ ما صائحة، أدرك أنهما قد وقعا في فخٍ خبيث.
لم يرغب في الإنهاء علي لهذا السبب. أرادني أن آتي به لهنا. استنتج وشتم داخلياً، لكنه لم يكثر التفكير وسارع إلى الطائر؛ وقف حائلاً بينه وبين إليسانيت المُستحوَذة. لكنها لم تتقدم خطوة.
كانت تبتسم.
لكم مقت تلك الابتسامة المغتصبة.
لم تتكلم أيضاً. ما أثار حيرته، وهلةً قصيرة، بيد أنه سرعان ما أدرك الذي يجري خلفه. شرع الطائر بتحريك جناحيه، ثم لوى رأسه كليةً وحدق بإليس. كان له عينان صفرواتان إلى ذهبيتان كخاصتها.
شرع يحلق نحوها.
-" كلا ! " صرخ كايرو، آمراً، فجمد الطائر في مكانه.
-" لقد تحسنت. " تمتمت إليس ومَن داخلها.
لكنه لم يكن كافياً. شرع الطائر بالحركة مجدداً، فضاعف كايرو من قوته رغبةً في إيقافه، وهو ما نجح به، غير أنه لم يتوقع استمرارية ذلك لفترةٍ طويلة. إنه طائر أقوى شيطان بالنهاية، وهو أمامه، ولا يُستغرب انجذابه التلقائي له.
عليه القيام بفعل آخر. لكنه لم يدري ماذا. هل يهاجم الشيطان ويتجاهل الطائر؟ لكن ماذا لو نجح في التسل عبره إليه، فيقتله، ويحصل ما لا يحمد عقباه؟ هل الحل في الطائر نفسه؟ ماذا يفعل به؟ يقتله هو الآخر؟ لكن ماذا لو انعكس ذلك سلباً ونفذ ما يحتاجه الشيطان بأي حال؟ هذا مربك !! كان متأكداً من قبل لكون عبئ قوته، ومهمته، غير مناسبٍ له تحديداً لهذه الأسباب؛ هو لا يفعل بقدر ما يفكر ! تمنى لو تبادل الأدوار مع إليس. تمنى لو كان بإمكانه المهاجمة بكل عنصر سحري فحسب حتى يسقط هدفه؛ بشراً كان أم جدار حدود بلاد أعداء. شكك بنجاح هذا الأسلوب على شيطان على كلٍ.
فوجئ بخنجرٍ يمر قرب أذنه، استقر بجناح الطائر الذي نعق، والصقه بالحائط. رماه آرو الذي هز كتفيه قائلاً:" بدا أنك محتاجٌ لثباته ..؟ " تراجع بعدها سريعاً، خوفاً من إليسانيت.
أخذ كايرو نفساً. راح يذكر نفسه. لكل معضلة حل. صعبٌ كان أم سهل، لكل معضلة حل.
تقدمت إليس مُهاجمةً أخيراً. أنشأ كايرو درعاً سحرياً من حوله والطائر ثم سكن واسترسل إعمال عقله.
فكر بالأمر. لماذا سيرغب الكهنة بأن يحضُر اللاي فوريم إلى هنا؟ أليس الأدهى هو منع دخول أيٍّ كان لهذه الغرفة؟ أن لا يتركوا أي شيء ليدل عليها من الأساس؟ إلا وإن حوت بالتأكيد على سر التخلص من إيفيلوس !
حاول تجاهل محاولات الشيطان لاختراق درعه. نظر حوله. لم يوجد شيء. أنشأ شُعلاً حركها في أرجاء المكان. لم يوجد أي رموز وكتابات من شأنها ارشاده للحقيقة. لم يملك معلومات كافية باستثناء أن الإجابة هنا !
نظر للطائر خلفه، نجح في انتزاع جناحه من الخنجر العالق، لكنه لم يبدي أي أفعال أخرى نشطة. لم يبدو فعلاً كمخلوق حي، وما كان ليكذب لو قال أنه شابه إليس على نحوٍ ما. منحه إحساساً كالذي يتلقاه منها حينما ينزل الصمت عليهما، ويلمحها تحدق شادرة في اللامكان والمجهول.
احساس أنه كان محبوساً، بين ما لا يستطيع أيٌ كان فهمه، ورغب من أعماقه التحرر منه.
تعايش مع ماهو مشابهٌ هو الآخر من طفولته حتى وقتٍ ما بمراهقته، كون ما مثل كلٌ من بيته وكامل قبيلته كسجنٍ له. وعسى أنه محظوظٌ لفلاحه في الفرار منه.
الحبس. الحرية.
توسعت حدقتاه. " هذا صحيح ! " تمتم، وقد انتعشت روحه لحضور النظرية. " يحرق السحرة أغراض وبقايا السحرة الآخرين المعادين لهم حال التخلص منهم، خشية أن تبقى لعناتهم وتعاويذهم نشطةً من بعدهم ! " عاد فكره تلقائياً لكوخه؛ والذي ملك نفس القصة، وبالكاد نجح في انقاذه من مصيره.
ابتلع ريقه، إما أن هذا سينفع، أو أنه سيهلك مصير البشرية جمعاء. لكنه لم يملك الوقت لمناقشة ذاته في مدى وجوب التجربة أم لا. سيظفر الشيطان بالطائر في أي وهلة إن لم يقم بحركةٍ ما.
لحظة ما نوى تنفيذ خطته، انكسر درعه على حين غرة، رأى إليس تكون كرةً هائلة من اللهب ستبتلعه كاملاً إن حصل ووجهت له أو لأي شخص بالحال الطبيعي. لكن ذلك لم يحصل.
وجهتها نحو الطائر.
بنفس الثانية، صاحت كأنما تملكها مغصٌ حاد، أقدامها لم تقدر على حملها، كانت تقول كلماتً غير مفهومة، وفقد كايرو إدراكه لهويتها بين الشيطان ونفسها. لكن ما كان متأكداً منه، هو أنها هي التي وجهت النار للطائر.
والشيطان لم يحب ذلك.
من جهةٍ أخرى، ارتفع الطائر الذي نعق بصوتٍ مرتفعٍ لأقصى سقف المكان، كان يحترق بأكمله، وذلك لم يدم طويلاً، سرعان ما فرد جناحيه؛ بادياً كأنه طائرٌ خرافي لا مجرد غراباً شكلياً؛ ثم أنارت كل الدنيا من حولهم إنارةً تُعمي.
حينما فتح كايرو عينيه، لم يصدق ما رآه.
مئات الطيور الأخرى !
هل انشطر؟! تساءل متعجباً.
حلقت كل تلك الطيور، والتي كانت غرباناً بدورها، أصغر حجماً من الأصلي وأكثر حيويةً منه، بمكانها. كانت رؤوسهم جميعاً تدور من جهةٍ لأخرى بسرعةٍ وخفةٍ فائقة، كأنما يستقصون حالهم، أو يبحثون عن أمرٍ ما.
وكانت تلك الحقيقة. ثبتت أنظارهم كلهم على إليسانيت.
هجموا عليها.
فزع كايرو. ثم هلع. جملةٌ واحدة سبحت في دهاليز فكره.
لا يمكنك قتلي. قتلي سيكون بقتلها.
سيقتلونه وهي معه !
غطوها فلم تعد تُبان أبداً. لم يكن يرى كيف كانوا ينقرون على جسدها باستمرار مع كل نقرةٍ ينتزعون جزءً منه. كانت تتعالج، وما اختطف من قوتها أو قوة الشيطان الكثير. تحول شعرها للأبيض، وضعُ التحول الذي سمح لها باستنزاف كامل طاقتها في علاج نفسها، وسُرعان ما باتت غير كافية بدورها لسرعتهم الشديدة، فاستئنفوا عملهم دون أي عائق يُبطئهم. صرخت.
أطلق كايرو موجةً من لهب وجهها على الطيور. نعقت جميعها مراراً وتكراراً، وبانت كشعل شموع طائفة أبلجت كل هذا المكان. استحالوا لشظايا. وساد الصمت.
اهتزت الأرض وكل ما حوهم، لم تصمد أمام قوة هذه الهزة أي صخرة وشرع كل ما حولهم بالتهاوي. صرخ كايرو بآرو أن يتبعه بينما حمل هو إليس وشكل من حولهم جميعاً درعاً سحرياً جديداً. لم يكن بقوة السابق، لكنه حماهم من الصخر المتساقط.
بما تبقى لكايرو من قوة، راح يهدم جداراً عنوةً ويبعد الصخور كي يتشكل لهم طريقٌ نحو الخارج. مشوا فيه بالكاد ينجحون في تجنب السقوط مع صخر الأرض الذي شرع في التشقق. سرعان ما وصلوا لآخر الجدار، وواجهتهم الأرض الخضراء. كان الجانب الخلفي للقلعة.
-" ماذا نفعل الآ- " قُبيل أن يستكمل آرو طرح سؤاله، حرك كايرو قطعة الصخر التي كانوا واقفين عليها، فصلها عن القلعة، ورويةً برويةً، أخذ يوجهها وأنفسهم نحو الأرض الحقيقية.
لحظة ما اقتربوا منها، فقد تحكمه وسقطوا جميعاً.
لم يبدوا أنهم أصيبوا بأذى، وأول ما أبصر آرو حال استقامته هو مشهد تهاوي ما تبقى من القلعة من أعلاها حتى أسفلها. " إلهي. " تمتم مندهشاً. فكر أنه لن ينسى هذا طوال حياته.
راقب كايرو إليسانيت. في حين اختفت معظم قواه، وعاد لشكله الطبيعي؛ كانت حالها العكس تماماً. لم يذهب عنها لا الشعر الأبيض ولا العينان الصفراواتان.
فتحتهما.
لم يملك حتى طاقةً للتأهب في حال كانت الشيطان. فقط ثبت مكانه، وراح ينظر لها متوجلاً.
احتاجت إليس بضع ثواني، لتتوضح وتفهم محيطها.
لقد عاد تحكمها ! بعد معركة طاحنة في غياهب العالم الذي أدخلها الشيطان به عنوةً، عادت أخيراً !
ولم يعجبها بتاتاً أيٌ مما رأت.
أول ما انتبهت له، هو قلعتها التي باتت جبلاً من خراب.
وثاني ما انتبهت له، هو الخصلات البيضاء المتنازلة منها.
راحت تتلمس شعرها. بالفعل. كان أبيضاً.
-" .. ماذا فعلت؟ " تساءلت بصوتٍ منخفض، حيرتها واضحة به.
هز كايرو رأسه أن ليس متأكداً، لكنه حاول الشرح بما فهم:" الطائر.. هو يحمل قوى إيفيلوس، وبالتالي فإن ابادته تعني ابادة قوته. تحول لمجموعةٍ كبيرة من الغربان هجمت عليكِ، تنوي قتلكِ، لكنني لم أستطع السماح بذلك. أبدتهم بدورهم، ثم هربتنا من هناك وها نحنُ هنا. "
غربلت كلامه في عقلها.
-" أنت تقول أن عملية التخلص من إيفيلوس لم تكتمل، لأن ذلك عنى موتي، وأنت لم تقبل؟ " أومأ لها. لم يدري حتى ما من الممكن أن تعتقد من ذلك. إيفيلوس هو عدوها الأسمى، لكنها أيضاً ولطالما ملكت إرادةً عظمة للحياة. ربحت وخسرت هذه الحرب بنفس الوقت. تمتمت:" هذا يعني أنه ما زال داخلي. "
لم يكن متأكداً لنفع هذا بالتخفيف عنها، لكنه قاله على أي حال:" لقد بات بلا قوة ! أنهينا على طائره، وهو أين كان يختزنها ويحميها. "
أبعدت نظرها عنه. حدقت في المدينة. كان بامكانها توضح أول مبانيها. لم يبدو أن الهزات وطأتها، ولابد أنها كونت خصيصاً بمحيط القلعة. شعرت براحةٍ طفيفة. كان أول شعور تشعره مذ استعادت تحكمها ووعيها.
وقفت، زفرت نفساً، ثم قالت مشيرةً نحو الأمام:" علينا احتواء هذه المعمعة. " وقد كان أمراً. وضعت يديها على خصريها مما لمح لكونها تفكر. أضافت بعد لحظات:" سنذهب لبيت أحد الوزراء، ونطلب اقامة اجتماع طارئ مع البقية منهم. عند هذه النقطة، وبعد ما حصل للقلعة، نحن نبدو كخطرٍ كبير. كقوة. علينا استغلال هذا التأثير. "
وقف كايرو بدوره وأومأ موافقاً. لكنه أضاف:" أنتِ لم تبدي رأيك حول ما حصل رغم ذلك. أنا قلقٌ عليكِ. "
هزت رأسها. " لا أدري ما رأيي. لكن ما أدريه، إن لم نتحرك فورياً لقلب كل هذا لصالحنا، سننتهي بمنظر أسوأ من مجرد فتاةٍ استعادت عرشها. " أشارت للقلعة، واستطردت:" سننتهي بمنظر التي أتت لتنتقم وتثأر من كامل الشعب. "
شرعت بعدها في المشي بينما نظر كلٌ من آرو وكايرو لبعضهما. قال آرو:" هي بالتأكيد تكبت مشاعرها. حتى أنا يمكنني أن أعرف. "
تنهد كايرو. " لكنها محقةٌ من جهة. لا يمكننا أخذ استراحةٍ الآن حتى لو أردنا. علينا تسوية وضعنا أولاً. "
تمتم آرو:" حظاً موفقاً في هذا. " للمرة الأولى، أحس ببهجةٍ لولادته بعائلة عادية، لا ملكية أو قيادية كل من يحمل اسمها سيتحتم عليه حمل مسؤوليتها للأبد أيضاً. بدا ذلك مرهقاً. مقيِّداً.
حالما باشرا في المشي بعد صياح إليس عليهما، قال آرو:" أريد شكرك. "
ابتسم كايرو. " توقف عن الشكر. أخبرتك كم من مرةٍ أنه لا حاجة له. "
-" عشت في الشوارع بما فيه الكفاية لأفقد الإيمان بهذا العالم. ثم يأتيني شخصٌ يحررني رغم أنه لا يعرفني –لأصدقك القول، حتى لو عرفني، لا أرى لم قد يخسر أي مالٍ علي-. شيءٌ ما فيّا تحرك من هذا الموقف. "
تذكر كايرو أخته. هز كتفيه. " ما من شعور يضاهي الحرية. "
نظر لإليس. لن تتحرر مهما فعلت بعد اليوم. سيستقر ذاك المخلوق داخلها، دائماً وأبداً، حتى وإن لم يؤثر بها؛ إحساسها بوجوده لن يندثر، حتى آخر رمق من حياتها. آلمه قلبه.
كور قبضته.
ربما لم يستطع انقاذها من هذا المخلوق اللامرئي، بيد أنه، ومن اليوم فصاعداً، لن يسمح لأي شخص أو شيء بالوقوف في وجه سعادتها.
اتخذ هذا وعداً على عاتقه.
•|🍎🍌|•
الفصل القادم هو الأخير x) 💕