فَتحت مقلتيها والظلمة تحيطهما.
تُحس بألمٍ على طول ذراعيها وقدميها، تمنت لو كان بإمكانها فرك عينيها؛ إلا أنها لا تستطيع، فمما أدركت مع توضح رؤيتها رويةً بروية؛ هي مُقيدة من كل جهة !
كان الوقت صباحاً، ما يعني مرور ليلةٍ كاملة، والريح المحملة بالرمال نشطةٌ كما أن الحرارة مرتفعة. قُيدت إليسانيت في منصة دائرية خشبية مرتفعة نسبياً عن الأرض، وبمُنتصف ساحة خالية تماماً إلا ومِن غيرها .
كأول رد فعل حاولت فكّ رباطي يدها المحكومي العُقدة لتتوقف بعد شعورٍ بالألم واكتشافها لا فائدة المحاولة، غيرّت الطريقة نحو صُنع شعلةٍ صغيرة تحرق بها الرباط ولو تسبب لها ذلك ببعض الجروح الطفيفة؛ بيد أن ذلك وعلى غير المُتوقع لَم ينجح !
-" إنها حبالٌ مقاومةٌ للسحر؛ أيتها الأميرة. " انطلق مدنساً صمت الجو صوتٌ تعالى بكل الساحة نظراً لفراغها، كان من خلفها مما اضطرها للانتظار حتى تقدم هذا الأخير؛ الذي أدركت تقريباً من كان ما كون بالفعل تكشيرةً بوجهها .
مشى ريدر حتى بات على مقربة من منصتها ومقابلاً إياها، وفي حين نوا الاستهلال في الكلام ظهرت قربه فجأةٌ شعلةٌ صُوبت لوجهه لكنه تفاداها، كسرت إليسانيت العمود الذي قيدها رغم عدم قدرتها على التخلص من الحبال التي لن تتأثر لا بنارٍ تحرقها ولا صخر يُقطعها، لكنها، وما أن وقفت مُستعدة للهجوم مجدداً أو لعل الفرار فورياً لأبعد بقعةٍ عن هنا؛ اكتشفت وتذكرت سبب نجاحهم في القبض عليها من البداية. المشعوذون.
أحاط بها عددٌ منهم لم يكن متواجداً قبلاً. اجتمعوا على اطلاق تعويذةٍ واحدة من خاصتهم جعلتها تسقط أرضاً مثلما حصل سابقاً، دون أيّ قدرة على الحراك أو المقاومة.
حاولت استخدام السحر مجدداً ولم تنجح، وحاولت بلوغ حالة القوى القصوى وإن عنت فقدانها السيطرة والمنطق وكذلك لم تنجح. كانت غاضبة، وكل ما ابتغته تمثل في مهاجمتهم جميعهم كي تفشي غليلها منهم.
هذا، حتى رأت كايرو.
سرعان ما عادت إليها ذكريات الليلة السابقة اتباعاً. كان يعمل معهم، فكرت وحاول كل جزءٍ منها نفي هذه الفكرة. لكن الواقع كان قوياً. كان يعمل مع ريدر، أي ومع جماعة إيفيلوس، مع من ..
ركزت نظرها عليه تُحاول محاربة أفكارها. أتت به مجموعةٌ من الجنود السود، كان مُقيداً هو الآخر، من الفم لليدين خلف ظهره، ما جعلها حائرةً، ما الذي يعنيه هذا؟
كأنما استقرأ تساؤلاتها، أجابها ريدر مبتسماً:" لا تقلقي. نحنُ لن نؤذيه أو نقتله، نحن نحتاجه واختراعاته التي أعانتنا الأمس كثيراً، فقط نتأكد مشاهدته للعرض حتى نُحفزه أكثر على العمل. إنه متقاعسٌ لا يملك أيّ ذرة إخلاص فيه، فبمجرد أن حقق هدفه رغب فجأة في قضّ تعاوننها وإفناء علاقتنا ! " هز رأسه متنهداً. " تخيلي معي، أيتها الأميرة، كيف يُمكن لبلادك أن تتهاوى في غضون شهور مع ملكٍ مثله إن صح وحصل على العرش؟ "
-" أنت مغفلٌ إن اعتقدت حقاً أن لك أيّ فرصة في الاستحواذ عليه وعلى كومين، نحن لسنا- "
قاطعها ضاحكاً:" من المغفل، أيتها الأميرة؟ كلاهما على حفى الوقوع في فخ القتال المُتواصل المُستنزف. مملكتكِ بالفعل مضطربة من عهد والدكِ ومن قبله حتى، ولن تصعب السيطرة عليها لمن يملك جيشاً كجيش ريدانا، بالإضافة لجنودي. وبعدها، كيف لكومين محاربة جيش مملكتين وأكثر دون الانهزام في النهاية؟ " عقد يديه خلف ظهره وأضاف:" المغفل هو المُستهزئ بقوى أعدائه، يا عزيزتي إليسانيت. "
تقدم مشعوذٌ من الذين حاموا بها، كانت امرأة صهباء، وفي حين كان لون شعر أجوان داكناً كان خاصة هذه فاتحاً، مُشابهاً كثير لشعر والدتها كما لديها عينان بنيتان. ملامح ماركونية، فإن لم تكن من هناك لابد أن أحد أفراد أسرتها ينحدر منها. لم تُظهر المرأة أيّ ملامح بوجهها، ومع مرور الثواني استخرجت من عبائتها خنجراً.
-" سيقوم حلفائي ببضع تجارب عليكِ. كوني مطيعة، وسينتهي هذا سريعاً. " قال ريدر ثم تراجع، بعيداً حتى موقع كايرو الذي همس في أذنه كلاماً جعله غاضباً فوق ماهو. لم تحتج فطنةً كبيرة لتعرف أنه يهدده ويتباهى بقدراته وما يمكنه فعله.
التقت عيناها وكايرو أخيراً. لم تستطع توضحها جيداً، لكنها أحست بعديدٍ من كلمات يرغب في تحريرها وما وجد وسيلةً سوى نظراته.
لم تستطع تحليلها لفهمها، إذ حصل ما منعها وشغل كل حواسها في لحظة.
شرعت المرأة في جرح إليس بوجهها. كان ذلك مؤلماً للغاية، حتى وكون أول جرحٍ مجرد جرح سطحي .. العجيب في الأمر، بعد ثوانيٍ من وجوده بدأ جلدها في الإلتئام وعاد لسابق عهده ! تعجبت هي وتعجبت المشعوذة أكثر، لكن عجبها ارعب إليس وتوضح أنه رعبٌ بمحله بعد ما فعلت بعدها ..
راحت تجرحها بمختلف البقاع. أعمق ثم أعمق ثم أعمق وإليسانيت تأن وتصرخ ألماً، كذا غيظاً وحقداً.
غيظٌ وحقدٌ وصلا لدرجةٍ لا يُمكن لأيّ كان تخيلها لدى كايرو.
كيف يمكنه الوقوف صامتاً وتقبل ما يرى؟
وكل هذا خطئه.
كل هذا يحصل بسببه.
إليسانيت تتعذب، تُجرح، تأن، كله بسببه ..
لمن بكت يوماً فقط لشعورها بالعجز.
لمن تُصر على استعادة الحُكم والعرش والسلام لبلادها حتى ولو كُرِهت منها وطُردت آلاف المرات ..
لإليس وهي تتألم، بل وتحت شهادة من يجب أن يقف بصفها !
انتبه أقرب جندي لسكون الفتى الذي يحرس المثير للريبة، فألقى بنظره نحوه وشهق اندهاشاً قُبيل أن تتحرك يده تلقائياً لمقبض سيفه.
رأى في لحظاتٍ قصيرة تغييراً عجيباً وقد حلّ به. أخذت خطوطٌ بيضاء بالتكون فيما يظهر من جلده، سُرعان ما كست وجهه الذي كان للعينان فيهما نصيبٌ من التحول أيضاً؛ فما كان بياضاً بات سواداً والبؤبؤ والقرنية كلاهما أضحيا بيضاوتين ! كان المنظر مُرعباً ومربكاً للجندي، لكنه حسب أنه نوعٌ من أنواع السحر واستعد كردّ فعل للهجوم بعدما حذره ولم يرد عليه..
بعد فوات الأوان.
بالكاد يُمكن رؤية ما يتلي، لا لشيء إلا لسرعة حدوثه.
جنديٌ واثنان وثلاثة، كانوا واحداً تلوى الآخر يرمون بعيداً كأنما هم حصيات صغيرة، بضعهم يرتطم بقوةٍ والأرض ما يتسبب بوفاتهم وآخرون لفقدان الوعي. تقدم حال انتباههم المشعوذون الذين أوقفوا عملية حجز قوة إليس فلا تقاومهم، استخرج مشعوذٌ صخرةً عملاقةً من الأرض وصوبها باتجاه كايرو، لكنها عادت فورياً له وبقوةٍ ضاعفت خاصته مهشمةً رأسه ! تكرر الحال مع مرور الثواني مرةً بهجومٍ ناري عُكس فحرق صاحبه، وآخر مائي حوله لجليد اخترق جسد من أنتجه أصلياً.
لم يصحّ حتى تسميتها بمعركة، فأحد الأطراف كان يُباد بالكامل وبالكاد نجح أيٌّ منهم في المقاومة قليل اللحظات.
قد كانت مجزرة.
غير آبهٍ بهذه الحقيقة، وحالما فرغ المكان من أيّ أعداء، تقدم كايرو نحو جسد إليسانيت المنكوب أرضاً. لمح الخنجر الذي كانت تستخدمه المشعوذة مُسبقاً مرمياً قربها لا يُبان من معدنه شيءٌ وهو مزدانٌ كاملاً بالدماء. لكنها كانت بخير، مما هو واضح. ما من جزء من جسمها مجروحٌ ولا حتى آثار بسيطةٌ تدل عليهم، وكل ذلك بفضل قدرتها في العلاج.. بفضل الشيطان.
يالسخرية. لو لم يتواجد هذا المخلوق بداخلها، ما كان وجهها ليكون على حاله هذه بتاتاً.
وكل هذا بسببه.
-" أنا آسف .. " تمتم، لا يمنع الدموع من التكون في عينيه المُختلفتين. " أردتُ عقابهم على أذيتهم وتسببتُ في أذيتكِ بالمقابل، لكنني لم أنوي الاستمرار في.. " لم ترد عليه، أو تسمعه، بطبيعة الحال ووعيها لم يكن حاضراً، فقرر تأجيل اعتذاره ثوانٍ حتى يوقظها؛ وحينما قرّب يده نحو خدها في محاولةٍ لذلك؛ شعر فجأة بصعقةٍ من الاحتكاك فأبعدها فورياً.
رمشت إليسانيت مرةً، ثم فتحت عينيها .. لونٌ أصفرٌ قويٌ زاهيٍ صبغهما.
كان نظرها موجهاً للسماء فيما قد يساوي النصف دقيقة، لكنها سرعان ما غيرته نحو كايرو. ثم ابتسمت.
-" وأنا الذي تساءلت عن قُدرتك في صدي ! " قالت، أو قال الشيطان المُستحوذ على جسدها، ثم ارتفعت لتقف وتستطرد:" ها قد أظهرت حقيقتك أخيراً، يا عدوي. "
وقف كايرو بدوره مرتبكاً، يعلم أنه بحاجة الاستعداد للهجوم لكنه لم يجد بداخله القدرة .. ما كان يريد إيذائها ! ليس مجدداً ولا أيّ بأي وقتٍ آخر !
تحركت إليسانيت نحو جثة جندي، التقطت من قربها سيفه وحركته بين يدٍ وأخرى، ثم تقدمت نحو كايرو؛ تزداد ابتسامتها وسعاً مع كل خطوة.
قالت:" مرحباً، أيها اللاي فوريم. "
•|🍎🍌|•