سُكّر غامِق

By xxfayaxx

384K 16.5K 8.8K

ذات العينان الغائمتان تحمِلُ قلباً نقيّاً بروحٍ مُشوّهة وقد ظنّت انّ الحُبّ ابعدُ ما يكون عن قلبها المُرتعِد... More

تشويقة
لعنة رضوان
تتزوجيني ؟
نيران الانتقام
وعود
وجع القلوب
مشاعر غريبة
قبلة و هروب
غالية
اشواك الورد
سيد خجول
زُمُرّد
ما قبل العاصفة
حقائق
ارواح تائهة
تعاويذ القدر
طوفان
وجوه الحب
سقوط
تعب
تشتت
طفولة
حب وحرب
رجال العشق
عذاب
وصية
عِطر
بدايات ونهايات
توق
أقدار العمر
النهاية (عبق الماضي)

ابناء ايمن

13.5K 602 231
By xxfayaxx

- من قال هذا، انتَ سيّد شباب العائلة يا اصل الوسامة بعائلتنا .
قهقه كُلّ من كِنان ورضوان الذي ادار الفتاة التي تتشبّثُ بعُنقه هامِساً:
- يا لكِ مِن مُشاغِبة .
إحتضنت -غصون- جدّها و إرتسمت إبتِسامة شقيّة على شفتيها الصغيرتان و تغضّنت زاويتي عينيه العسليّتان المُتسِعتان وهتفت قائلة بزهوٍ مرِح:
- يليقُ بي الشغب؛ أولستُ حفيدة رضوان بك؟.
إبتسم رضوان بشرود واخذ يمسحُ على شعرِ غصون الناعِم المُتساقط على كتِفيها بعفوية .

جلست غصون ايمن رضوان على مقعدها بعد ان القت التحيّة على كِنان وفي تلك الأثناء دلف بُراق برفقة ليليان التي إقتربت لتُلقي التحيّة على جدّها بينما هتف جواد ابنها بسعادة:
- مرحباً خالي!
اغلق كِنان حاسوبهُ فور تسلُل نبرة الصغير الطفولية لمسامعه فنهض ليحمِلهُ عليها هامِساً بسعادة تجسّدت على صوته المُشِعّ عندما قال:
- مرحباً يا فتى، كيف حالك اليوم؟
قهقه جواد بمرح وهو يُطالِع الأرض من علوّ ويهتِف بنبرة قويّة -بالرغم من برائتها -:
- انا بخير، وقوي كالأسد.

هتف كِنان بضحكة:
- قوي كخالك.
نظر رضوان لحفيده الأكبر بعينان يملؤها الألم وكم بدى لهُ كطفلٍ صغير يلهو بلُعبته المُفضّلة. كِنان مُتعلِق بإبن اُخته بطريقةٍ غريبة، ويكاد يستقِلّ مكان والده فمنذ ولادة جواد إشتعلت عواطف كِنان بأبوّةٍ مُتفجّرة اغدقت الصغير الوسيم الذي يحمِلُ صِفات خاله كُلّها، وكأنهُ نُسخةً حديثة لذلك الرجُل الحنون .

جلست ليليان بأناقة بجانب زوجها العابس بغضبٍ طفوليّ رافِضاً النظر الى وجهها لتلتفِت ناوية الحديث الى جدّها ولكنها تجِدهُ شارِدًا يتأمّل كِنان الذي يضعُ جواد بين ذراعيه مُداعِبًا إياه ورُغماً عنها تنهّد بضيق على حال اخيها الذي تجاوز الثالثة والثلاثين من عُمره ولم يُفكِر بالزواج بالرغم مِن حُبّه المجنون للأطفال. هذا فضلا عن انهُ على حدّ علمها لم يقع في الحُبّ مُسبقاً ولا يبدوا لها من الرجال ذوي العاطِفة الهادِرة فهي مُتأكِدة مِن انهُ يستطيع العيش بحياة زوجية عادية عمليّة دون عامل الحُب مما يعني انّ عدم تفكيره في الزواج وتكوين عائلة ليس له مُبرِرات .

يكفي انّ اخيه الصغير تزوّج قبل عامين وهي التي تصغُره بخمسة اعوام تزوجت وانجبت وما زال هو مُنغمِساً في دوّامة العمل -الذي لا يُمكِن ان يتخِذهُ مُبرِراً للعزوف عن الزواج- إلتفتت فجأة لتقبِض على بُراق -الطِفل الغاضِب- يختلِسُ النظر اليها لتبتسِم بإغراءٍ لا تتكلّفهُ و شفتيها المُكتنِزين تُتمتِمان دون صوت:
- اُحِبُّك .

وكالعادة يرتبِكُ هو بعُنفٍ مكبوت وكُلّ حصون دِفاعاته تتحطّم امام كُتلة الغنج التي تُخِصّهُ بغزلِها الفاحِش جدّاً امام الجميع ببراءة ماكِرة مُدرِكة تماماً انه يملِكُ مِن الوقار ما يمنعهُ عن سحق شفتيها امام الجميع مُصمِتاً حديثها الخفي .

بعد عشر دقائق كانت عائلة رضوان جميعها على مائدة الإفطار ما عدا تالين وكريم فهمست سيّدة وقورة بملامِح هادئة ترتدي ثوباً كلاسيكيّاً بأكمام طويلة ولون ابيض ناصِع يتناقضُ مع لون شعرِها الفاِحم بالرغم من خُصلات الشيب التي تتخللهُ بخجل بينما عيناها الفيروزيّتين تنبِضان بالحنان والرِقّة، همست بقلق:
- اين هي تالين اليوم؟ ليس بعادتها ان تتأخر الى هذا الوقت.

همس كنان بإبتِسامة مُجيباً على تساؤل والدته بمكر:
- لن تأتي الأن؛ فكريم عاد قبل ساعات قليلة.
إحمرّ خدّي والدتهُ هامِسة بسعادة:
- حقّاً؟ لماذا لم ينتظِر الى ان يحلّ الصباح ويأتي، ولماذا لم يُخبِرنا بقدومه؟.
اجاب كِنان قائلاً:
- إبنكِ هذا اصبح مُتسيّباً عن عمله، فمن المُفترض ان يعود بعد إسبوعين ولكنّهُ عاد مُسرِعاً لأجل ...
- زوجتي حبيبتي

اجاب كريم الذي دلف برفقة تالين التي بدت كوردة في مطلع الربيع بثوبِها الزهريّ القصير الناعِم المُشابه لغيمة الحُبّ التي كانت بها قبل قليل وقد بدى وجهها مُتوهِجاً بتورُدٍ جميل و قد هال كِنان منظر زوجة اخيه التي اقسم بالأمس انها على وشك السقوط من الشحوب والحُزن الذي خطّ ملامِحها الطفولية، اما الأن فقد بدت كمنّ دبّت الروح في جسده بعد ان كان على وشكل الإحتِضار .

احنت تالين وجهها بخجل واعيُن الجميع مُسلطة عليها وكريم الذي هتف بسعادة:
- اتيتُ باكِراً لأجل زوجتي الحُلوة فقد إفتقدتها كثيراً، وإقترب مِن والدته ليُقبّل جبينها هامِساً بحُب:
- وبالطبع لأجل اميرتنا اسمهان الحُلوة.
إحتضت اسمهان ابنها بحنان و هتفت بنبرة اموميّة حانية:
- إجلس بجانبي يا بُنيّ، هيا لتتناول إفطارك، تبدوا شاحِباً من فرط الجوع.

جلس كريم و بجانبه تالين الصامِتة بخجل يكاد يُفجِرُ وجهها مِن الإحمِرار غير مُصدّقة لساعات السِحر التي قضتها برفقة زوجها الحبيب وقد تسلّلت اليها رغبةً انانيّة بالإحتِفاظ به بعيداً عن صخب العمل والعائلة ليبقى لها وحدها دون غيرها .

قبل ان يُغادر الجميع لأعمالهم نقر الجدّ بشوكته على حافّة كأس البُرتُقال الذي يرتشِفهُ عادةً صباحاً فإلتفت الجميع اليه ليُلقي نظرة سريعة على افراد عائلته الكبيرة، على يمينه حفيده كِنان ووالدته -السيّدة اسمهان- و على يساره إبنيه عماد وزوجته إيناس و ايمن و زوجته جلنار. وبقيّة الأحفاد الذين يُشكِلون جمعاً دافئاً يجلسون حوله يُطالِعونه بإحتِرامٍ مغروس بأصغرهم قبل اكبرهم. وبالرغم من سعادته بتكوين عائلة قويّة مُتماسِكة الاّ انّ شعوراً مريراً يجتاح فؤاده مؤخرا، لِما تسبّب به احد ابنائه سهواً ولكنّهُ الآن يدفع ثمنه عنه .

زفر بإرتِجاف و قال بصوته الصارِم:
- اُريدُكم جميعاً في المساء، إلغوا اعمالكم و تفرغوا لنتناول العشاء سويّاً فهُناك امر مُهِم عليكم معرِفته وثمّة قوانين جديدة ستُخرج في هذا الإجتِماع .
زفر أحد الأحفاد بملل وهو الأكثر تمرُداً على قوانين العائلة و إختلافهُ عنهم يظهر جليّاً بمظهره الشبابيّ الثائر بشعره البُنّي المُجعّد بكثافة و ثيابه المكوّنة من الجينز المُمزّق الذي ظهر بكثرة في هذه الأيام إضافةً الى سُترة صفراء فاقِعة ليبدوا كأحد مُتشرديّ المدينة.

نظر رضوان لحفيده بنظرةٍ حادّة وهتف بتهديد:
- شِهاب! إيّاك ان تتخلّف عن هذا الإجتِماع فلا ينقُصني تمرُدكَ الآن.
واجه شِهاب نظرات جدّه هامِساً بطاعةٍ مُصطنعة:
- امرُك جدّي .
لم يُعاتِبه رضوان كعادته واكتفى بإيماءة شارِدة الى ان همست ليليان قائلة:
- اليوم لديّ عشاء عمل مُهم بخصوص صفقة المُعِدّات الطبّية الجديدة .

هتف الجد بنبرة صارِمة مُجهدة:
- الغوا كُلّ مواعيدكُم، لأمر يخُصّ كُلّ افراد العائلة ولا يحتمِلُ التأخير.
واضاف بداخله:
- يكفي سنين العذاب التي واجهتهم .
تشارك كنان مع بُراق بنظرات مُتسائلة وقد بدى على كِليهِما عدم معرفة سبب الإجتِماع بينما غادر رضوان مائدة الطعام كابِحاً كُلّ تساؤلاتهم .

.
.

افاقت ريفال بمزاج سوداوي وعينان مُنتفِختان من قلّة النوم وقد اعاد اليها حوارها مع اوس ذكريات قاسية حاولت عبثاً نسيانها ولكن ما لم تعرفه سوى بالأمس انها لن تستطيع محو هذه العائلة من حياتها ابداً واوّل ما لن تستطع تغييرهُ هو الاسم المُقترِن بأسمها على هويّتها .

ريفال ايمن رضوان، و لكن لفرط بساطة المكان الذي تقطُنه فلم يشُكّ اي احد بهويتها واخيها فمن الممكن ان يكونون لا يعلمون من الأساس من هو رضوان فؤاد، ومن يعرفه سيظن انه بالتأكيد مُجرد تشابُه؛ فكيف لفتاة فقيرة لم تُكمِل تعليمها ولا تحمِلُ صِنعةً سوى صُنع الحلوى بمتجرها الصغير لتعول اخيها وابنة خالتها اليتيمة ان تكون ابنة أكبر عائلات البلاد؟!

هي نفسها تتعجّب من الأمر وما يُثيرُ حيرتها اكثر هو انّ ايمن منحها واخيها اسمه ولم يتبرأ من نسبهما اليه و بالرغم من الأذى الذي طال والدتها بسببه فقد كانت تُحبّه بطريقة تكاد تميلُ للجنون وهذه الحقيقة الوحيدة التي تجعلها تؤمنُ بوجود الحُبّ الذي يشبهُ آلام المخاض لاُنثى ترغبُ بطفلٍ منذ اعوامٍ طويلة، ليصبِح الألم حينها الذّ ما قد يُخبئهُ القدر .

ذلك الحُبّ المؤلم حدّ الموت فالموت في ملاحم الحُبّ الروائية ليس سوى تجسيداً لواقع عاشتهُ بإمتِياز فوالدتها الحبيبة توفيت بعد ان تركها زوجها وحبيبها وقرّر الإمتِثال لقوانين العائلة التي تقتضي الزواج من احدى فتيات الطبقة الراقية ولأنهُ جبان لم يستطِع المُقاومة في سبيل حُبّه لها بل اخبرها بدمٍ بارِد موعد زواجه.

وبالرغم من صِغر سِنّها حينها الاّ ان بخيالها تُقسِمُ انها تسمعُ انين شهقات والدتها يومياً وهي بين ذراعيها طفلة في الثانية من العُمر .
افاقت ريفال من ذكرياتِها على صوت جوان الرخيم وهي تُدندِنُ بأحد الأغاني المحليّة اثناء تذويبها للشوكولا لقالب راقصة الباليه .

وكم بدت بريئة بثوبها البسيط ذو الازهار الخضراء الصغيرة وشعرها المجدول على احد كتِفيها، وكم شعرت ريفال بالأسفِ على حال تلك الوردة الجميلة فهي تستحِقُ حياةً افضل من هذه الحياة ولكن ما باليد حيلة؛ فهي كحال ريفال لم تُكمِل دراستها فقد انهت المرحلة الثانوية بعد جهودٍ مُضنية لدفع مصاريف الدراسة وبالرغم من تميُزها الاّ ان الأمر انتهى بها بائعة حلوى صغيرة.

جوان التي تحمِلُ ملامِح والدتها وخالتها قد جائت للعيش برفقتهم منذ ان كانت بالخامِسة من العُمر فقد توفي والديها بحادث سير خرجت منهُ بأعجوبة و رفضت جدّتها لأبيها ان تعتني بها فأخذتها خالتها بصدرٍ رحِب لتُربيها برفقتهما. وكم بدت هادئة باكية في ذلك الزمن الى ان تعمّقت علاقتها بكُلّ من ريفال واوس اللذان كانا نِعم الأخوين لها والى الآن هُما كذلك و ثلاثتهم يُشكِلون كياناً واحِداً جابه الكثير من العقبات في سبيل العيش في هذه الحياة .

إختلست جوان النظر لريفال بإرتِباك لتهمِس الاُخرى بينما تفرِدُ عجينة السُكّر بكُلّ تركيز:
- ماذا تُريدين؟ تحدّثي.
ابقت جوان عيناها على السكين التي تقطِع بها قِطع الفروالة وهمست بنبرة مُترجية:
- منذ زمنٍ طويل لم اشتري ثوباً جميل، هل يُمكنني ان ابتاع واحداً للحفل؟

رفعت عينيها الى جوان لتقتُلها نظرة التوسُل بعيناها وقد عضّت على شفتيها بخجل لتهمِس بداخلها:
- آهٍ يا حبيبتي! ليتني املكُ ما يجعلكِ اميرةً كما تستحِقين فوالله لو بإمكاني بيع حبّات عيني لأجل إسعادكِ لفعلت .

وكم تُجاهِد لتُخفي مشاعِرها الحزينة بقناعٍ رخامي صلب وها هي تهمِسُ بصوتٍ هادئ لا ينمّ عن اي مشاعِر:
- حسناً، ولكن يجِبُ ان اُرافِقكِ ولديّ الآن عمل كثير.
هُنا تدخلت فاتن -التي إتفقت مع جوان مُسبقاً- قائلة:
- لا تقلقي سأصطحِبها معي فأنا ايضاً سأشتري ثوباً للحفل، سنُساعِدكُم قليلاً ونذهب للسوق بينما تُكملان انتِ و اُمّي صُنع القالب.
- حسناً .
همست ريفال وعادت لعملها بصمت و المٌ عظيم اطبق على رأسِها لتشعُر بأنها على وشك الإغماء فتقرِن حاجِبيها بألم وتتحامل على نفسِها مُتجاهِلةً إياه لكي لا تُقلِق من حولها و لأنها لا يجب ان تمرض ابداً فعائلتها تحتاجها لذا فليذهب الألم الى الجحيم .

بعد وقتٍ قصير إرتدت جوان مِعطفها السميك تحسُباً للعواصِف الماطِرة التي تُنبئ بها برودة الجو بالخارج فالخريف قد بدأ منذ اسابيع. فتحت ريفال حقيبتها الجلدية الصغيرة و مدّت اليها اوراقاً نقديّة لتأخُذها هامِسة بتلعثُمٍ خجول:
- ولكنّها كثيرة، لن اشتري ثوباً غالياً يُمكِننا الإحتِفاظ بباقيها لأجل مدرسة اوس .

اجابت ريفال وغصّة مؤلمة تتكوّن بمُنتصف حلقِها:
- لا تقلقي فقد ذهبتُ قبل يومان لأكمال اقساط المدرسة، إذهبي وإشترى اجمل الثياب و لا تنسي ان تشتري حِذاءاً جميلاً فأحذيتك كُلها قديمة، هيا لكي لا تتأخرا فالجوّ لا يُنبئُ بالخير .

غادرت جوان و فاتن لتتنهّد ريفال بضيق وتُعيد تركيزها على قالب الحلوى الذي سيأخُذُ وقتاً طويلاً ليجهز ولكن ثمنه -الذي يُوضع في خزنتهم الصغيرة مع باقي النقود ليُقسّم بنهاية الشهر على اربعة افراد- يُعدّ مبلغاً لا بأس به .

فبالرغم من بساطة المحلّ الاّ انه يلقى رواجاً جيّداً من قٍِِِبل سُكّان الأحياء المجاوِرة متوسطي الدخل ولأن ريفال تمتلك المكان فإنّ المُتبقي من النقود بعد إستِيفاء ثمن المُشتريات يُقسّم على اربعتهن، فاتِن، ووالدتها -السيدة نور- بينما هي وجوان يصرفن نقودهنّ على إحتياجات المنزِل ومصاريف اوس من دِراسة و ثياب و بعض من الترفيه الرخيص المُتمثِل في نادي المُصارعة التي تُعدّ احبّ الرياضات الى قلبه لذلك لم تبخل عليه بتعلُمِها ولو كان الثمن حِرمانها من الكثير من احلامها .

.
.

ابعدت ليليان نظّارتها الطبّية ذات الإطار القُرمُزي عن عيناها لتُمسِد بأنامِلها بين حاجِبيها الكثيفان قبل ان تُغلِق الملف الموجود امامها وتضغط على الزِر الموجود على الجِهة اليُمنى مِن الطاوِلة لتدخُل السكرتيرة وتقول:
- امرُكِ سيدتي.

اجابتها بنبرةٍ مُرهقة:
- خُذي هذا الملف و اطلبي من السائق ان ينتظِرني بالأسفل .
إقتربت الشابّة العشرينية لتأخُذ الملف بهدوء وقبل ان تخرُج اوقفتها ليليان هامِسة
- هل إعتذرتي لوفد العُملاء؟
اجابت السكرتيرة قائلة:
- نعم سيدتي، وحددتُ معهُم موعِدًا في الغد، سيكون عشاء عمل لأن جدول اعمالكِ مُمتلئ.

اومأت ليليان بتعب وعيناها تكاد تذوب من الإرهاق فقد كان الشهر الماضي مُرهِقاً بشدّة فبالرغم من حُبّها لعملها و إرتِقاءها فيه الاّ انها إكتشفت انّ لكُلّ إمرئ طاقة تحمُل ولا يُمكِنها إدارة شرِكة كامِلة لوحدها. فمُنذ ان تخرّجت من كُليّة الصيدلة عمِلت مع اخيها كريم الذي يصغرها بعامين .

حيثُ يُديران الشرِكة الخاصّة بالأدوية والمُعِدات الطبية التي تندرِج تحت مجموعة رضوان الاكبر التي تضُم شركة للإلكترونيات وهي من إدارة كِنان و ابن عمّه شِهاب و اُخرى للسيارات وتِلك من إدارة زوجها بُراق و اخيه ادهم بينما الشرِكة الأساسيّة التي تختص بتجارة الفواكه والبقوليّات فهي تحت إدارة اعمامها عِماد و ايمن وجدها.

ببساطة عائلة رضوان تُهيمِن على رأس المال الأكبر في البلاد وبالرغم من ثراءها الاّ انّ افرادها لم يُمارِسوا السياسة ابداً وإكتفوا بالبروز في مجال الإقتِصاد. ولم يكُن غريباً على افرادها ان يتميزوا جميعاً بشتّى المجالات.

دلفت ليليان للسيارة واسندت ظهرها على المقعد الوثير قبل ان تقول للسائق:
- الى شركة السيارات، الفرع الرئيسي.
اغمضت عينيها لدقيقةٍ كاملة قبل ان تفتحها مُتأوِهة بألم لتُدلِك عُنقها و تُزيل ربطة شعرها فتتخللهُ بأصابِعها ليثور كعادته حولها وقد بدت حينها لوحةً من الجمال الصلب المُتعب فعيناها مُرتخيتان و حُمرة شفتيها باهِتة وملامِحها الحادّة ناعِمة على غير عادتها.

بعد دقائق، يطرُقُ حِذائها القُرمُزيّ الأرضية البيضاء اللامِعة مُثيرةً شغباً لذيذاً يجتاح كُلّ من يراها بمظهرها البريّ الجامِح وشعرها يرفِلُ حول رِدفيها المُمتلئين مُرهِقاً نسمات الهواء الشبِقة التي تُلامِسه بنعومة عابِثةً بأطرافه المُجعّدة وقد بدت كفرسٍ جامِح بطولها الفارع كأغصان البان و انفها الاغريقي يكادُ يُلامِسُ السماء انفةً و ثِقة .

إجتاح عِطرها القويّ انف مُديرة اعمال بُراق فرفعت رأسها للتحقُق من مصدر رائحة الكراميل اللذيذة وقد اقسمت انها تشعُرُ بطعمه في فمِها، فغرت شفتيها بغباء وهي ترى مدام ليليان جواد رضوان بذاتها على الحقيقة، لقد رأتها كثيراً في صُحُف المدينة و بدت جميلة للغاية الاّ انّها الأن اكثر هيبةً و جمالاً بل اكثر فِتنةً مما يُقال عنها .

سيدة الأعمال الجميلة التي اذهلت خُبراء الإقتصاد بنهضتها بمجال الطب والأدوية، الأميرة المُدلّلة حفيدة الملك ذو المال والجاه والادهى زوجة ابن عمّها المُبجّل بُراق عِماد رضوان، ايّ حظّ تمتلِكهُ هذه المرأة! جمال ومال و زوج مِثالي، حسرةً عليها هي ذات الحظ النحِس. تنهّدت بحسرة و ليليان تُراقِب شرودها بملل الى ان همست بصوتِها الذي يشبه اجراس الكنائس:
- هل السيد بُراق مُتفرِغ؟

نهضت الفتاة بإرتِباك بعد ان كانت جالِسة بفمٍ مفتوح وعينان مُتسِعتان وهمست بتلعثُم:
- مرحباً آنِستي، اقصد سيدتي! مدام ليليان أليس كذلك؟ هذه اوّل مرّة تزورينا هُنا .
اغمضت الفتاة عينيها لاعِنة غبائها بينما احد حاجبيّ ليليان يرتفِع ببُطء الى ان فتحت عينيها لتُجيب بنبرة مُتماسِكة قليلاً:
- أعتذر سيدتي، سيد بُراق لديه إجتِماع الآن ولكن سأُخبِرهُ فوراً بقدومكِ، تفضّلي سيدتي.

اجابت ليليان برزانة:
- لا تُخبريه، اُفضِلُ إنتِظارهُ.
وتحرّكت لتجلِس على احد الأرائك السوداء الفخمة ووضعت قدماً فوق الاُخرى بأناقة قبل ان تهتِف بصوتٍ آمر:
- قهوة سوداء لو سمحتي.
رمشت اكثر مِن مرّة في مُحاولة للتخلُص من سِحر تلك المرأة ذات العينان اللتان تشربتا بلون القمح الأسمر.

اثناء تصفح ليليان لأحدث ابحاث الطب على هاتفها الحديث خرج بُراق مِن مكتبه برفقته رجُلان ويبدوا انّ إجتِماعهُم كان مُثمِراً فقد بدى بُراق مُبتسِماً بوقاره الذي يُحسد عليه لتتجمّد بسمته على حافّة شفتيه وتنقطِع انفاسه لثوانٍ قبل ان تعود بقوّة وقد صُعِق بشراراتٍ كهربيّة لاسِعة سرت مِن عيناها على سائر جسده وعيناهُ تلتهِم شعرها المُتناثِر بفوضى مُحبّبة مروراً بعيناها، انفها، وجنتيها، فمِها الشهي، عُنقِها الأسيل.

إنتفض عندما غزت عيناهُ مناطِقاً محظورة وللحظة إتقد الغضبُ بعيناهُ وهو يرى احد عُملائه يقترِبُ مِنها وينحني ليتقِط يدها مُقبِها برقّة ويهتِفُ بصوت بدى مُقزِزاً كريه:
- هذه اجمل الصُدف سيدتي الجميلة، ليليان رضوان بذاتها؟!

إبتسمت ليليان إبتسامتها المُغوية التي تفتِكُ بأعتى الرِجال وهمست بصوتٍ ذي رنينٍ مميّز:
- مرحباً سيد امجد، كيف حالك؟
إبتسم المدعوا -امجد- بظفر وما زالت يدهُ تُمسِك بأطراف اصابِعها لتشعُر فجأةً بيدٍ قاسِية تقبِضُ على يدها بطفولية بحتة قبل ان تحتضن ذات اليد خصرها بتملُكٍ سافِر ليهمِس صاحِبها بصوتٍ يُنذِرُ بعواصِف الخطر:
- مرحباً حبيبتي، كُنتُ سأمُرّ عليكِ حالما أُنهي اعمالي.

طبع شفتيه على فمِها بما يشبه القُبلة ليتسلل الإرتِباك اللذيذ الى وجنتيها فيهمِسُ بجانب اُذنها بغضب:
- سأقتُلكِ!
إبتلعت لُعاباً خفيّا بأقصى حلقها لينبِضُ عُنقها بحركةٍ بطيئة اوهنت ساقيه ليُحمحِم الرجُل -المُشاهِد للفاصل العاطفيّ بتسلية- هامِساً:
- استأذِنكم، فُرصة سعيدة سيدة ليليان، سنلتقي قريباً سيد بُراق.

غادر امجد ليسحب بُراق زوجته لداخل مكتبه و يُغلِق الباب بعُنف مُحاصِراً اياها بذراعيه وعيناهُ تقدحُ بالغضب ليهمِس بحدّة:
- لماذا اتيتي بهذا الشكل؟ هل جُننتِ لتُطلِقين شعركِ بهذا السِفور؟ ام انك تستمتِعين برؤية اعيُن الرجال تلتهِمكِ؟ انتِ حقّاً غير معقولة، وكيف تسمحين لرجُل غريبٍ بتقبيل يدكِ؟! ذلك ال ...
هتف بأخر حديثه بلفظٍ بذيئ جعلها تعقِد حاجِبيها بتقزُز قبل ان تهتِف بحدّة مُماثِلة:
- نعم جُنِنت لأنني اردتُ الإعتذار اليك عن ما حدث في الصباح، جُنِنتُ لأنني ظننتُ انك ستسعد برؤيتي، وها انتَ تُثبِتُ لي خطئي بالمجيء لرؤيتك.

صمتت قليلاً تأخُذُ انفاساً مُتهدِجة قبل ان تُكمِل مُشيرة لمظهرها:
- ثُمّ ما به مظهري؟ هل هو لا يليقُ بمكان عملك رفيع المستوى ام انني لا اليقُ بفخامة الصرح البهيّ؟ اتعلم انا المُخطئة لأنني فكرتُ للحظة بقلبي الغبيّ وإشتقتُ اليك ولم اُدرِك انك هُنا لست سوى ذاك الرجُل الوقور مُتجمّد المشاعِر .

قذفتهُ كلماتها القاسية المُمتزِجة بالألم بشدّة وقد إخترقت قلبه كشظيّةٍ ساخنة الهبته بنيران الألم فرمقها بحزن وعيناها المُنهكتان لامِعتان بشدّة وشفتيها ترتجِفان رُغماً عنها الى ان ازاحت عيناها عن مرمى بصره وقد تضاعف ألم راسها فترنحت ضاغِطة على جبينها بألم ليُريح رأسها على قلبه النازِف ويمسحُ على شعرها المجنون بهدوء بالرغم من مجازِر الألم المُستعِرة بداخله ولم تستطِع هي الإبتعاد عنه مُدرِكة تماماً انها تحتاجه لوجوده ولو كان مؤلِماً .
إبتعدت عنهُ بعد دقائقٍ لتهمِس بصوتٍ باهت
- هل يُمكِنك ان تأخُذني الى المنزِل ؟
اومأ اليها بصمت وعيناه تُطالِعها بألم و حُزن وإنكِسار فكم هو مؤلِمٌ كبح النفس عمّا ترغب .

.
.

في المساء تأنّقت جوان بفُستان اسود ناعِم عانق بياض بشرتها الشاحِبة بشقاوة مُظهِراً ساقيها النحيلان و قد غطى كتِفيها الى مِرفقيها قُماش الدانتيل المُخرّم بلونٍ احمرٍ قانٍ مُماثِلاً لكعب حذائها العالي الجميل الذي إبتاعتهُ بنقودٍ إدخرتها منذ مدة طويلة لتبدوا في غاية الروعة وشعرها الأشقر الطويل على هيئة ذيل حصان .. لم تكُن مُثيرة بل كانت بريئة بطريقة تخطِفُ الأنفاس فملامِحها بدت رقيقة للغاية كحال شخصيتها .

بينما إكتفت ريفال بإرتِداء بنطال جينز ازرق مُتسِع يعلوه قميص بُنّي و جاكيت بلونٍ ازرق فكانت كُتلة من الغموض والوقار الذي عارضهُ منظر شعرِها الكثيف المُجعد المُتساقِط على جبينها مُخفياً لون عينيها .
جلست ريفال بأحد الطاوِلات البعيدة تُراقِب الحفل بصمت بينما شرعت جوان في الحديث الى صديقاتها من فتيات الحي الﻻتي كُنّ معها ذات يومٍ بالمدرسة والأن جمِيعهُنّ يدرُسن بالجامِعة ما عداها .

كان الحفل في احد حدائق الحارة المفتوحة التي تحتوي على بعض الكراسي والطاولات التي يشغِلها افراد الحي بينما هُناك كُرسيّان مُزركشان يجلس عليهما احمد الفتى السيء ذو الأخلاق الفاسِدة ومخطوبته ليلى زميلة جوان .. الفتاة الرقيقة الهادئة لدرجة الغباء ، ذات القلب الطيب والأخلاق العالية ..
الأمر غريب أليس كذلك ؟! ولكن الأغرب هو قصّة الحُب التي جمعتهُما وكيف إستطاع احمد بتهديداته الصريحة إرغام والديّ ليلى على قبول طلبهم ليدها ولم تُقصِر ليلى في الدِفاع بإستِماتة عن حُبّها الصادِق - من وجهة نظرها - وها هُما مخطوبان قبل ان كانا من قبل حبيبان ثم سيكونا زوجان وسُرعان ما سيكتشفا خطأهُما فينفصِلان و يموت احدهُما حُزناً على الآخر وهو عادةً الطرف الذي يحمِلُ بذرة الحُبّ الحقيقي . بينما يُتابِعُ الآخر حياته كما كانت في السابق دون إبداء اي لمحة من الندم .

هكذا فكّرت ريفال وهي تُطالِع ليلى بعينان فارِغتان قبل ان تتنهُد بضيق وتُبعِدُ عيناها عنها بحثاً عن جوان . و كطفلة تاه والديها تسلّل الرُعبُ الى قلب ريفال وهي تبحثُ عن جوان التي إختفى اثرها بين جموع الناس . نهضت مُهروِلة بقلق وعيناها تلمعان بقلق الى ان إبتعدت قليلا عن ضجّيج الحفل ليشُقّ مسمعها صرخة مُرتعِبة باكية لتصرُخ بجنون
- جوان !

.
.

يجلس جميع افراد العائلة بالصالة الضخمة ذات الطابِع البسيط التي تحتوي على ارائك سوداء واُخرى بيضاء و مقاعِد مُنفرِدة بذات اللونين بينما الحوائط الزُجاجيّة زاخِرة بلوحات فنّية جميلة وقد تعلّقت ثُريا عملاقة تحمِلُ شموعاً سوداء مُضائة بلهبٍ اصفر إنعكس كلوحة رائعة على الأرضيّة البيضاء وقد اخذ كُل فرد مقعداً بجانب اُسرته الصغيرة وفي المُنتصف يجلِس رضوان يرتشِفُ قدحاً من القهوة .. وضعها امامهُ على المِنضدة و قد صمت الجميع بتشويق الى ان هتف رضوان بصوته الجهور قائلاً

- ايمن ابني قد تزوّج قبل اكثر مِن عشرين عاماً من إمرأة فقيرة تقطُن بأحد الأحياء العشوائيّة وقد انجب مِنها فتاة في الخامِسة والعشرون من عُمرِها وفتىً بالسابِعة عشر من العُمر . وقد توفيت المرأة بمرضٍ خبيث قبل اكثر مِن عشرة اعوام و رفضت الفتاة - التي سُجِلت على اسم ايمن - النقود التي كُنتُ ابعثها لها واعالت اخيها وابنة خالتها بالعمل في متجر صغير لصُنع الحلوى .. ولكنني الأن اُريد حفيداي هُنا بمملكتي .. سآتي بِهما ليعيشا بالقصر ويجب ان تُعامِلونهم بإحتِرام فهُم احفادي بالنهاية ولهُم نصيباً من هذا القصر كما لكم . ولن اقبل بإعتراضاتكم الواهية .. هذا ليس طلب بل أمر وعليكم الإمتثال اليه .

قذف رضوان بكلماته بقوّة لتنهض إمرأة شقراء بشعرٍ قصير ذات عينان عسليتان تلمعان بجنونٍ فسّرتهُ نبرتها الهادرة عندما هتفت
- على جُثّتي .. العاهِرة إبنة العاهِرة لن تدلِف الى بيتي ابداً .
وهُنا نهض كِنان كثورٍ هائج و إقترب من زوجة عمّه و هتف بنبرةٍ هزّت ارجاء المكان
- إياكِ والتمادي يا ابنة غالية ال...
اصمته صوت جدّه هادِراً ...
.
.
.
.
.
.
.
.
.
.
.
رأيكم بالأحداث
والشخصيات
اتمنى ان يكون الفصل قد ازال بعض الغموض ..

ماذا حدث لجوان ؟
كيف سيتقبّل افراد القصر وجود ريفال واخيها ؟
هذا ما سنعرِفهُ في الأجزاء القادمة .
.
.
.
.
.
.
.
..
...
مع حُبّي ❤❤❤

.
.
.
.
..
...
فايا

Continue Reading

You'll Also Like

10.4M 252K 55
من بعد تلك المرة الوحيدة التى جمعها القدر به اصبحت من بعدها غارقة بحبه حتى أذنيها..قامت بجمع صوره من المجلات و الجرائد محتفظة بها داخل صندوق كما لو ك...
2.9M 60K 77
نتحدث هنا يا سادة عن ملحمة أمبراطورية المغازي تلك العائلة العريقة" التي يدير اعمالها الحفيد الأكبر «جبران المغازي» المعروف بقساوة القلب وصلابة العقل...
82.2K 7.3K 31
و ما بعد الاحتلال كان اسوأ..! كلاهما فى مكان مختلف ، و تبقى قلوبهما معلقه حيث التقوا رافضة الذهاب.. تتأزم الامور و تتقلب الاوضاع.. من يراها يقول ام م...
110K 3.8K 25
رواية بقلم المبدعة والمتألقة blue me حقوق الملكية محفوظة للكاتبة blue me