الرّعَايَا

By da__hr

17.4K 1.3K 1.6K

٭٭٭٭٭٭٭ = ليتنِي كُنتُ مثلكَ سيَادَة الجنرَال، أبكِي دُونَ دموعٍ، أفرَح دون اِبتسَامة، أغضَبُ دونَ تقطِيبة حا... More

1 | خطابٌ مَسمُوم .
3 | رَثَاثَةٌ وعيُونٌ ناعسَة .
4 | وَارْنِي .
5 | مَاءٌ لَيّن وأيْدِي مُكَبّلَة .
6 | رِشْوةٌ وعروسٌ باكيَة .
7 | ليلٌ أَسوَد .
8 | عنقُود الأَمَل الأخِير .
9 | جرعَةُ دماءٍ، وأَسرارٌ أخرَى ..
10 | شُيوعيٌّ فِي الجزَائِر .
11 | حقِيبَتَان .
12 | الصَّاع الأوَّل .

2 | تحتَ التّراب .

2K 195 238
By da__hr

اللّهم بلّغنا رمضَان ونحن جميعًا بصحّةٍ وعافيةٍ وسترٍ وسعادةٍ وطمأنينةٍ وحياةٍ كريمة .. 🤍
.
.
.
أحضِر كوب قهوةٍ أو شايًّا ساخنًا، واِغرق وسط هذه الأحرف، ولا تنسَى كاتبتهَا الّتي تتمنّى لكَ قراءةً ممتعة ✨

.
.
.
.
.
.

أعينهُم عليّ، تترقّبني، تلتهمنِي هنيهةّ، وتضع سمّها علَى الأدهمِ القابع بين عينيّ هنيهةً أخرى، تداعب قلبِي بعنفٍ، ترجّ روحه، وتخترِق صمته الوحِيد ..

ولم أحسّ إلّا بواحدةٍ من هذا الحضُور تتقدّم ناحيتِي، تضَع يديها الاثنتين على خصرهَا، وتَجعل ظهرها يرتكزُ عليهما حتّى تستطيع إعلَاء رأسهَا المتَعجرف أكثر، وصلَت واقفةً أمامِي وهي تعلي نبرتهَا عند كلّ حرفٍ تنطقه، بقيت عيناها الزّرقاوتان تخترق وجهِي، تودّ إحراقه، نهشهُ أو ربّما إفراغ مشاكلها العائليّة بأكملهَا عليّ .. مخفيةّ وجه المسؤول الّذي لم تنفكّ مقلتاه عن مطالعتِي رافضةً التّدحرج من مكانيهمَا :

« لعلّي كنتُ سأحترمكِ وأقدّركِ حقّا، كنّا سنعطيكِ كلّ المحبّة على طبقٍ من ذهب، ولكن بعد تطاولكِ على وطنِي بهذا الشّكل، فلن أسكتَ مهمَا حصل .. أظنّكِ أتيتِ هنا عن طريقِ أفضال فرنسَا عليكِ، ولولاهَا لما تمّ قبولكِ، لهذا أطالبكِ الآن بسحبِ كلّ ما قل ... »

« هذَا يكفِي ! »

بمجرّد أن حاولتُ النّطق وإسكات آلة الحديث الّتي أمامِي هذه، ندهتِ المديرة بكلمتَين كاسرةً شوكة آمالٍ أخرى، طأطأت الأخرى رأسهَا متراجعةً، مطبّقة أمر مديرتها بكلّ حذافِيره .. ولم يكن بوسعي سوَى إطلاق ابتسامةٍ ساخرةٍ وأنفِي لم يفارق الهواء الملتفّ حول القاعة، شامخٌ لا يودّ الانحنَاء أمام أمثالهم قَط .. كلّ هذَا الضّغط جعل المديرة تحتنقُ وأنظارهَا تصرخُ بسخطٍ عليّ وكأنّها تتوعّدنِي بعقابٍ لا وجود لشبيهٍ له، وبدورِي لم أعطها أدنَى إشارةٍ أو علامةٍ تدلّ على خوفِي أو توتّري .. إذا انفجرتُ بكلّ تلك الكلمات أمامهم حتّى لو كَان بالخطأ، فيجب أن يدركوا أنّني أهلٌ لهَا، ولن أسحب حرفًا ممّا قلتُه ..

« تستطيعون المغادرَة نحو غرفِكم جميعًا »

أمرَت بذلك قاطعةً الحوار الممْلوء بعباراتٍ تشجيعيّةٍ غَزَت كلّ دواخلِي، تمنعهَا من المَيل ولو بسنتيمترٍ واحد .. انحنَت واِبتسمت بشكلٍ لبقٍ تجاهَ ذلك المسؤولُ الّذي لا يزَال يطالِع أمامه، مسترقًا بعضَ النّظرات الغامِضة نحوِي والّتي بدت غير مريحةٍ البتّة ..

رغم ذلكَ استجبتُ مكرهةً بعدما جذبتنِي عائشة من ذراعِي الأيسَر، تقُودني بعنفٍ نحو إحدَى الزّوايَا بعيدًا عنهُم وعن تلكَ الصّهباء الثّرثارة، وعن المديرة والمسؤُول .. وعَن كلّ هذه الفوضى الّتي وقعَت ..

طفِقت في إلقَاء سيلٍ من المحاضرَات المَألوفة بالنّسبة لِي، آكلةً نصف الأحرف وسط صرخاتهَا وتحرّكات ثغرها بشكلٍ سريعٍ وخارقٍ للعَادة :

« هل جننتِ ؟! أم أنّ خطبًا جللًا قد أصاب عقلكِ يا جوان ؟ لا تنسَيْ أنّه أوّل يومٍ لكِ هنَا أيّتها البطلَة الخياليّة، والمديرَة لن تتغافَل عن فعلتكِ هذهِ أبدًا »

« أظنّها ستفوّت الأمر، لماذا تبالغِين لهذه الدّرجة يَا عائشَة ؟ »

أجبتهَا مطلقةً سيلًا من تأفّفات عدّة لم أستطع إخفاءها ..

« احلمِي، أظنّكِ تحلمين كثيرًا يا جوان »

قالتهَا باستهزاءٍ رغم نبرتها الجديّة، محاولةً العبثَ بأعصابي أكثر .. لهذَا اِضطررتُ لمشاركتهَا ذلك بعد أن رفعتُ حاجبي الأيمَن ولوّنتُ وجهي بنظرةٍ سوداويّة :

« بما أنّ الأحلام مجّانية، فلا ضيرَ إن تركتينِي أغرقُ فيهَا وأحلُم ! »

ضربت كفّي بخفّة، ضاحكةً علَى هذا العناد الّذي أمتلكه، وأظنّها تحاوِل بهذه الحركات تهدئتي وتهدأة نفسهَا أيضًا .. دنونَا من إحدى المقاعد الّتي كانت قريبةً منًا، جلسَت عائشة مفسحةً لي بعضَ المجال، وبمجرّد أن حاولتُ تعديلَ معطفِي، أطلّت علينا نفس تلك الفتَاة الشّقراء الّتي كانت واقفةً بجانبي عند البوّابة، قائلةً بنبرةٍ خافتةٍ طَغت عليهَا جديّةٌ واضحَة :

« آنسَة جوَان صَحِيح ؟ إنّ المديرَة تحتاجِك للحضُور إلى مكتبهَا الآن وحالًا .»

لم أحسّ إلّا بالنّظرة المشفق المواسية الّتي ألقتها عائشة عليّ والّتي زادت غضبِي وحيْرتِي وتوعّدي لهَا بكلّ أنواع القتْل والتّعذيب الّتي أعرفهَا .. ولم أملك خيارًا آخر سوى تتبّع تلك الفتاة نحوَ الوجهة الّتي لا مجالَ ولا عددَ يُعدم أو يحدّد نهايتهَا ..

•••••••••••

صَوتُ خطواتٍ مسموعٍ مع أنفاسٍ أسرت هذا الطّريق، وكأنّ أحدًا أمرنِي بإغماض عينيّ وعدَم افتعالِ أيّ ضجيجٍ حتّى أجد نفسِي مباشرةً في مكتب المديرة، دون تفكيرٍ، وَدون عناءٍ كبير ..

لكنّها الآن تطالعنِي، والمشكلَة الأكبَر .. حضُور ذلِك المسؤول المتربّع على إحدَى الكراسِي برزانةٍ وثقةٌ غريبةٌ تحيط وجودَه ..

وبعد كلّ هذه التّأملات والجوّ المشحون الصّادر من ثلاثتنَا، حمحمتِ المديرة قليلًا بعد أن لاحظَت نظراتِي المستفسرة مطلقةً وابلًا من الكلمات الّتي أدركتُ فحواهَا ومغزاهَا قبل وصولِي إلى هنَا :

« الآنسَة جوانْ، قبل الدّخول في صلبِ الموضوع، لا أنكر أوّلًا معدّلاتك ونقاطكِ الّتي فاقت الممتازْ .. نحن نشهَد عليكِ وعلى حسنِ مستواكِ الدّراسي، لكن كما تعلمِين أنّ هذا المؤشّر لا يعتبر كافيًّا، مثلمَا تعرفِين وجوب احترامِ غيرنَا، خصوصًا إن كان فِي مرتبةٍ أعلى منّا، وعلى ظلّ هذا العامِل أثبتِ اقترافكِ لخطأٍ أمام مسؤولٍ عظيم خدم هذا الوطنَ وساهمَ في حمايَته .. لهذَا المطلوب منكِ الآن هو طلب الاعتذَار من السّيد فيرديناند، وعدمُ تكرار هذه الفعلَة مرّةً أخرى »

اِنتقى الرّأس سياسَة التّرفع والاختيَال .. وأمرنِي بالتّقدم أكثر من مجلس ذلك السّيد والمديرة شابكةً يديّ بين بعضهما البعض، داعمةً ركبتيّ بهمَا، لم أنسَ رسم ملامح جديّة على محيَاي، لا مزاح ولا قهقهةَ تتخلّلهما .. وحاولتُ قول الحقيقة دونَ خوفٍ، دون خشيةٍ، دون تزعزعٍ، رغم أنّ هذا الكلَام حلزَن خيوطَ السّم حول أعناقهم :

« مع اِحترامِي لسيادتكُم الموقّرة، لكنّي لن أقوم بتقدِيم اعتذارٍ عمّا حدث قَبل قليل سيّدتي، أنا لا أعتذِر على أمرٍ لم أخطأ ولم أرتكب فِيه أيّ جريمةٍ »

« كيفَ تجرؤِين ؟! »

وقفتُ باضطرابٍ تعلِي ضجيجهَا على أذنيّ، خاطفةً بعض النّظرات نحو المسؤُول الّذي اكتفَى فقط بإطباقِ شفتيهِ، والنّظر نحو الأمامِ ببرودٍ وعدم اِكتراث لأيّ حرفٍ اِنبثق من فاهِي، لم أستطع ولم يكن لِي طاقةٌ أصلًا للرّد عليها، لهذا تركتهَا علَى هواهَا تكملُ بلهجةٍ أحدّ من السّابق :

« تقومينَ بنشرِ معتقداتكِ السّيئة وسطَ جامعة فرنسيةٍ راقيةٍ وأمام مسؤولٍ عظيمٍ, وتقولِين لم أرتكب أيّ خطأٍ أو جريمةٍ تحتاجُ الاعتذَار ؟! »

بعد أن فاضَ الكأس المتجذّر في عقلِي، وتزحزحَ ذلك الصّمود عن جفونِي، وترامَت الجديّة الّتي كانت تمنعنِي من تقلِيب هذا المكتب رأسًا على عقبٍ .. انقلبتِ الطّاولة الآن لصالح الجالِس بقربِي على بعد بضع أمتار بعد أن عدّل جلسته، ونبسَ بنبرةٍ معتدلةٍ هادئَة بدا التّهديد جليّا فيهَا :

« السّيدة المحترمة، لا داعِي لكلّ هذه الفوضَى، الآنسة كما سمعتُ جديدةٌ هنا، ولا تدركُ القوانِين والنّظام الخاصّ بالجامعة، ولعلّها أدركَت عمقَ خطأهَا الّذي أتمنّى عدم تكرارهِ مستقبلًا .. لذلك سيُغلق الموضوع هنَا وستوصد كلّ أبوابه، ولن نسمعهُ مرّة أخرى يصدرُ من الآنسة .. تستطيعين المغادَرة .»

تلك الابتسامَة المزعجَة الّتي أطلقتهَا المديرَة زادت غليَان صدرِي أكثر، ولم يبقَ القلِيل وتخرج رئتيّ من مكانيهما من شدّة وقسوةِ تنفّسِي، صمتتُ، أطبقتُ فمِي، ولم أستطع سوَى حمل أشلائِي والخروج بغضبٍ لم أكن قادرةً حتّى علَى تبيان درجته، متوجّهة مباشرةً نحو مرجٍ أخضر، لعلّي أستطيع اِستبدال ذلك الغاز السّام من أحبالِي، وتعويضهَا ببعض الأكسجين ونسيمِ تلك البراعم الصٌغيرة ..

حاولتُ إطلاق بضع قطراتٍ من شهيقٍ وزفير بصعوبةٍ استطعتُ إخراجه وتحرِيره من كلّ هذه السّموم الّتي زعزعت اِستقراره .. وبمجرّد أن أدرتُ رأسِي قليلًا، حتّى لمحتُ طيف خطواتِ عائشة مقبلًا نحوِي، وكلّما اِقتربت، توضّحت علامَات القلقِ والاضطرابِ والغضب المرتسَمة على ملامحهَا المكشّرة .. أقسم أنّي لستُ مستعدّةً لمحاضرةٍ ثالثة، اللّهم ألهمني الصّبر !

« جوَان ! هل أنتِ بخيرٍ عزيزتِي ؟ هل فعلَت لكِ شيئًا ؟ هل قَا ... »

« عائشَة عزيزتِي أنا بخير »

لم أستطع قول شيءٍ سوى هذه الأحرفْ القصيرة الّتي لعلّها تساهم في تهدِئتها قليلًا، لكنّها بقيت على حالهَا، مكشّرةً بصورةٍ أكثر رعبًا، ولربّما ستحضّر كلّ جرائد اللّوم والعتَاب على لسانهَا، لهذَا أفشلتُ خطّتها قبل أن تهمّ بالحديث :

« عائشَة .. حرفٌ واحد وسينفجر عقلِي ! أخبرتكِ لا شيء يَدعو للقلق، قامت بتصويب بعض الأحرف الّتي لن أهتمّ لها أصلًا، وكلّ شيءٍ تمّ تجاوزه .. »

لانت ملامحهَا قليلًا وهي تمسح على ذراعِي الأيسر، وكأنّها تقدّم اعتذارهَا بعد أن اِقتلعته خمسين مرّة، زفَرت هواءهَا وأردفت محرّرة إيّاي من كلّ هذه المشاكل الّتي تصادمت علَى يومِي المشؤوم :

« حسنًا .. كما تريدين وأتمنّى أن تتنبّهي أكثر مستقبلًا »

أومأتُ فقط، وبقيتُ أدور وألفّ نظراتي حول عائشة الّتي ظلّت بدورها تحوم حولِي، تخطّط لقول أمرٍ، تفتح فاههَا قليلًا ثم تغلقه وتنحنِي .. تنهّدتُ مستسلمةً وغمغمتُ :

« اِزرعي على أرضِي ما ستقولينه »

أفاقت تنظر إليّ ببضع تردّداتٍ، ثمّ استرسلت تمسك بذراعِي والحماس يغزوها :

« خطَرت على بالِي فكرة، ما رأيكِ أن نخرج في نزهةٍ ؟ من جهةٍ أعرّفكِ على شوارع باريس، ومن جهةٍ أخرى تتخلّصين منّ كلّ ضجيج الجامعة وأحداث هذَا اليوم ؟ »

« هل سيسمحُون لنَا بالخُروج ؟ »

« طبعًا ! اليَوم خصوصًا نستطيع الخروج مساءً والعودَة قبل غروب الشّمس .. والآن تستطيعِين القَول أنّ الحظّ اِبتسم لكِ ولو للحظة ! »

ضحكتُ وتلتنِي هي، تبتسم باتّساعٍ جاذبةً إيّاي من نفس الذّراع المسكين الّذي كانت ممسكةً بهِ سابقًا وأظنّ أنّي سأفقده يومًا ما وسط أحياء باريس .. وتراكضَت بِي، خارجَ بقعة الجامعة ..

وتراميتُ بين أحضان تلك الشّوارع مرّةً، بعد إجراءاتِ الخروج الّتي ظننتُ أنّي سلمتُ منها بمجرّد دخولِي للمحاضَرة .. تراكضتُ كالأطفالِ بين الأحيَاء، ووسط الكثير من الأسواق زرعنَا ضحكاتنا .. لم تنفكّ عائشة من دخول محلّاتٍ عدّة، تختصّ بمختلف أنواعِ الملابِس والإكسسوارات والمأكُولات أيضًا .. من المستحيل أن أحصِي عدد المرّات الّتي قامت فيها بانتشَال ذراعي - المسكين - من مكانهِ وإدخالي لإحداهَا، أحسستُ بأنّ كل وحدةٍ من الغلايكوجين الموجودة في جسمِي قد تمّ تفكيكها وحرقها ودفنهَا !

وبعد بضع لحظاتٍ، استوقفنِي مشهدٌ لم أتمكّن من وصفَه ولو بنصفِ كلمةٍ، ولأوّل مرّةٍ، أبادر بجذب عائشة رغمًا عنها لداخِل هذا النّعيم، غير مكترثةً باعتراضاتهَا مختلفة الأشكالِ والألوَان ..

رفوف، طاولَات، ورائحة كتبٍ، صمتٌ، هُدوءٌ لم يعتقد أحدٌ أنّه يناسبني .. كان هذَا عالمِي الخاصّ وعشقِي الأبديّ ..

تقدّمتُ والبهجَة تنهش عينيّ وكلّ أضلعِي، سالَ لعابِي فارتشفتهُ بسرعةٍ حتّى لا يتمّ إضافة حماقةٍ أخرى لقائمة المتاعب الّتي حصلت اليومَ، وبعد أن أظهرت عائشَة بعض النّظرات المريبَة تجاهِي، تأكدتُ حينهَا أن ملامحِي قد أصبحت مرعبةً حقًّا، تبدو كمختلّةٍ عقليًّا وجدت زوجة والدهَا الّتي أدخلتها مستشفى الأمراض العقليّة .. ولربّما ظنّت أنّي جننتُ أكثر من هذه التّشبيهات المأساوية .

تجوّلنا وسط بضع ممرّاتٍ، تنسّمنا رائحة الكتبِ وعبيرهَا، حمنَا حول بضع صفحاتٍ منهَا، ولامسنَا أغلفة الأخريَات .. ضمّدني منظر كلّ تلك الرّفوف المصطفّة، وَأقلَع كلّ إزعاجٍ فتكَ بِي قبل سَاعات، وداوَى تعبِي بكلّ اهتمامٍ صادقٍ ..

قفزتُ بصمتٍ حتّى لا أثير إزعَاج المتواجِدين هنَا، وأتحصّل على المحاضَرة المئة من طرف صاحبة المكتبَة ذات التّجاعيد والبسمة السّوداويّة .. وتتبّعتني عائشة مرغمةً، التصقَت بذراعِي - المسكين - هامسةً بنبرةٍ متوعّدة :

« لو لم تكونِي واجهتِ ظروفًا، وفي أوّل يومٍ لكِ في باريس والجامعة، ولو لم أتعرّف عليكِ غير اليومِ فقط، لن تضعي ربع قدمٍ هنَا ! كيف تتحمّلين كلّ هذه الحروف ؟! »

أدرتُ وجهِي نحوهَا وأنا أبتسم ببلاهةٍ زادتِ الغيظ المكتنزَ فِي قلبهَا وأشعلتهُ أكثر :

« لم ولن تفهمِي بهَاء ورونقَ هذه الحياة ما دمتِ لم تمسكِي كتابًا واحدًا »

قلّبت عينيهَا بمللٍ تحثّني على السّير والإسرَاع، وبقيتُ أتأرجح حول أعصابهَا، أتراكضُ بين الرّفوف مرّة تليهَا أخرى، أتابع هذه السّمفونية الممتعة الّتي قاطعها رنين هاتف عائشَة المعكّر لصفو هذه المكتبَة .. لم نسمع صوتًا بعدها سوى نحنحة أمينة هذه الأخيرة تبدي انزعاجًا واضحًا، ربّتت عائشة على ظهرِي واِستأذنَت للخروج بعد أن سمعتهَا تقدّم اعتذارًا لتلك السّيدة ..

ولم تمضِ بضع دقائقَ حتّى لمحتهَا تسِير عائدةً نحوِي، لكنّ الغريب في الأمرِ هو محيّاها الّذي اِنقلب مئةً وخمسين درجة، وأصبتُ بارتيَابٍ شديد، تقدّمتْ أكثر وهي تبتسمُ، كأنّها مرغمة ! اِبتلعت ريقهَا للحظةٍ وقالت معتذرةً :

« جوان عزيزتِي أعتذر حقًّا، لكنّ اِتّصالًا وردنِي الآن من مديرة الجامعة تطالبنِي بالحضور لأمرٍ مهمٍّ، لهذا يجب عليّ العودة، وأنتِ ..؟ »

« لا عليكِ عزيزتِي، اِذهبي وسأعود بعد أن أقتنِي بعض الكتب الّتي أحتاجهَا »

قاطعتهَا مطمئنةً إيّاها، وقبل أن تعترض ضحكتُ مضيفةً :

« لا تخافِي .. لن أظلّ الطّريق في هذه الشّوارع الباريسيّة، ستجدينَني في غرفتِي ولو حلّقتُ دون أجنحة .. أتمنّى فقط أن يكون كلّ شيءٍ على ما يرام معكِ »

رأيتُ بسمةً وصدمةً امتزجتَا بين عسليّتيها، ترامت ملامحهَا بشكلٍ غير مفهومٍ جاعلةً هذا الذّهن يعلِي رايَة فضوله وشكوكهِ أكثر، بعدها أفاقت على نفسهَا طاحنةً كلامهَا بسرعةٍ فائقة :

« لا ! لا داعِي للقلق، أنا بخيرٍ عزيزتِي، فقط انتبهِي على نفسكِ وعودي قبل غروبِ الشّمس، لأنّ نظام الجامعةِ يقضي على حظر التّجول بعد الثّامنة مساءًا »

أومأتُ لها، ولم تقل شيئًا بعدها سوى تعديل معطفها ومغادَرة المكان، أمّا عنّي .. فقد أحسستُ وكأنّي أميرة من عالم ديزنِي أو ساندريلا، لكن فقط تمّ تغيِير الوقت المحدّد واِستبدال القصر الجميل بجامعة عنصريّةٍ لم يبصروا إلّا الآنسة جوَان فيهَا ليصبّوا جامّ غضبهم عليهَا ..

وبعد مغادَرة عائشة، غرقتُ وسط الكتب، عشتُ فيهَا، وتقلّبت روحِي بَين عناوينهَا، أردتُ شراء المكتبَة بأكملهَا، لكنّي تمهّلتُ واِستغفرتُ وحاولتُ تمالك نفسِي قليلًا، وهدأَت هذه الأخِيرة .. وهي تشتمّ عبق الصّفحات القديمة ..

••••••••••

ومضَى بِي الدّهر، مضَى وتخبّط في أرضِي، تراكضَت بِي السّاعات، ووضعتنِي على ظهر حصانٍ أسود، ثمّ انتشلتنِي وحطّت بِي على هيجاء وأساطِير، هرعَت تدخلنِي فِي إحدى المرايَا، ثمّ هربَت تجرّني بعيدًا عن أحدِ العفارِيت .. لم أشعر بالوَقت، لم أشعر بشيءٍ، أحسستُ فقط بملمسِ أوراقٍ وحروفٍ، تبثّني في إحدى الغيمَات، تزرعنِي بذرةً فَوردةً ثم قطرة ندَى، وتقطفنِي من بين كتبٍ وموشّحات ..

وحقًّا قد تمّ قطفِي، لكن بطريقةٍ أبشع ممّا يمكِن تصوّره، وأمينة المكتبة تطرق علَى كتفِي بشكلٍ متكرّرٍ ساحبةٍ إيّاي من عالم أحلامِي الورديّة، من أجمل تخيّلاتِي البهيّة الّتي تناسيتُ فيهَا واقعِي، وبمجرّد أن التففتُ قابلنِي وجهها الثّابت، ألا تبتسم هذه المَرأة أبدًا ؟! أجزم أنّ أغلب التّجاعيد المتربّعة على جبينهَا سببها هذه التّكشيرات .. اِبتسمي قليلًا يا عمّة !

طبعًا لن أجرأ على قول هذا الأمر أو التّصريح به ولو بطريقةٍ غير مباشِرة، لا ينقصنِي اليوم حربٌ عالميّة خامسةٌ مع هذه السّيدة، لهذا اتّخذتُ الخطّة البديلة الّتي دومًا ما تكون بحوزتِي، ابتسمتُ لها ببلاهةٍ، فاِزدادت حدّة ملامحها وهي تنبس بلهجةٍ خافتةٍ مرغمة :

« الوقت قد تأخّر يا آنسَة والجميع غادَر، سيتمّ إقفال المكتبة بعد دقَائق »

بقيتُ أطالعهَا ببلاهةٍ أكبر حتّى استوعبتُ كلامهَا الّذي نزل علَى رأسِي كالصّاعقة، وقتُ ماذا ؟! وضعتُ يدي على المعطفِ التّرابي وأخرجتُ هاتفِي، لأجدَ أن عقرب الأرقام ذاكَ قارب على اِختراق غبراء السّابعة وربع .. لم أعلم ما أقولُه سوى الاِعتذار سريعًا، وشقّ الطّريق، لا ! بَل إحراقه وتدميره وتفكيك بنيته التّحتيّة، تاركةً ورائي الغبَار وتذمّرات تلك العمًة .

ركضتُ وسط الطّرقات أحاول البحثَ عن أيّ حافلةٍ أو سيّارةِ أجرةٍ تقلّني إلى الجدار الشّوكي الخاصّ بتلك الجامِعة، ولم أحسٌ إلّا وأنا أدخل أحد الزّقاقاتٍ المظلمَة.. بل لَا ! لم يكن مجرّد زقاقٍ ! بل شيئًا من المستحيل تصديقه، كلّما تعمّقتُ وحاولتُ الاقترَاب أحسستُ بقلبِي يتزعزعُ من مكانهِ صاعدًا لكتفِي .. وأنا أصادِف هذه البقعَة الّتي شلّت الحركة عن جسدِي، جاعلةً كلّ حواسّه مدقّقة لتتأمّل، محاولةً استيعابَ الأمر .. وذلك الاصطفافُ الأدهم المرعبُ، يحبكُ في خيوط الذّهن مئة حكايةٍ وحكايَة ..

مقبرةٌ، مظلمَة، منعزلَة .. وحسب ما قرأتُ في اللّافتة أنّها خاصّة بالجنرالات والجنودِ الفرنسيّين الّذين شاركوا في الحربين العالميّتينِ، أو الّذين كانت لهم مكانةٌ جليّةٌ ودورٌ فعّالٌ في تاريخ القرونِ الماضيَة، أو الّذين كانوا بمثابةِ مفتاحٍ أساسيٍّ للظّفر بإحدى المستعمَرات واستنزاف ثرواتهَا بكلّ وحشيّة ..

وكما يدرِك جميع من يعرفنِي حتّى عائشَة الّتي لم يمرّ على تبادلِي بضع أطراف حديثٍ معها سوى ساعاتٍ قليلة، أنّي لن أترك شيئًا حتّى ألج لداخل دواخلِه، وأستكشِف وأحلّل وأنقّب، ليرتاحَ هذا الوحش الكامن النّائم وسط أضلعِي ..

تسلّلتُ من بين أنقاضٍ وأعينِ حارسٍ مسكينٍ يحاول تدفئة نفسِه بعيدًا عن الضّجيج، راميةً كلّ نظام الجامعة والتّوبيخ ووقائع اليوم خلفَ ظهرِي، وهمّي الوحيد فقَط هو رؤية وتفقّد أوضاعِ البعض منهُم في غياهب هذه الصّناديق السّوداء الطّويلة، لا نفسَ يعيد الزّفير لأحبالهم، ولا ضحكةَ تريح صدُورهم ..

بقيتُ أتجّول وأقرأ بضع أسماءٍ وألقاب .. بعضها كانت مألوفةً، والبعض الآخَر لم تكنْ لدرجة أنّي لأوّل مرّة أسمع بهَا حتّى تخدّر لسانِي وأصابنِي عسرٌ في الكلامِ عند نطقهَا ..

تجمًدتُ، وشلّت أطرافي للمرّة الثّانيّة أو الثّالثة .. وقبره يقابلنِي، يحيكُ في رأسِي فسادًا، يعكّر نظرتِي، يخيطُ السّم في روحِي، ويجعلنِي أودّ تحطيم كلّ حجرٍ وتمزيقه، نهشَ فتاتهِ، وتقسيمَه بين أنيابِي ..

اقتربتُ أكثَر، أطالعه باِزدراءٍ، رفعتُ أنفِي بشموخٍ عهدته في نفسِي مرارًا، وأنا أردف والشّرر يتطايَر من عينيّ ويلتهِب :

« دي بورمُون .. السّفاح البطَل، كيف حالكَ ؟ ما أخباركَ ؟ ماهو وضعكَ وأنت هاهنَا ؟ تزاحم الثّرى في أرضه ! أرأيتَ كيف تدورُ الدّنيا وتضعكَ في أحد صناديقهَا ؟ أين هي تلكَ الزّاوية الدّهماء الّتي وضعتهَا في قلبكَ تجَاه نوميديَا ؟ تلك الدّولة الّتي دخلتَ تتفاخر عليهَا وتضربُ كؤوسَ النّصر على ديارهَا، لكن للأسَف .. اِنتهى نصركَ الأوّل الّذي لم تنعَم بِه وبين كراسِيه، ثمّ نفذت جرعة نصركَ الثّاني باستقلالِ نوميديَا بأعظم طريقةٍ لن تخطر على بالكَ ولن يستطيع عقلكَ استيعابهَا .. كيف هو المكانُ هنَا ؟ أخبرنِي ما شعوركَ حين تضاحكتَ مثل المجنُون ؟ وأنت تحرقُ كلّ تلك الصّفحات ؟ غير آبهٍ بعيونٍ متقدة، أو ضحكاتٍ بريئة، أو حتّى صرخاتٍ عاجزةٍ بليلة .. لا ! بل كلّ فضولي يتجذّر حول ردّة فعلكَ، أودّ معرفة شعوركَ وأنتَ تسمعُ شهيقهَا وهي تفُور ! »

دنوتُ أكثر، لألقي قائمة عتابٍ أخرَى، أحاوِل فيهَا التّنفيس عن بضع أحقادٍ مدفونةٍ .. لكنّي ودون سابق إنذارٍ ! رُفعت قدمِي اليمنَى من تلقاء نفسهَا، بعد أن أحسّت بشيءٍ غير عاديّ يجرِي هنَا ! شيءٍ صلبٍ، شيءٍ خشبيّ، شيءٍ يصدِر صوتًا .. وسطَ هذا العشْب !

طرقتُ نفس القدمِ على تلك المنطقَة حتّى أتأكّد إذا كانَ هذَا الظّن في محلّه .. ثمّ انبطحتُ أرضًا أنبش وكأنّني قطّةٌ ضاعت منهَا فريستهَا المفضّلة، ظللتُ أكرّر نفس الفعلَةِ، حتّى حدث ما لم يكن في الحسبَان !

بوّابة صغيرةٌ موصَدةٌ دون مفتاحٍ أو قفل، وأظنّ أنّها تحتاج لجهدٍ واضحٍ حتّى يتمّ فتحهَا .. لم يكن بقدرتِي سوَى إلقَاء ضربةٍ بقدمَيّ، ثمّ استعمَال يدي اليمنَى مرّةً فمرّتين، استهلكتُ كلّ جهدِي عليهَا .. لكنّ هذا الباب العنيد لا يريدُ التّرحم على أضلاعِي ومفاصلِي الّتي خُرقت بسبب عائشة أوّلًا ثمّ بسببه، ويُفتح ولو بشبرٍ .. دعنِي فقط أَرى ما بداخلكَ ثمّ اِفعل بِي ما تشَاء .

وأخيرًا ! تحرّكت إحدى رؤوسهِ من الجهة اليمنى، استطعتُ عن طريقهَا جذبه بكلّ قوّتي حتّى أعرض عن عنادهِ أو ربّما أشفق عليّ، وفُتح على نطاقٍ أوسع ..

••••••••••

سوادْ، عتمَة، دجنَة، وحشَة .. برودةٌ حلّت على هذَا المكانِ وضربتنِي جاعلةً من خصيلاتِي القصِيرة ورأسِي الّذي تدلّى يقشعرّ من قسوةِ الجوّ السّاكن داخلهُ .. طريقٌ لا نهايَة له، وسلالمٌ جدّ صغيرةٍ بالكاد تسعُ قدميّ وأوجي .. والآن أدركتُ فوائد وقيمَة الحمية الغذائيّة الّتي كنتُ أتهرّب منهَا يومًا ما ..

لكن أيعقَل أنّي ولربّما ألج لقبرهِ مباشرةً ؟ لعلّهم وضعوا هذه البوّابة حتّى يستطيعوا الدّخول له دون إثارة شكوك .. احتمالٌ رهيبٌ، وتوقّع إجراميّ لا أريد التّورط فيه ..

ورغم هذَا .. انبطحتُ، أدخلتُ قدميّ وكافحتُ لإدخَال أكتافِي الّتي لم يبقَ القليلُ وتعلِن الحربَ عليّ أو تتخمّر مستسلمةً من فوق يد وبطش عائشة عليهَا !

أحسستُ بجسدِي كلّه يتفجّر بسبب الجوّ المخنوق الّذي أقحمتُ نفسِي وسطَ أشواكه، زال معظَم الأكسجِين عن رئتيّ .. غطّيتُ أنفِي مقاتلةً هذه الغشاوة السّوداء الّتي حاصرتنِي، حاولتُ التّقدم خطوةً فتعثّرتُ خطوتينِ، واصلتُ إصرارِي وأنا أجازِف بهاتين الرّئتين الّلتين أجزم أنّهما أصبحتَا أسوء من الّتي يمتلكهَا مدخًنً ! ولا زلتُ .. أتعمّق في دهمَة هذا المكان أكثر ..

طريقٌ طويلٌ صادفنِي بمجرّد تخلّصي من تلك السّلالم الّتي حفَرت عميقًا في عظامِي .. ولا زال هنَاك رواقٌ ينتظرنِي، مشيتُ فيه، متناسيةً كلّ ما ينتظرنِي مستقبلًا، أدعُو اللّه فقَط أن أكونَ قد دخلتُ لغرفةٍ فارغةٍ اتّخذتها بعض الكائنَات الحيّة مسكنًا لهَا، ولن أمانعَ إذا خدشتنِي وقامَت برسمِ مختلفِ خرائطهَا على وجهِي ويديً !

الوضعُ أصبحَ مرعبًا أكثَر، وهذَا السّبيل المعتم لا يريد تحدِيد نهايتهِ .. وبعد مسيرٍ فاقَ العشر دقائق، أطلّ ضوءٌ أصفر صغيرٌ بالكادِ لاحظتهُ وسط هذه اللّيلة الحالكَة .. لم يكن ضوءًا بالمعنى الحرفِيّ، بل كان شيئًا يلمَع وسط أكفّ بعيدة .. تقدّمتُ أكثَر حتّى أحاول اِستيعاب الأحداث الّتي تجرِي وتَحوم حولِي مرارًا، وترتِيب بضع أحرف متناثرةٍ على مهجتِي هنا وهناكَ، حتّى بزَغ المشهَد غير المنتظَر !

طاولةٌ عموديّة تحاكِي لونَ تلك البوّابة الصٌغيرة الحاقِدة، وسطَ هذه الغرفة الفارغَة، موضوعةٌ في المنتصَف، فوقهَا صندوقٌ زجاجيّ منكسرٌ، وكأنّ أحدًا قام بلكمِه وتفتيت أضلِعه وإفراغ ضغينتِه كلّها عليهِ .. ورغم هذَا بقي الشّيء اللّامع مجهول الهويّة سليمًا محافظًا على بريقِه فَوق هذَا الحطَام، أعطَى نورًا ورجاءًا لهذَا المكان الوحيدِ الموحش ..

دنوتُ، مددتُ يدي نحوَه، وأحسستُ بطاقةٍ غريبةٍ تداعِب يدِي فتخدشهَا .. حاولتُ اِنتشال ذلك اللّمعان من بين عبراتِ زجاجيّة، ونجحتِ في ذلكَ، التقفتهُ على عجلٍ، ثمّ واريتِ صدمتِي !

ظلّت تلك الشّارة تنعم بدفء راحة كفّي الأيمن، تلك الشّارة الّتي أعرف منذ صغرِي أنّها تخصّ الجنرالات الأوربيين، يضعونهَا في الجزء العلويّ من ملابسهم أو معاطفهم، لتبيانِ مكانتهم الاجتماعيّة ورفعتهم ودورهم السّياسي الهامّ أمام مجتمعهم وشعبهم .. وأدركتُ بشكلٍ متأخٌرٍ أنّ نصفهَا قد ضاع أو سُرق أو حتّى اِندثَر ! فشكلهَا غير مكتملٍ البتّة، قلّبتها أكثر بين يديّ، ثمّ رفعتُ أوجِي أحاول التّأكد من وجود نصفهَا الآخر أو أيٌ شيءٍ يدلّني على صاحبها، حتّى لفت نظرِي ورقةٌ صفراء رثّةٌ وُجدت بضع حروقٍ على جوانبهَا، تناولتهَا مكافحةً فتحهَا بعد أن التصقت رؤوسها ببعضٍ، ثمّ بدأتُ أسترسل بصعوبةٍ قراءتهَا، ومعرفةَ وتحليل تلك الحروف الفرنسيّة الباهتة، وتوالت عليّ حممٌ من دهشةٍ ورعبٍ، كلّما حاولتُ التّقدم والقفز لجملةٍ أخرى :

.
.
.
.
.
.
.
.
.

⟨ أهلًا بكَ أيّها المجهُول .. لربّما أنتَ تمتلك هذه الشّارة أو حتّى نصفهَا أو ربع ربعهَا، لكن وددتُ إعلامكَ أنّ الباب الّذي ستدخل له الآن لن يكونَ بوسعكَ الخروج منه ما حييتَ، إلّا بطريقتينِ " إمّا أن تضعَ كفّك أو تصوّب البندقيّة " وإن قرّرت الانجراف ومحاولةَ إعمال عقلكَ وخداعنَا والاستسلامَ، ستحلّ عليكَ مصائب لن تحمد عقباهَا .. ستغرق ! ستسجَن ! ستتحطّم ! ستطاردكَ لعنةٌ لن يفكّها لكَ أيّ ساحرٍ كانَ .. ستظلّ حبيسًا لهم، لصفحاتِهم، ستُحرق ! ستتعذّب ! ستذوقُ الويْل ! وستظلّ تناجِي كفّك المنصهَر .. أيّها المغامر، اِحتفظ بهَا، راعيهَا، كامعهَا بعنايةٍ، اِجمعهَا، واِحتويها، وتذكّر أنّك لن تستطيع الانسحَاب مهمَا حاولتَ .. فاِحذر ! ⟩

.
.
.
.
.
.
.
.
.
.
.

تصادَمت أنفاسِي وسطَ زحامِ هذه الأحرف، ورحتُ أتخبّط بين فراغاتهَا، أحاول إيجَاد ثغرةٍ تسعنِي، فتات أملٍ أو هروب، وضعتُ الصّفحة وسط أحضان جيبٍ خائفٍ، وخبّأتُ الشّارة على رمحِ شقيقهِ الآخر غير المصدّق لهذه المهزلَة .. وبمجرّد أن حاولتُ التّحرك، سمعتُ ضجيجًا واقعًا على إحدى أركان الغرفَة فوق المقبَرة، لملمتُ حاجيَاتي .. خطوةٌ للورَاء مع اِستعدادٍ مرتعبٍ .. أطلقتُ العنان لقدميّ غير آبهةٍ بضيق تلك السّلالم الّتي شكّلت زاويةً حادّة على جنباتهَا، خادشةً ذراعِي الأيسر - المسكين - دون أدنى رحمةٍ أو شفقة .. لم أحسّ بطريقتي المضحكة في الصّعود عليهَا، ولم أرد أيضّا التّورط مع أيّ حارسٍ أو مخلوقٍ كان هنا ..

رَكضت، فقَط ركضت .. وسَط تلك الشّوارع والزّقاقات، لم ألتفت، لم أتوقّف، حتّى لاحظتُ سيّارة أجرةٍ بزغَت من بعيدٍ، أوقفتُ سائقها ثمّ ركبتهَا مباشرةً .. ودون أن أكلّف نفسِي عناءَ تأمّل بهاءِ هذه المنطقَة وأضواءها المشعّة ليلًا، اتّكأتُ .. أحاول جمع أنفاسِي الهاربَة على زجاج تلكَ السّيارة الصّفرَاء ..
َ
َ
َ

الــــــــــــــــــــــــرّاوي
َ
ظلّت جوان شاردةً تفكّر في آخر الوقائع الّتي أحاطت بهَا محاصرةً إيّاها من كلّ حدبٍ وصوب، مانعةً رئتيها من اِلتقاط بضع شهقاتٍ نقيّةٍ تساهم في تهدئة أنفاسهَا .. كيف حلّ كلّ هذَا ؟ ومتَى وأَين ؟ رغم عدم تصديقهَا هذه الأساطير والخرافات بسهولةٍ، لكنّها هذه المرّة أحسّت بشيءٍ يتحرّك داخلهَا، بطاقةٍ عجيبة .. وثقتَ بشعورهَا الّذي ينصّ على أنّ اللحظات القادمة لعلّها سَتكون محفوفةً بالعديد من المخاطِر، خصوصًا بعد تلك الرّسالة الّتي شعَرت وكأنّها دُبّجت بالدّم من شدّة الغموض المكنون وسطهَا ..

طلبَت من السّائق الإسراع، رغم أنّ وقت حظر التّجول قد بدأ أو مرّ أصلًا منذُ ساعتين أو يزيد .. وفي خضم ذلك الطّريق، حاولت التّنازل وإمعان النّظر في ضجيج الأناس وجمال تلك الأضواء الباريسيّة .

••••••••••••

وصلَت، ثمّ ظلّت واقفةً أمام باب الجامعة، تخيط خطّتها المثاليّة، وهدفهَا الوحيد والأوحدُ هو دخول غرفتهَا بسلامٍ دون إثارة ضجّةٍ والتّحصل على وثيقة طردٍ ومحاضرةٍ طويلةٍ أخرى من طرف تلك المديرَة !

تسلّلت على أطراف أصابعهَا تحاكِي السّكون المخيّم على المكَان، وبمجرّد أن اِقتربت من المبنَى، نفّذت الخطّة " ب " وطفقت في الجريِ مباشرةً والشّارة تتلاعب بين أناملهَا، كمخبولةٍ عثرت على اِبنها الضّائع الّذي أخبروها أنّه قد توفيّ في إحدى المحطّات .. لكنّ جميعنَا يعلمُ أنّ القدر أحيانًا يقف في الطّريق ويغيّر عجَلة هذه الحيَاة اليوميّة، وقد اِستوقفهَا حقًّا بعد أن تلقّت اصطدامًا عنيفًا من شخصٍ لم تتعرّف عليه بسبب الظّلام الحالك المخيّم على المبنَى .

أحسّت بطول قامتهِ، بصلابتهِ، وببرودةِ الهالة السّوداء المحيطَة بهِ، لم ترد أن تفكّك أحجيته أكثر، هي فقَط انحنَت سريعًا ملتقطةً الشّارة الّتي سقطت أرضًا بين العشب، ولحسن حظّها أنّها أدركت ذلك .. ثمّ تراجعت معتذرةً بخفوتٍ وسط ركضهَا المجنون، تبصر فقط باب غرفتهَا الّذي تأمل أن يقبِل نحوها بنفسهِ ويضعهَا في دفئه بعيدًا عن مشاكلهم ..

لم تلحظ تلك النّظرات المصدومة الّتي ألقاها عليها الطّرف المقابل قبل رحيلهَا، وبالضّبط في اللّحظة الّتي أسقطت فيها نصف الشّارة، بقيَ واقفًا هناكَ يحاول تنظيم تلك الأفكار الّتي تشعّبت حول عقله وانهالَت تنهشُ خلاياهُ العصبيّة مؤثّرة عليهَا ومنهِكة إيّاها أكثر ..

« إذن هيَ تجيد الاعتذَار .. »

وما كان منه إلّا أن يطرد تلك الوحوش الصّامتة نابسًا بصوتٍ فرنسيّ شبه مسموع، لا زالَت تقاسيم الصّدمة تتخلّل ملامحه الرّجوليّة الحادّة، فما شاهده توًّا لن يرضخَ الفضول عن محوِه من ذاكرتهِ ولن يتنازل عن عصر مخّه حتّى النّخاع ..

وأتاه صوتٌ عكّر صفو هدوئه وتفكِيره المعمّق، قائلًا باحترامٍ مبالغٍ فيه، لم يتناسَى القيام بتحيّة عسكريّة مبجّلة :

« سيّدي، لقد وردكَ اتّصال من السّير جيمس يودّ التّحدث ومناقشة موضوعٍ مهمّ معكَ »

« أنا قَادم »

أردفَ منسحبًا محاولًا تناسِي ما حدثَ توًّا، ولو بشكلٍ مؤقّت، معتبرًا إيّاه مجرّد تخيّلٍ لا صحّة له، وولجَ .. تاركًا جوًّا ملأته ريحٌ صرصَر عبثت بأزهارِ الأقحوانِ والبنفْسج ..
َ
َ
َ
جــــــــــــــــــــــــوان

ركضتُ فقط، لم أعلم أصلًا ماهيَة الشّخص الّذي اصطدمتُ به توًّا بتلك الطّريقة المخجلة، ألقيتُ عليه مجرّد اعتذارٍ بسيطٍ وأكملتُ هروبِي المخبُول ..

ولجتُ الغرفَة بسلامٍ، بعد أن تأكّدتُ من النّوم العميق الّذي تحظَى به تلك الشّقراء .. لكن ما بال جميعهم يمتلكون هذَا الشّعر الشّبيه بلون أغلفة الكتبِ القديمة المليئة بالغبار المثير للحساسيّة ؟ ومَا شأنِي بهم أصلًا ؟! المهمّ هنا أنّي وصلتُ بسلامٍ وأمانٍ ..

هرولتُ ملتهمةً الوسَادة البيضَاء المتربّعة على سريري الواقع في الجهة اليسرَى من الغرفة، دفنتُ رأسي أكثَر، تجاهلتُ كلّ شيءٍ، وأردتُ فقط الولوج لأرض الأحلامِ، بعيدًا جدًّا .. وددتُ التّنعم براحةٍ طويلةٍ، بعيدًا عن إزعاجهم، عن شكاوِيهم ومحاضراتهِم، انسلختُ من نفسِي وسلّمتها لغبراء أخرَى، ارتخَى جبينِي، انطفأت عيونِي، تدحرجت جفونِي .. وغفوتُ ..

••••••••••

من المفترضِ وككلّ النّاس العاديّين الّذين يقضون وقتًا ممتعًا في حياتِهم، أن أستيقظ على كلماتٍ فرنسيّة كلاسيكيّة أو رومانسيّة، أو على رائحة قهوةٍ مثلٌجةٍ أو حتّى بضع فتيتاتٍ من الخبز والحلويات، لا ننسَى " صباح الخير " الّتي تزيّن ثغور جميع من ألقاهم .. لكن وسطَ هذه الجامعة المأساويّة، من المستحيلات السّبع أن تجد مثل هذه الأشياء ولو في أحلك كوابيسكَ !

أحسستُ بكأس ماءٍ باردٍ يصبّ على محيّاي بكلّ وحشيّةٍ، انتفضتُ فاتحة أعيني على مصراعيهَا، أهرول وألهث مجاهدةً في استرجاعِ الهواء ووضعهِ على أنفاسِي، ثمّ التفتتُ بقسوةٍ لصاحبة هذه الفعلة المشينَة وأنا أعدّل شعري القصير الّذي تبلّل بالكامل، صارخةً في وجهها بكلّ ما أوتيتُ من جبروت :

« ما الّذي فعلتيه توًّا ؟ هل جننتِ ؟! أهكذَا توقظون النّائم في جامعتكم الرّاقية ؟! »

بقيت تطالعنِي ببراءةٍ ممسكةً بالكأس الفارغ تتقافز بِه بين أصابعهَا مردفةً بلهجةٍ مصطنعَة :

« أوبس ! آسفة حقًّا يا آنسة، لقد اِنزلق الكأس من يدِي دون أَن أدري »

« وهل قرّر رأسكِ من تلقاء نفسهِ شرب الماء أمام سريري مثلًا ؟ هل وجدتيه حديقةً عامّة مليئةً بأزهار الأقحوَان تمارسِين فيها هواياتكِ ؟ »

لم أسمَع ردًّا منهَا، ولم أرد سماعَه أصلًا، غيّرتُ ملابسِي بسرعةٍ وقمتُ بعباداتِي وتجهيزاتِي وسط نظراتٍ مستنكرةٍ خبيثةٍ، وخرجتُ مستعجلةً متفاديةً هذَه الأجواء الخانقَة الّتي حلّت على أرضِي مرّةً أخرى، وطبعًا لم أنسَ حمل تلك الشّارة الّتي لن أئتمن أحدًا عليهَا ما حييت، هذَا السّر الصّغير أو الكبير أو أيًّا يكن، يجب أن يبقَى مخزّنًا ومحفورًا عميقًا في ذاتِي .

•••••••••••

تنقّلتُ في أروقة الجامعة متّجهة نحو المحاضرة الثّانية، فاقدة بعض تركيزِي الّذي تمّ امتصاص قطيراتِه من الكابوس المزعج والطّوفان المدمّر الّذي حلّ على أوجي قبل قليلٍ .. وبمجرّد أن اِستدرتُ للدّخول في رواقٍ آخر، قابلني ظلّ طويلٌ تعرّفتُ عليه مباشرةً، إنّه ذلك المسؤول الّذي يمتلك اِسمًا أطول من المعادلات الإجماليّة في مادّة الكيميَاء !

كان يتكلّم مع أحد رجالهِ بنبرةٍ واثقةٍ، يوجّهه فيهَا ويحاول الإتيان بكلّ الأخطاء الّتي يتوجّب عليه تجنّبها والابتعاد عنهَا .. حاولتُ المرور وكأنّ شيئًا لم يحدث بالأمس، وكأنّي لا أرَاهما ولا أبصرهمَا أصلًا، حتّى لا أبدو أنّي أتجسّس عليهمَا .. لكن ما حدثَ بعد هذه الثّواني جعلنِي أنبطِح على الحائط الّذي بجانبِي !

ألمٌ شديد، قاسٍ ولا يحتمَل، اِستولى على أضلعِي، وجعلنِي أتكأ على إحدى الجدران أحاول التقاط الهواء للمرّة المليون، بقيتُ أشهق وأجاهد في فتح الطّريق المسدود في حلقِي، وتمرير بضع وحداتٍ من الأكسجين له، لعلّها تنبذُ هذَا الخدَر المستحكم على عظامِي .. الرّحمة يا اللّه !

الغريب أنّي كلّما حاولتُ إبصَار هذا المسؤول والتّمعّن فيه زاد وجعِي أكثر، وذلك الضّوء اللّامع المتربّع في جيبه المقابل أعمى عينيّ، ضوءٌ مألوفٌ جدًّا بالنّسبة لِي .. ثمّ لم أحسّ بشيءٍ، سوى بضجيجِ الطّلبة وضحكاتهم، وصوت ذلك المسؤول العميق، والنّور الثّاني الّذي بزغ على جنباتِ معطفِي يشعّ بغرابةٍ أهلكتنِي .. وتهاويتُ .. أتعذّب وسط عشرين ضياعًا ..

هذا اليوم سيكون مليئًا بوجعٍ ومخاطر، كما ذُكر أصلًا، ولربّما لن يمرّ على خيرٍ أبدًا ..

.
.
.
.
.

يتبَـــع . . .
.

.
.
.
.
.

المَاريشال بيَار دِي بورمون " 1773 - 1846 "

قائد الحملة العسكريّة الفرنسيّة لاحتلال الجزائر " 1827 - 1830 " والمعروف بالسّفاح الّذي قام بحرق العديد من المؤلفات والمخطوطات والوثائق الموجودة في دولةِ الجزائر خلال فترة الاستعمار الفرنسِي .. لا ننسَى أنه تحت ضغط قوّاته قام الداي حسين بتوقيع معاهدة الاستسلام والّتي تقضي بتسليم مفاتيح مدينة الجزائر للفرنسيّين، لكن نشوة نصر الماريشال لم تدم طويلًا بعد أن تمت الإطاحَة بحليفه شارل العاشر بعد الثّورة الفرنسية الّتي قامت ضدّه، وعُيّن مكانه لويس فيليب كملكٍ لفرنسا، الّذي قام بدوره بعزل ديبورمون عن منصبه وتعيين اللّواء كلوزيل، ليواصل مهمّة احتلال الجزائر ..
.
.
.
.

السّلام عليكم ورحمة الله وبركاته

أتمنّى أن تكونوا جميعًا بألف صحّة وعافية أعزّائي، خصوصًا بعد بزوغ هذا الشّهر الفضيل على عتبات ديارنَا زارعًا في أنفسنًا بهجةً لا تنسَى .

أوّلًا يجب أن أعلمكم أنّ هذا هو أطول فصلٍ قمتُ بكتابته في حياتي الأدبيّة بأكملهَا، خصوصًا أنّي قد دبّجته في خضم حروب عدّة، سواء من ناحية الامتحانات والدّراسة وكذلك من جهة الضّغوط بعد النّتائج، وبعد الانقطاع الطّويل أرجو فقط أن يكون قد نالَ إعجابكم واستمتعتم بقراءتِه ..

نعود للأهمّ كعادتنَا، رأيكم في ردّة فعل جوان مع المديرة ؟ المقبرة ؟ ظروف عائشة وحديثها الغامض المليء بالرّيبة والشّكوك ؟ دي بورمون ؟ سرّ الشّارة والرّسالة ؟ وشخصيّة المسؤول الّتي لا تزال غامضة علينَا ؟

رأيكم بالفصل ؟ من حيث السّرد ووصف المشاعر والأحداث ؟ بفقرة المعلومات حول الشّخصية التّاريخية ؟

ولن أطيل عليكم أعزائي، ترقّبوني في فصل آخر قريبًا بإذن الله، ولا تلتهوا عن عباداتكم ولا تنسوا الصّلاة على النّبي محمّد صلّى الله عليه وسلّم ..❤️✨

أترككم في رعايَة الله وحفظه ..
سلَام 👋✨

Continue Reading

You'll Also Like

53.3K 2.6K 60
راح تعرفون الاحداث والشخصيات من خلال قرائتكم للقصه للكاتبه ام مختار دنيا غانم
1.3M 41.9K 32
(ROMANTIC) JEON JUNGKOOK. KIM RIMASS. ••••• ~+18~ «هُو خَطِيئَة إِقَْترَفْـتُهَا، إِلاّ أَنّ فِتْنَته تُبِيحُهَا» _مَا نَقُومْ به مُـح...
998 138 13
_هذه الرواية اهداء لكل نفس منجذبة للتاريخ والأشياء القديمة و الحضارات العابرة للزمن ... للملحمات العربية والشرقية ... وقصص تحبس الأرواح والغموض ... إ...