رُزقت الحلال

By SaRaMohamedSeif

6.7K 206 2

إلى كل من رأى أن خطأه لا يغتفر وأنه ما عاد هناك طريق للعودة فلتعلم .. أنا أبواب التوبة دائماً مفتوحة على مصرع... More

1
2
4
5
6
7
8
9
10
11
12
13
رواياتي

3

367 13 0
By SaRaMohamedSeif



دخل أنس الغرفة يزور شقيقته ويرى كيف صار حالها، رأت فيه فرصتها في الهروب، أقنعته أن يساعدها بالحصول على المفتاح الخاص بغرفتها دون توضيح الغرض من ذلك.
رفض في بادئ الأمر ولكنها أقنعته بطريقتها الخاصة وبإصرارها المستمر، استسلم في النهاية وأخبرها أنه سيحاول لكنه لا يعدها بالنجاح.
رضيت هي بذلك متأكدة من نجاحه، فلا أحد من عائلتها يحاول في أمر ويتركه دون أن ينجح به؛ فإما أن يناله وإما لا يحاول من الأساس؛ هم لا يقبلون الفشل.
في تمام الثامنة والثلث، دخل إليها أنس وقد حصل على المفتاح، قبلته شاكرة وتناولت حقيبتها الصغيرة التي سبق وأن أعدتها فور انصرافه؛ فلقد خاف من بطش أخيه إن رأه.
تسللت إلى الخارج فقد اعتادت على ذلك، وانطلقت تركض بعباءتها السوداء والحجاب الأسود، تقاوم كلما تعثرت حتى تلحق به قبل أن يرحل.
وصلت إليه وكان على وشك الرحيل، رأها فترجل من سيارته وانتظرها حتى وصلت إليه، رأى الحقيبة التي تملكها فعلم أنها قررت أن تختاره أخيراً، ابتسم في سعادة وحاول أن يضمها لكنها دفعته بعيداً بغضب.
- لا
أومأ متفهماً وحمل عنها حقيبتها وساعدها على الصعود إلى مقعدها بجواره، انطلق بسيارته الجيب ينهب الطريق بسرعة، كان ذهنها مشتتاً رغم وثوقها في صحة قرارها في البداية إلا أنها الآن تشعر أن ما أقدمت عليه سيجعلها تندم لما بقي لها من حياة .. مما جعل الخوف يتسرب إلى قلبها ولكن هيهات فهي لم ترجع عن قرار أتخذته من قبل ولن تتراجع الآن.
توقف شادي في استراحة على جانب الطريق ليعيد تعبأة الخزان بالوقود وانتهز الفرصة لإحضار بعض الطعام فمازال أمامهم الكثير قبل الوصول إلى القاهرة.
رأته يتحدث إلى الهاتف ولكنها لم تهتم فقد عادت تشرد فيما فعلت، ظلت تطرح على نفسها العديد من الأسئلة دون أن تجد لها إجابة شافية، هل علموا بغيابها الآن ؟، ما رد فعلهم على إختفاءها ؟، هل سيحزنون لفراقها أم سيعتبرونها كأنها لم تكن؟ ...
أفاقت عندما وضع شادي أكياس الطعام والشراب فوق فخذيها طالباً منها تناول بعضها فيبدو أنها لم تذق الطعام منذ عدة أيام.
تنهدت بقوة وبدأت تأكل رويداً رويداً ولكن المحصلة في النهاية أنها أنهت كل الطعام؛ كأنها تعمل على تخزينه ليفيدها خلال الأيام المقبلة.
***
دخل إلى الغرفة المخصصة له في السكن، ألقى جسده فوق الفراش لا يستطيع حتى نزع حذاءه، اتجه إليه شريكه في السكن فزعاً من مظهره وحالته التي تتدهور يوماً عن يوم.
- إيه اللي حصلك يا حمزه ؟؟
أجابه بتعب دون أن يفتح عينيه: مافيش حاجه .. مجرد إرهاق
نهره صديقه بغضب: دي مش طريقة شغل، أنت لو عايز تنتحر مش هتعمل ف نفسك كدا
أولى ظهره إلى صديقه قائلا بتأفف: يوووه أنت وماما عليا يا مُسعد !
- ما هي ليها حق طبعاً، أومال لو شافتك كدا دلوقتي هتعمل فيك إيه ؟؟
- طب سيبني أنام دلوقتي
- يا ابني أنت لا أول ولا أخر واحد ف الدنيا خطيبته هتسيبه عشان لاقت واحد تاني معاه فلوس وجاهز
أكمل: طب أحمد ربنا إنها جت على قد خطوبة وما وصلتش للجواز
انتفض حمزه ونسي النوم الذي كان مسيطراً عليه، هتف بغضب: أنا كنت قتلتها
ربت مُسعد على كتفه: طب الحمدلله إن ربنا نجاك منها بسرعة، بلاش تعاقب نفسك على حاجه مالكش ذنب فيها
فرك وجهه ورأسه: المشكلة إني كان ممكن أبقى جاهز من أول يوم شوفتها فيه بس أنا مكنتش حابب أعتمد على أبويا، كتر خيره إنه علمني وكبرني كمان هو اللي هيجوزني زي البنات ؟؟، أساساً حمل نجلاء مش سهل، لحد دلوقتي بابا بيساعدهم من وقت للتاني، كنت عايز ابدأ حياتي معاها بمجهودنا إحنا بس هي ما قدرتش واختارت الطريق السهل.
- ما تندمش أنك عرفت شخص وطلع مش قد توقعاتك وثقتك فيه ... لإنه دا هينمي عندك خبرة في الحكم على الناس ع المدى الطويل، يا سيدي أديك كسبت معرفة الشخص الواطي بيبقى عامل إزاي !، وعلى فكرة الحكاية دي مش بالساهل ها !
أضاف بجدية: وخلاص زي ما باعتك بعها والبادي أظلم زي ما بيقولوا ولا إيه يا باشمهندس؟
ابتسم حمزه بهدوء: معاك حق يا صاحبي
- يلا بقى قوم خد دوش عشان الساعة داخله على أربعه الفجر، وعقبال ما تخلص يكون الفجر أدن نصليه مع الجماعة بره وبعدين نريحلنا ساعتين قبل الشغل
نهض ينفذ ما أخبره به صديقه وبينما يضع رأسه أسفل الماء المتدفق من الكوب حيث لا يوجد في موقع العمل ذاك نفس الرفاهية المتاحة بالمدن والقرى عقد العزم على أن يخرجها من عقله نهائياً فهي حقاً لا تستحق أن يفكر بها حتى ولو بالسوء.
***
كانت الساعة تدق الخامسة صباحاً عندما وصلوا إلى القاهرة، انطلق إلى المنزل حيث يعيش وكانت حياه قد هيمن عليها سلطان النوم فلم تستطع منه فراراً.
كان المنزل ليس مجرد شقة بل إنه يمثل فيلا تحتل قطعت أرض ليست بالصغيرة بل متوسطة لكنها تقع في منطقة معزولة ... فلا يحيطها سوى حديقة يبدو من مظهرها أنه يتم الإعتناء بها جيداً، وأقرب منزل مجاور على بعد لا يُستهان به.
لم يرد إيقاظها بعد أن صف سيارته في جراج المنزل الخاص؛ فحملها بهدوء إلى الداخل وجعلها ترقد على أحد الأسرّه، لم تشعر بشئ بل استمرت في نومها هانئة.
***
انتهى الطبيب من فحص الطفلة مبتسماً بحنان، ناولها قطعة حلوى صغيرة لتتسلى بها في الخارج مع الممرضة بينما ينتهي من حديثه.
سأله أحمد: خير يا دكتور ؟
تنهد الطبيب: مع الأسف لسه مافيش تحسن ف حالتها
سقطت دمعة من عين سمية وهي تسأل: يعني مافيش أمل ترجع تتكلم تاني ؟
- الأمل مش بيموت يا مدام سمية، وطول ما في رب اسمه كريم يبقى أكيد فيه أمل، بس الفرق إنه التحسن دا هيحصل إمتى ... فالله به أعلم
سمية: بس مش طبيعي لطفلة ف سنها إنها ما تتكلمش، تروح المدرسة وترجع مش بتحكي إيه اللي بيحصلها، ولا صوت ضحكتها بنسمعه
لخص زوجها ما تريد قوله: يعني من الأخر البنت عايشه سن مش سنها، وشايله هموم أكبر من عمرها
نهض الطبيب من مقعده خلف المكتب ووقف يحدثهما مفكراً: اللي البنت مرت بيه نفسه كبير على عمرها، رد فعلها جه بردو كبير، بس أرجع وأقول الحمدلله فيه حالات تانية بيحصلهم رد فعل أفظع من كدا، فعلاً حالات لا يعلم بيها إلا ربنا.
تمتمت سمية: ربنا يشفي كل مريض ويصبر أهله
رددا خلفها: أمين
سأل أحمد: طب والعمل دلوقتي يا دكتور ؟
الطبيب: هي محتاجه حب وإهتمام، كمان محتاجه حاجه تقدر تخرجها من الحالة اللي هي فيها ويكسر القوقعة اللي محاوطه نفسها بيها
تساءل الزوجان في عدم فهم: إزاي يا دكتور؟
- الحاجه إيه هي بالظبط مش عارفها، بس حاجه أو حدث يخليها تتخلى عن موقف عدم الكلام اللي واخداه حاجز بينها وبين اللي حواليها، حاجه ما ينفعش تتحل إلا لو اتكلمت
- ودا نعمله إزاي؟
عاد إلى مقعده وأمسك قلمه يخط بعض أسماء أدوية: خلوها تاخد العلاج دا بانتظام وربنا يسهل، لما يجي أوان شفاها أكيد هتلاقوا الحاجه دي حصلت تلقائي
تناول أحمد الورقة من يد الطبيب ونهض برفقة زوجته، اتجها إلى الممرضة شاكرين لها اهتمامها بالطفلة ثم صحبوها معهم عائدين إلى المنزل.
***
تقلبت في نومها وفتحت عينيها على مهل، رأت سقفاً مزخرفاً وحوائط عاجية اللون، انتفضت .. هذا ليس بمنزلها فأين هي ؟؟؟، تحسست رأسها لتجد حجابها الأسود كما هو؛ لقد انزاح قليلاً جراء نومها لكنه ما زال فوق رأسها، نهضت ترتدي خفيها خارجة لتبحث عن شادي فهو أخر من كانت معه.
تلمست طريقها إلى الغرفة التي سمعت صوت التلفاز يصدر منها، رأت شادي يجلس أمام الشاشة مستمتعاً بالفيلم الكوميدي المعروض لكن ما أدهشها أن هناك ثلاث فتيات يجلسن إلى جواره، إحدهن ملتصقة به ويدها تسريح على كتفه قطبت جبينها متسائلة عن هوية تلك الفتاة.
لاحظت فتاة من الأخرتين وقوفها على الباب فنادت على شادي لتلفت نظرها إليها.
نهض شادي فور رؤيته لها دافعاً بيد الفتاة بعيداً: أخيراً صحيتي ؟؟ كل دا نوم يا مفترية ؟
سألته بهدوء: هي الساعة كام ؟
أجابها بعد أن نظر إلى ساعة معصمه: الساعة 3 العصر
فغرت فمها في دهشة: أنا نمت كل دا ؟؟
ابتسم: ما يهمكيش، المهم إننا مع بعض دلوقتي
هبت الفتاة التي كانت تجلس إلى جواره وقالت ساخرة: مش هتعرفنا يا شادي؟
قدمها لهم وبدأ بتعريفهم عليها، أشار إلى من شغلت بالها أكثر: دي جميلة أختي التوأم، فعشان كدا هتلاقينا قريبين من بعض جداً
نظرت إليها حياه مستغربة، كيف تكون توأمه وليس بينهما أي وجه للتشابه فهي ذات شعر أشقر وإن كان مصبوغ عيون خضراء ولكنها أيضاً صناعية، نفضت عن رأسها هذه التساؤلات فلا يبدو أن ما تراه هو حقيقتها لتستطيع الحكم .. كما أن أغلب التوائم لا يشبهون بعضهم فعلياً.
أشار إلى التي تليها وكانت فتاة بيضاء الوجه سوداء الشعر والعينين، شعرها شديد النعومة والإنسياب على عكس شعرها المجعد، لم يدهشها إعلانه أن نيفين هي شقيقته الوسطى لكن ما أدهشها حقاً نظرة الشفقة الممزوجة بالحزن التي رأتها في عينيها.
نزعت عينيها عنها قصراً لترى أخته الثالثة والصغرى إنها فتون وكانت حقاً تحمل من اسمها الكثير فعينيها رمادية كعيون القطط البرية ورموشها طويلة تضيف إلى جمال عينيها سحراً لا يقاوم، كل هذا يصحبه بياض البشرة وشعر بني في جذوره ويميل إلى الذهبي عند أطرافه.
هؤلاء هن شقيقاته، لم يخبرها عنهن من قبل لكن لم يجمعهم شيء مشترك، فلا واحدة تشبه الأخرى ... لا بل يتشابهن، فثلاثتهن يرتدين ملابس قصيرة تستحي هي من التفكير في شراءها حتى، فواحدة تلبس فستان لا يصل إلى منتصف ركبتيها والأخرى ترتدي قميصاً صبيانياً فقط، أما أكثرهن احتشاماً فكانت نيفين حيث كانت ترتدي بنطال يتجاوز ركبتيها بقليل وفوقه تي شيرت بنصف كُم.
أشار لها لتجلس قائلاً: بصي بقى إنتي هتفضلي قاعدة هنا معاهم لحد ما نشوف حل ماشي؟
نظرت إليه مستفسرة: أنت لسه هتشوف حل ؟، ما الحل موجود
سألتها جميلة بسخرية: وإيه هو بقى يا سنيورا ؟؟
تجاهلت سخريتها مجيبة: إننا نتجوز
صرخت جميلة: نعم ياختي ؟؟
أومأ لها شادي أن تهدأ والشرار يتطاير من عينيه لتصرفها: استني يا جميلة، بصي يا حياه الجواز مش بالسهولة اللي إنتي فكراها دي
تحدثت بتحدي: ليه يعني ؟ أنا عندي 23 سنة يعني مش قاصر وأقدر أتجوز اللي أنا عايزاه وموافقة بظروفك إيه اللي يمنع بقى ؟
- اللي يمنع إنك لسه ما تعرفنيش كمان لسه ما رتبناش أمورنا ولا اتعودتي ع الجو اللي هنا، كمان عندي شغل ضروري لازم اعمله
شعرت بالمهانة وأن كبرياءها قد اندهس فنهضت من مقعدها، قائلة بتماسك: خلاص يبقى أنا ماشيه من هنا ولما بتبقى تخلص اللي وراك، واللي يمنعنا من الجواز يختفي أبقى دور عليا
أمسكها من ذراعها ضاغطاً على أسنانه: هتروحي فين ؟
هزت كتفيها بلا مبالاة: ف أي حته مش فارقه
نظر شادي إلى فتون لتتحدث وتحاول إقناعها، أومأت واتجهت إلى حياه مبتسمة: طب وليه ما تقعديش معانا هنا يا حياه ولا إحنا مش عاجبينك ؟
- لا طبعاً، هأقعد معاكوا إزاي وفي واحد غريب هنا ؟
شادي مدعياً الحزن: بقى أنا غريب يا حياه ؟
أومأت بثقة: مادام مافيش رابط حقيقي بيني وبينك تبقى غريب
أمسكت جميلة بذراعه: خلاص روح خلص شغلك أنت يا شادي ولما ترجع تبقوا تتجوزوا، وأهو إحنا بنات بس اللي هنا هترفضي تقعدي معانا بردو ؟
أسرع شادي: هما يومين .. أظبط الشغل وأرجع نتجوز على طول
فتون بتوسل: يلا بقى يا حياه بلاش تزعلينا منك
مررت نظراتها بينهم بالتساوي حتى توقفت عند تلك العيون الصامتة التي تنصحها بأن ترفض بل تخرج من هذا المكان فوراً، ألا تستسلم لتوسلاتهم، لكنها لم تفهم كل تلك الكلمات فليس لديها الخبرة الكافية في لغة العيون كل ما استطاعت رؤيته تلك النظرة الحزينة المشفقة عندما نطقت بموافقتها على عرضهم.
تهلل وجه شادي بالأخص وقرر أن يحضر غداءاً فخماً للأحتفال بهذه الليلة، معتبرها حفلة خطبتهما.
***
أسرعت الخطى في طريقها إلى المدرسة، إنها المرة الأولى التي تتأخر فيها إلى هذه الساعة فالساعة الآن تتجاوز الثامنة والنصف، لقد تأخرت في نومها بسبب انشغال بالها مما جعل النوم لا يصل إلى جفونها حتى وقت متأخر من الليل.
حيت الحارس، الذي يحمي أعراض الكثير من العائلات بدءاً من الطالبات وصولاً إلى المعلمات، مع ذلك يتقاضى مجرد فتات، بل يصل ببعض الأهالي أن يلقوا عليه بعض الكلمات الحادة والحديث الذي يسم البدن كما يقولون.
سخرية القدر هي أن يكون شخص مثله يتقاضى بضعة قروش نهاية كل شهر، بل إنه إذا مرض أو لم يتواجد ليوم واحد خُصم ذلك من راتبه الذي لا يرقى ليكون راتباً من الأساس بينما أخر وظيفته أن يجلس خلف مكتبه دون فعل شيء في مكان كان غيره أولى به لكنه حصل عليه بالوساطه وتدخل أصحاب النفوذ الذين يعرفهم فيتقاضى أجراً بالألاف إن لم يكن أكثر على عمل يكلف به غيره ليقوموا به.
طرقت على باب غرفة المديرية لتعتذر لها عن التأخير، لكنها وجدتها تقف أمام طفلة وتقوم بتقريعها على تأخرها المستمر.
- أنا مش عارفه أهلك فين، لا حد بيسأل عنك ولا حاجه، كل يوم تأخير مافيش يوم تيجي ف معادك
وقفت الطفلة تضم كفيها وتنظر أرضاً قائلة: أسفة يا أبله مش هأكررها تاني
المديرة بصرامه: كل مرة تقولي كدا وترجعي تتأخري، كل مرة باعديها لكن المرة دي مش هتعدي ، اتفضلي روحي بيتك ولو باباكي أو مامتك ما جوش مش هترجعي هنا تاني، إنتي فاهمه ؟؟؟
بكت الطفلة متوسلة: والله يا أبله أخر مرة، عشان خاطري مش هأعملها تاني
أشفقت حنان على الطفلة فتدخلت: خلاص يا مدام سناء، هي مش هتكررها تاني
نظرت لها المديرة بتعجب: هو إنتي تعرفيها يا حنان ؟، بعدين البنت دي من أول السنة وهي ع الحال دا
حنان مبتسمة: على ضمنتي المرة دي يا مدام سناء
نظرت المديرة لوجه الطفلة الغارق بالدموع وطلب حنان الأول منها، وافقت فهي تحترم حنان بشدة وترى فيها نفسها أيام الصبا.
أومأت حنان للمديرة شاكرة ثم تناولت يد الطفلة وصحبتها معها، أوقفتها على باب فصلها الذي أخبرتها عنه ثم هبطت لمستواها تمسح الدموع من فوق وجنتيها الشاحبتين.
ابتسمت: ادخلي احضري الحصة بتاعتك وف الفسحة تعاليلي الأوضة بتاعت المدرسات ماشي؟
أومأت الطفلة في صمت وتركتها، نظرت إليها حنان بحزن فيا ترى ما سر الحزن الدفين في عينيها اللوزيتين .. فمن المفترض ألا تعرف سوى الفرح والمرح.
***
ليس كل ما يهواه المرء يناله، تأكد لها هذا عندما أخبرها الطبيب بأنها ليست حاملاً، وأن العلاج لم يؤثر بها حتى الآن، جلست على مقعد في حديقة عامة ترى الأطفال يركضون هنا وهناك، لقد حرمها الله من نعمة الأمومة، لم يكن لها ذنبها ولكنها تخاف أن يحملها زوجها حملاً أكبر من قدراتها على الاحتمال.
هو الآن لا يعترض لا يلومها لكن في المستقبل عندما يبدأ التعب في التمكن من جسده والمرض يظهر على السطح وعمله يزداد اتساعاً، وقتها هل حقاً لن يتمنى أن يرزقه المولى تعالى بطفل حتى وإن كان من غيرها؟
عند هذه الخاطرة شعرت بالغيرة تنهش قلبها، لا يمكنها أن تتحمل امرأة أخرى في حياة زوجها، أن تلمسه ويلمسها، تقبله ويقبلها، يضحك لها وتبادله الضحك، إنه زوجها هي من حقها وحدها.
نهضت بتكاسل فيجب عليها العودة لتستعد لاستقبال زوجها، ستوليه المزيد من العناية حتى لا تدع له مجالاً للتفكير بالزواج من أخرى.
في خضم ظنوننا ننسى مشاعر غيرنا، أن ما نظن أنه سيعجبه في الحقيقة قد لا ينال رضاه، فاذا كان الحب عامراً بينهم يبدأ الكتمان والصبر في الظهور، ليتحولا في وقت لاحق إلى ضغط، ولكن لن يستمر الضغط والكبت طويلاً حتى يولدا الإنفجار لكن ليس كأي انفجار، إنه انفجار يتحول فيه الظالم إلى مظلوم والغالب إلى مغلوب.
***
مر أسبوع كامل على غياب شادي، كانت تفكر في عائلتها وما يحدث لهم الآن لكن ما الجدوى لقد ظنوا بها ما ظنوه فلا إختلاف الآن.
الشك تسرب إليها، شادي يتهرب من الزواج بها، لم تحب يوماً أن تحكم على الشخص بدون دليل، اتخذت قرارها ستتحدث إليه عندما يعود اليوم مساءاً فإذا لم يعد يرغب في الزواج منها فلترحل عنه.
نظرت في المرآة متعجبة، إنها لا تهتم إذا تزوجها أما لا، كيف ذلك وهي من المفترض أنها تحبه.
جلست على الأريكة الموجودة إلى جوار النافذة، لقد قرأت أن من يحب لا يستطيع العيش بعيداً عن حبيبه، كم من بطل وبطلة قاموا بالانتحار عندما فقدوا من يحبون، لماذا هي لا تشعر بأنها إذا ابتعدت عنه ستختنق أو كأن روحها ستقتلع من داخلها.
"يبدو أني لم أكن أحبه من الأساس، نعم .. لقد كان تحدياً لأن أبي رفض أي علاقة تربطني به وسجنني أخي في غرفتي يمنعني عن رؤيته، إذا تركا لي مطلق الحرية لكانت فسخت خطبتي لشادي الآن".
لقد اتفقت كل من حياه وسلمى على زواج الحب، ليس زواجاً تقليدياً كما حدث للعديد من صديقاتهم، حققت سلمى ذلك بغض البصر عن طريقته وزواجه الأخر.
يجب أن تحادثه بجدية، ستخبره حقيقة مشاعرها، لم تعد ترغب في الزواج منه، فليعيدها إلى عائلتها أو يسمح لها بالرحيل .. هم بالنهاية أهلها سيغضبون منها في البداية لكن سيسامحونها بالأخير.
ابتسمت بسعادة عندما فكرت بعودتها إلى منزلها، حقاً لم يكن يجب عليها الرحيل، ما كان هناك من داعي للعناد ووضع تحديات ليس لها أساس من الصحة، أعدت حقيبتها وقد أحكمت فكرة العودة برأسها ثم جلست تنتظر عودته.
***
رفعت حنان نظرها عن الدفاتر التي تقوم بتصحيحها، وجدت الطفلة التي قابلتها في غرفة المديرة تقف على بُعد خطوات من مكتبها مترددة في التقدم أكثر.
تركت ما بيدها ونادتها لتقترب، سألتها: قبل ما نتكلم ف أي حاجه مش تقوليلي اسمك بقى عشان أعرف أنادي عليكي ولا إيه ؟
همهمت الفتاة: سمر
ابتسمت حنان: عاشت الأسامي يا سمر .. ممكن بقى تقوليلي إيه اللي بيخليكي تتأخري دايماً ع المدرسة ؟
تجمعت قطرات الدمع في عيني الصغيرة ولم تجب، أشفقت عليها حنان وحاولت أن تساعدها على الحديث: تعرفي، أنا إنهارده اتأخرت على المدرسة بردو، أول مرة أعملها .. عارفه إيه السبب ؟
نظرت لها سمر بحيرة وترقب فتابعت شاعرة بالإنتصار لأنها لفتت ذهن الطفلة إليها: عشان تيته اللي كانت بتصحيني كل يوم إنهارده راحت عليها نومه هي كمان وعشان أنا نمت متأخر بليل مش زي كل يوم بدري
تمتمت الفتاة بحزن: ما أنا ماما ماتت فمافيش حد بيصحيني بردو
كأن قبضة حديدية اعتصرت قلب حنان حتى أدماه، لا يا صغيرتي ماتزالين صغيرة على هذا الحزن وهذه الفرقه.
تمالكت دموعها وهمسن بحنان دفاق: أنا ماما ماتت بردو وأنا صغيرة بس ما زعلتش .. عارفه ليه ؟
سألتها سمر بتعجب: ليه ؟
ربتت على شعرها: عشان أنا عارفه إن هي راحت عند ربنا، وربنا هيخلي باله منها أكتر مني ويدخلها الجنة، هتبقى مرتاحه من المشاكل والزعل، هتبقى قاعدة ف مكان كله أخضر من الشجر والزرع وحواليها ورد في كل مكان ومعاها الناس الكويسين بس وكمان هتكون مع باباها، ومش هتزعل تاني أبداً أبداً
- أيوه، بس هي بتوحشني
– ما هي بتوحشني بردو، بس لما بتوحشني أوي أوي بأقعد ادعي ربنا عشان يخلي باله منها واقرالها قرآن وأصلي كتيررر وقعد أقول يا رب ماما وحشتني أوي صبرني يا رب
- وإيه اللي بيحصل؟
- بأحس إني مبسوطة خاالص، وقلبي بيرتاح لإن ربنا بيحسسني إنها مرتاحه كمان كأنه ربنا بيطبطب على قلبي ويقولي ما تخافيش هي كويسة وأنا معاكي كمان ومش هنخلي حد يزعلك ولا يضرك
ثم أضافت وهي تغمزها بمرح: لما تحسي إنها وحشتك .. اعملي زيي وشوفي هتحسي بإيه وابقي تعالي قوليلي .. إتفقنا ؟
أومأت الفتاة باسمة، تجرأت حنان وسألتها: بس هو مش بابا معاكي عشان يصحيكي للمدرسة ؟
عاد الحزن يتجلى في عينيها، همست: بابا مسافر
نظرت إليها بتعجب: أومال قاعدة مع مين ؟
لم تستطع حنان سماع ما همهمت به فطلبت منها أن تعيد ما قالت، كررت الطفلة برهبة: مع مرات بابا
سألتها بتردد: مش بتحبيها ؟
حمدت حنان الله على عدم وجود باقي المعلمات في الغرفة لتتحدث معها بحرية دون أن تشعر الفتاة بالخجل، أضافت بابتسامتها الحنون: ما تخافيش مش هأقول لحد أي حاجه تقوليها، دا هيبقى سر بيني وبينك
شعرت سمر بالراحة لهذه المعلمة، لقد استطاعت حنان أن تدخل إلى قلبها دون مجهود يذكر، حدثتها الفتاة بما تحمله في قلبها الصغير: طنط مش بتفضالي، مشغوله على طول
- يعني مش بتصحيكي للمدرسة ؟
- لا، هي بتقولي لو عايزة تروحي مدرسة ابقي صحيّ نفسك
شعرت حنان بالحنق على تلك المرأة ولكنها قالت: طب ما تظبطي المنبه
نظرت أرضاً مرة أخرى: رن مرة وأنا ما صحتش على طول راحت كسرته وقالتلي إن مش عشان أنا هأصحى لازم البيت كله يصحى معايا
صمتت حنان تحاول الوصول لحل فعال فإلقاء اللوم على الأب أو تلك الزوجة ليس حلاً عملياً بل إنه لن يحل المشكلة، خطرت ببالها فكرة: إنتي ساكنه فين يا سمر ؟
أخبرتها سمر بعلامة مميزة في طريقها، هتفت حنان: إيه دا !، دا إنتي ساكنه قريب مني بقى، بصي يا سوسو أنا بأكون في المدرسة هنا الساعة 7 ونص، بس مافيش مشكلة لو جيت بعدها بشوية يعني .. أنا هأعدي عليكي في البيت قبل المعاد بتاع المدرسة بوقت كافي عشان تلبسي ونيجي المدرسة سوا وتلحقي الطابور كمان إيه رأيك ؟
لم تصدق سمر نفسها: بجد يا أبله ؟
- بجد يا حبيبتي، على الأقل مش هأمشي الطريق دا كله لوحدي ولا رأيك إيه ؟
عقدت الطفلة ذراعيها خلف عنق حنان: أنا بحبك أوي يا أبله
ضمتها حنان بقوة إلى صدرها وهي تشتم عبيرها: وأنا بحبك أكتر
قبل أن تخرج الدموع من محجرها أبعدت سمر عنها قائلة: يلا روحي كُلي سندوتشاتك بقى عشان الفسحة قربت تخلص
لم ترد، قلقت حنان فسألتها عن سبب صمتها، أجابت: أصل أنا مش معايا سندوتشات
- ليه ؟
- أصل .. أصلي نسيتهم لما كنت نازله بسرعة
علمت حنان أن الفتاة لم تخبرها الحقيقة ولكنها تجاهلت الأمور حتى لا تسبب المزيد من الحرج، قالت باسمة: طب أنا معايا سندوتشات بزيادة ناكلها سوا بقى إنتي واحد وأنا واحد .. كفايه عطلتك عن الفسحة
وافقت سمر صامتة وتشاركتا الوجبة سوياً، لقد كانت الطفلة شديدة الجوع لم تشعر أنها التهمت جميع الشطائر في ذات الوقت الذي تناولت فيه حنان شطيرة واحدة، حزنت على حالها فيبدو أن لا أحد يهتم بها ولا يتأكد من حصولها على الغذاء الكافي.
عندما أنهت سمر أخر شطيرة بيدها طلبت منها حنان: سمر، أنا هأطلب منك طلب ويا ريت ما تكسفنيش ... كل ما تضايقي أو تحصل معاكي مشكلة تعالي واحكيلي، اعتبريني زي ماما –الله يرحمها-.
تبسمت الفتاة وقبلت معلمتها: حاضر يا أبله
حنان: يلا بقى روحي الفصل عشان جرس الفسحة ضرب
ركضت سمر إلى فصلها مسرعة، فكرت حنان بأن تخبر والد سمر عن حالة الفتاة ولكنها تذكرت أمر سفره فقررت تأجيل ذلك إلى وقت أخر.
أصبح الناس قساه، تحجرت القلب وتيبست كجذوع الأشجار؛ ليستبدل الحنان بالقسوه، الحب بالكره ، الشفقة باللامبالاة، الإيثار بالأثره .. مما حول المجتمع إلى غابة يجور فيها القوي على حق الضعيف.

==============


جلست مع أخواته يتسامرن حتى عودته، جميلة ما زالت تنظر لها بكره لا تعلم سببه ونيفين الشفقة لا تفارق عينيها بينما فتون أكثرهن قرباً منها، تحدثها وتداعبها باستمرار.
وصل شادي أخيراً، استقبلوه بترحاب، بعد بعض الوقت طلبت منه حياه أن تحادثه على إنفراد.
صحبها إلى غرفة المكتب، وقف ينتظر حديثها لكنها شعرت بهروب الكلمات من فوق لسانها كلما جمعت بضعة كلمات حتى قالت: شادي .. أنا ...
- إنتي إيه ؟
- أنا مش عايزه أكمل معاك
انتصب في وقفته مرهفاً مسامعه وسألها بهدوء حذر: إزاي يعني مش فاهم ؟
ضمت قبضتيها بشدة قائلة بارتباك: بص يا شادي .. أنا كنت فاكره نفسي بحبك بس .. بس قعدت مع نفسي وفكرت كتير لاقتني مش كدا
بغضب مكتوم سألها: وإنتي قدرتي توصلي لكدا إزاي ؟ بين ليلة وضحاها ؟
- لا أنا كنت بأقول لنفسي إنك لو مش عايز تتجوزني أنا هأمشي ومش هأتقل عليك أكتر من كدا .. يعني فكرت ف الفراق ومع ذلك...
هزت كتفيها متابعة: ماحستش بحاجه .. ماحستش إني ممكن أموت لو بعدت عنك أو إني مش هأتحمل بُعدك
ضيق عينيه بشدة وهو يكز على ضروسه: والعمل دلوقتي ؟
قالت بحماس دون أن تلحظ ردود أفعاله: ترجعني البلد عند أهلي تاني، ولو مش هتقدر وصلني لأقرب محطة وأنا هأتصرف
اقترب منها رويداً بخطوات هادئة متساوية كما يفعل الأسد قبل الإنقضاض على فريسته وعينيه تطلق شراراً أصابها بالشلل، همس: إنتي فاكره إنه دخول الحمام زي خروجه ؟ .. ولا فاكره إني ممكن أسيبك تطلعي م البيت دا ؟؟؟
نظرت إليه برعب حقيقي لأول مرة تشعر به في حياتها، تمتمت بصوت متحشرج: قصدك إيه ؟
أغلق باب الغرفة بالمفتاح ثم استدار إليها مقترباً منها: قصدي إن إنتي خلاص بقيتي ملكي، بتاعتي وبس .. دا بيتك من هنا ورايح
هزت رأسها بهستيرية وهي تتراجع للخلف: بس أنا مش عايزه
قبض على ذراعيها بقوة، رجها بشدة قائلاً بعنف: ما هو مش بمزاجك يا قطة !
جذبها إليه بعنف وبدأ في تقبيلها بأماكن مختلفة من وجهها، حاولت دفعه ولكن هيهات أن يتأثر الثور الهائج بخربشات قطة.
نزع عنها حجابها بالقوة، أمسكته تكافح للتشبث به لكنه بالنهاية استطاع أن ينزعه، دفعها أرضاً مثبتاً ذراعيها فوق رأسها، تصرخ بأعلى صوتها وما من مجيب.
ضحك بقوة ووحشية: مهما صرختي ماحدش هيساعدك، كل اللي هنا ماحدش منهم يقدر يقولي لا .. ولا حد فيهم يقدر يمنعني عنك .. فالأحسن تقبلي بمزاجك بدل ما يبقى غصب عنك !
تضرعت إليه باكية دون التوقف عن المقاومة: حرام عليك، سيبني .. بص خليني أمشي وأنا هاعتبر إنه مافيش حاجه حصلت ومش هأقول لحد على حاجه .. بس سيبني
سجن فكها بين أصابعه وقال مشدداً على كل حرف من كلماته حتى يضمن أنها استوعبت حديثه بشكل كامل: إنتي خلاص ما بقالكيش خروج من هنا
تابع ما كان يفعله وعاد صرخاتها للتصاعد من جديد، مزق ملابسها وهي تحاول الفكاك من بين قبضته.
بدأ جسدها يتهالك من المجهود الذي مارسته عليه ولكنها أبت التوقف عن المقاومة، دموعها تزداد إندفاعاً وظلت تردد بقلبها كلمة "يا رب" حتى لم يبق في وسعها قوة لتمتمة خافتة حتى...
استجمعت بعض قوتها وضربته بساقيها بينما يحبس ذراعيها في كفه، ما من جدوى مما تفعله فقد سيطر عليه الشيطان وجعله لا يتأثر ولا يشعر، يحاول الوصول لهدفه فقط.
تعالت صرخة مدوية على حين غرة ... فلقد تم الأمر ولم يعد هناك من مرجع.
***
رصت طعام العشاء تتشاركه مع جدتها لكن عقلها مازال شارداً في تلك الطفلة التي جار عليها الزمان، تتجرع كؤوس الوجع قبل أن تتعلم طريقة إمساكه بكفوفها الدقيقة.
لاحظت الجدة شرودها ولكنها لم تحاول الاستفسار منها عن السبب، إذا أردت ستأتي لتروي لها دون ضغط.
كانت خيالاتها تأخذها إلى أي مدى ستعاملها زوجة والدها بقسوه، لِمَ توقف القوي عن رحمة الضعيف والكبير عن العطف على الصغير؟، صار الظلم منطق الحياة والقهر سر لذتها.
لقد قرأت ذات مرة أن الظالم يظلم لأنه يحس بالمتعة في ظلمه كهتلر الذي كان عاشقاً للسيطرة والتحكم.
عندما توقف الناس عن استشعار مراقبة الله في كل عمل يقومون به، انتشرت جميع الصفات التي جعلت مجتمعنا في طريقه أن يصبح شبيهاً بديستوبيا .. هذا إذ لم يكن قد صار بالفعل.
خطر على عقلها فجأة .. ماذا إذا كانت ابنتها تشعر بنفس تلك المعاناة، تحيا الآن بين أشخاص فاسدون، تتجرع الظلم وتتذوق مرارة الألم.
لحسن الحظ أنهم انتهوا من العشاء، هربت لغرفتها تعبث بأحد الأدراج تخرج منه ثوباً زهري اللون، ضمته بشوق ولوعه إلى صدرها، تتلمس رائحة صغيرتها بين أنسجته، انكبت دموعها تغرقه وقلبها يتضرع إلى ربها .. "فلتحفظ طفلتي أينما كانت، أرزقها من يحبها ويحميها، يحنو عليها ويسقيها العاطفة التي لم أستطع أن أمنحها إياها".
لماذا يا الله تحرمني من طفلتي بينما الآخرين ينعمون بدفئ ضمتهم، لقد تزوج خليل بأخرى لما هي تقبل خد صغيرتها كلما شاءت وأنا حُرمت من بهجة رؤيتها ؟؟
استفاقت إلى حالها، استغفرت ربها راكضة مسرعة إلى حمامها تتوضأ والاستغفار لا يترك لسانها، سجدت إلى ربها باكية متأسفة، تتوسل إلى ربها أن يسامحها، لقد أضعفها شيطانها ولكنها قفزت عائدة لرشدها.
بدأت تدعو متضرعة: أسفة يا ربي ... سامحني وأغفر ذلتي، لا أعترض على مشيئتك فأنت أرحم الراحمين، أرؤف بقلب أم مكلومة حزينة لفراق طفلتها، فتك الشوق بقلبها الضعيف.
أنتهت راقدة على سجادة صلاتها وثوب صغيرتها يستكين بين أحضانها كأن الملابس تعبر عن شوق صاحبتها في الحصول على هذا الحضن الدافئ.
***
التوتر يملئ جو الحجرة كذلك الصمت هو السائد، استمر شادي في الذهاب والمجئ ثم توقف فجأة قائلاً: أنا هأدخل أشوفها
اندفعت نيفين ناهضة: لا خليك أنت .. أنا هاروح
جميلة: ما تخليه هو يروح يشوف البرنسيسة
وضحت نيفين: هو لو راح هترجع تتعصب ومش هنقدر نهديها .. علينا من دا بإيه ؟
أيدتها فتون وسمح لها شادي بالدخول إليها.
طرقت الباب عدة طرقات بهدوء لكن ليس هنالك من رد، دفعت الباب متمهلة، نظرت حولها ولم تجد حياه بالغرفة، اشعلت النور لتتأكد فزعة وأعدت تمر ببصرها في أنحاء الغرفة.
وجدتها متكومة في ركن بعيد تضم ركبتيها إلى صدرها، الدموع تنهمر بلا توقف وجسدها يهتز ويرتعش .. اقتربت منها ولكن أبقت على مسافة ضيقة بينهما سألتها: عامله إيه دلوقت ؟
لم تجبها حاولت تتبع اتجاه نظراتها لتجدها تنظر لنقطة ما على الجدار المقابل، نقطة واهية .. لمست كتفها وكان ذلك كأنها اضرمت فيها اللهيب، بدأت تصرخ وتزيد انكماشها.
ابتسمت نيفين قائلة: ما تخافيش، دا أنا ... أنا نيفين
هدأت قليلاً ولكنها حافظت على صمتها، تنهدت نيفين واستندت ظهرها إلى الحائط بجوارها جالسة وبدأت تتحدث: ما تفتكريش أنك لوحدك اللي حصلك كدا، كلنا مرينا بنفس لحظتك دي
أضافت ضاحكة: إلا جميلة طبعاً، كله كان بمزاجها
إلتفتت إليها حياه بانتباه لكن ما تزال تحافظ على صمتها، تشجعت نيفين لمتابعة الحديث لعله يخفف عنها ولو القليل، شردت في نقطة أخرى على نفس الجدار الذي شردت فيه حياه.
- هابدأ بحكايتي أنا، أصل الواحد مش بيعرف يحكي صح إلا الحكايات اللي تخصه، أنا كنت عايشه لوحدي أبويا وأمي ماتوا وأنا عندي خمس سنين وخالي هو اللي خدني قال إيه عشان يراعيني، ما كانش عندي أعمام لإنه أبويا وحيد وأصلاً كل أهله ماتوا ... مقطوع من شجرة يعني، المهم خالي أصلاً ماكانش تمام، كنت بأشك فيه ساعات كتير، شغله مش معروف له قرار ... يوم يغيب وعشرة قاعد ف البيت، عدت السنين وأنا يادوب أخدت الثانوية وقعدني في البيت .. قالي كفايه عليكي علام لحد كدا يعني اللي اتعلموا كانوا خدوا إيه، طبعاً ما قدرتش أقوله لا ... دا هو اللي بيصرف عليا وكفايه حملي كل دا عليه ... ما كنتش أعرف أنه بيفكر ف حاجه تانيه ... إنه يجوزني لحد عشان يرتاح من مصروفي ويلاقي حد يديه كل فترة قرشين، والله ما كنت بأكل أيام عشان ما أحسسوش إني حمل تقيل لكن نقول إيه! ... فعلاً كان هيجوزني لواحد متجوز تلاته وأنا الرابعة .. عنده منهم تلاتاشرعيل وعمره فوق الستين، كتمت ف قلبي وعيطت على أحلام طفولتي ودعت الفارس وحصانه الأبيض ... بس ف أخر لحظة جت مراته التالته وقلبت الجوازه، وقتها حسيت إنه أخيراً خلصت ... بس خالي هو اللي ما هديش، حاول يجوزني كذا مرة بعد كدا لكن للحظ السئ أو الكويس ما بقتش فارقه ... ما نفعش، اللي ما أجيش على هواه واللي تحصل حاجه معاه فيلغي الجوازه كدا يعني ... خالي بقى يشرب حشيش والذي منه .. اتقلب حاله والقرشين اللي كان بيجبهم بقوا يطيروا ع الكيف، أخرت ما زهق مني جه وسلمني لشادي، قاله أهي عندك أعمل فيها اللي يريحك
ضحكت بوجع: وأهو عمل فيا اللي يريحه ... قال إيه يقولك الخال والد .. قطيعه
سألتها: يعني أنتوا مش أخواته زي ما قولتولي ؟
نظرت لها نيفين بجدية: وإنتي لسه ما فهمتيش؟ .. لا إحنا مش أخواته، هو إحنا لو كنا إخواته كان عمل فينا زي ما عملك فيكي من شوية ؟
سالت الدموع على وجنتيها متسائلة بألم: طب وهو ليه بيعمل كدا ؟
- عشان ينفع يشغلك
رفعت رأسها بحيرة: يشغلني إيه ؟
تحسرت على براءتها لكنها أجابتها لتفهم حقيقة الحياة التي ستعيشها الآن: بنت ليل يا حياه ...
***
ألم الفراق لا يصيب فقط من فارق محبوبته، إنه يكون أكبر وأعظم عندما يفارق الأب ابنه والأم طفلها، الأخ أخاه أوأخته .. لكننا اعتدنا أن نحصر بعض الكلمات على الحب فقط .. فعند ذكر كلمة فراق أول ما يخطر ببالنا هو فراق المحبوب وعندما نذكر الشوق نقصرها على شوق الحبيب لحبيبته؛ كأن الشوق لا يصير إلا لهما وليس من حق غيرهما .. فالأم تشتاق لولده بل إن القلب ليشتاق لقاء ربه والروح تشتاق للسلام النفسي .. وهناك الكثير من الكلمات الأخرى التي تخضع لنفس القاعدة لدى البعض.
كانت جدران المنزل تضخ حزناً كحزن أهل البيت، لقد أختفت الضحكة ورحلة الحياة عن المنزل مع رحيل حياه، من يرى المنزل يعتقد أن لا أحد يقطنه لكن ما يدل على وجود من يسكنه هو صراخ التوأمين الذي لا ينقطع منذ رحيلها كأنهما يعبران عن فهمهما لما يدور.
زهرة بعد انتهاءها من أعمال المنزل اليومية وإعداد الطعام الذي لا يمسسه أحد تتجه إلى غرفتها وتغلق على نفسها، تدعو وتبتهل أن يصون الله شقيقتها ويحميها من كل سوء لكن الأجل مكتوب ولا يرده إلا علام الغيوب .. أما الدعاء فيخفف وطأة الأقدار على صاحبها، فيشتد بأسه وتقوى عزيمته.
استمر محمود في حياته اليومية معتبراً شقيقته في عداد الأموات، لقد أساءت لسمعتهم بين الناس وكسرت كلمتهم ولم تقم لهم مقام، عائشة مشتتة تخفف عن هذا وتحاول أن تزرع العطف في قلب هذا بدلاً من القسوه كما أن حمل الوليدين ليس بالهين.
انزوى أنس بعيداً، لا يخاطب أحد إلا لماماً، شعر بالذنب عندما ساعدها فأخبر زهرة التي أطلعت محمود ليتصرف، أسرع إلى حيث يقطن شادي لكنه لم يجده لقد سافر ...
توقف عن متابعة الأمر ولم يحاول اللحاق بهما، لقد شاءت الذهاب إذا فلتذهب لم يعد لها مكان بينهم، حاولت زهرة أن تقنعه بالبحث عنها لكنه لم ينصع لتوسلاتها، إن رأسه يابسة كالحجر الصوان وإذا وضع شيئاً برأسه لا يزحزحه أحد.
أما كبير العائلة فاروق فقد شعر أن تربيته قد ضاعت هباءاً، لقد كانت أقرب أولاده إلى قلبه لذا فإن خطأها ترك أثراً ليس في نفسه فقط بل في صحته، تدهورت صحته يأكل ما يقيم صلبه، يتناول الدواء قهراً نتيجة لإصرار زهرة عليه دون رغبة في الشفاء.
هكذا صار الحال بين مدعيّ اللا مبالاة وبين الحزين المشتاق، تابينت المشاعر ولكن الأثر واحد فلا يمر يوم دون بكاء ولا تمر ساعة دون ألم وأنين .. لكن إلى متى سيستمر هذا الحال ؟؟
***
بعد أن غطتها بمفرش لطاولة في المكتب لتخفي ثيابها الممزقة أو بالأصح لتداري عريها، أوصلتها إلى غرفتها وتركتها ترتاح كما طلبت منها، تشعر بالشفقة عليها فقد مرت بما مرت هي به من قبل.
تقوقعت حول نفسها تنتحب، لم تصدق أذنيها عندما أخبرتها عن غايته منها، إذا لم يكن للحب بينهما وجود، أراد استغلالها فحسب لكن أن تكون نهايتها العمل كعاهرة !
إزداد بكاءها، لا .. لا تريد أن تكون زانية، أن تكون ملعونة تُطرد من رحمة الله، أن يتمتع أي كان بملامسة جسدها .. لقد كانت تصون نفسها لتهبها لمن يستحقها لكنها توقفت عن ذلك منذ عرفت شادي، كيف تكون صائنة لذاتها وقد قابلته سراً خفية عن الأعين المتلصصة دون علم أهلها .. لقد بدأت هي في إضاعة نفسها وما كانت النتيجة إلا ما تعيشه الآن .. "لكني لا أريد أن يكون هذا مصيري .. ماذا أفعل؟؟"
فكرت وفكرت حتى تذكرت .. لقد أخبرتها والدتها ذات مرة عندما أفاقت ليلاً مرعوبة من أحد الكوابيس أنها إذا شعرت بالخوف والفزع، وأن الدنيا بدأت تضيق من حولها وتكتم على أنفاسها تذكر الله وتسجد له، تتلو آياته وقتها ستحصل على السلام الداخلي الذي يجعلها ترى الأمور على حقيقتها ويلهمها التدبر في حل كربتها ومقاومة مخاوفها.
نهضت مسرعة تستحم وتغتسل مما أجبرت على تحمله، أبدلت ملابسها الممزقة بعباءة وحجاب، صلت وصلت حتى لم تعد قدميها قادرة على حملها فأنتهت ساجدة تبكي وتدعو الله أن يمنع عنها شر هذا البلاء، أن يبدلها خيراً.
فُتح الباب ودخل شادي ناظراً لها بسخرية: إزيك دلوقتي يا ستنا الشيخة ؟؟
نهضت من سجودها ونظرت له بعيون مغروقة بدموع الظلم مرددة: حسبي الله ونعم الوكيل فيك، حسبي الله ونعم الوكيل فيك
كز على أسنانه بقوة واقترب قابضاً على ذراعها يرجها بعزم ما فيه: بتحسبني ف مين يا بنت الـ ...
اندفعت نيفين إلى الغرفة تشد يده ليفلت ذراعها صارخة: سيبيها يا شادي .. سيبها
شادي بغضب جامح: خليني أعرف هي بتحسبن على مين بنت الـ... دي !
حاولت نيفين إمتصاص غضبه: يا شادي هي لسه مصدومة وبعدين ما تقنعنيش أنك متأثر أوي بالدعوة دي .. ما اعتقدش أنك أول مرة تسمعها يعني
حول نظره إليها ونفض ذراعها التي كانت تتشبث بها لتمنعه من التفكير في ضرب حياه، اندفعت أرضاً من قوته بينما غادر لا مبالاياً: إلهي تولعوا أنتوا الإتنين .. بلا قرف
استقبلته جميلة بدلالها على باب الغرفة فقد كانت تتابع الموقف بصمت منذ بدايته: معلش يا حبيبي سيبك منهم .. تعالى أن هابسطك وانسيك كل حاجه
ابتسمت نيفين بسخرية: حلة ولاقت غطاها .. ولا إيه رأيك ؟
نظرت إليها حياه ممتنة: شكراً إنك دافعتي عني
ثم أضافت بشك وتردد: بس إنتي ليه بتعملي معايا كدا ؟
لوت شفتيها فيما يشبه الإبتسامة: يمكن لإني لما كنت مكانك كنت بأتمنى حد يقف جنبي يساعدني .. يدافع عني
- طب ليه ما حاولتيش تهربي وتخرجي من هنا ؟
نهضت تنفض يديها مجيبة بسخرية: هأروح فين يا حسرة، عند خالي اللي أصلاً هو اللي رماني هنا ؟
بتفكير: تقدري تبني حياتك من جديد لوحدك من غير حد
ملست على رأسها المغطى بالحجاب قائلة بشفقة: إنتي يا طيبة أوي وبريئة لدرجة السذاجة يا إما غبية أوووي .. وفي الحالتين ماكانش ينفع يبقى اسمك حياه لإنه الحياة لا هي تعرف معنى الطيبة ولا هي تعرف معنى السذاجة
أردفت: هنا زيه زي السجن بالظبط يا حياه .. اللي يخرج من هنا دا لو قدر يعني .. بتفضل نقطة سوده ف حياته .. لا هو بيقدر ينساها ولا اللي حاوليه أصلاً بيسمحوا له ينساها .. نقطة سوده معاكي لحد ما تموتي .. لو اللي قدامك ما ذلكيش بيها هتشوفيها ف عيونه من غير كلام
تمتمت حياه بحزن: بس دا ظلم
- وإيه ف حياتنا ما بقاش فيه ظلم ؟
تمتمت: إنتي فعلاً طيبة أوي يا حياه وساذجة ف نفس الوقت، كأنك اتولدتي على هنا على طول .. قولتي عندك كام سنة ؟
- 23 سنة
ضحكت: 23 سنة مرة واحدة، دا اللي عنده 3 سنين دلوقتي بيعرف أكتر منك
استفسرت حياه محتارة: هي الطيبة بقت عيب ؟
- لا مش عيب، بس زيها زي الوردة الملونة اللي بتجذب النحل عليها عشان ياخد رحيقها، إنتي بقى بتجذبي مش النحل .. بتجذبي الدبابير اللي هتفضل وراكي تمص دمك لحد ما تخلص على براءتك دي
تركتها لحيرتها وتساؤلتها، لقد كانت تظن أن الطيبة ميزة ولكن بعد حديث نيفين شعرت أنها أكبر جريمة.
***
دخل إلى منزله متعب من طول طريق السفر، وجد شقيقته مرتمية في أحضان والدتهما تبكي وتنوح، تنهد بتعب محدثاً نفسه: هو يوم باين من أوله .. مافيش راحه إنهارده أنا عارف
لمحه والده فاتجه إليه يستقبله: أهلاً يا ابني .. حمدالله ع السلامة
- الله يسلمك يا بابا، أومال فين مي مي ؟
- بتلعب ف أوضتها
- طب أنا هأدخل أشوفها
هبت شقيقته صارخة: يعني جاي من برا وشايفني مفحوطه من العياط وما كلفتش نفسك تقولي مالك ؟!
رفع جانب شفته قائلاً بملل: هيكون في إيه جديد يعني؟ .. كالعادة خناقة تافهة من تفاهاتك وفادي مالوش ذنب
ضربت بقدمها الأرض كالأطفال: شايفة يا ماما ابنك بيكلمني إزاي؟؟ .. وبيقول عليا تافهة كمان !
نهرته سمية بهدوء: مش كدا يا حمزه، براحه على أختك
أشاح بيده متجهاً إلى غرفته: أنا هأروح أغير وأشوف مي مي أحسن، بس يا ريت يا ماما تواجهيها بعيوبها .. أنا أصلاً مش عارف فادي مستحملها دا كله إزاي ؟
غادر تاركاً شقيقته كالبركان الذي على وشك الإنفجار بل كان يدفع الحمم بالفعل من بواطنه، حاولت والدتها تهدئة انفعالها ملتمسة لولدها العذر: معلش يا بنتي هو من ساعة اللي ما تتسمى دي ما عملت اللي عملته وهو بقى بيقول كلام دبش من غير ما يوزنه ويعقله
نسيت نجلاء حزنها على نفسها وتحولت إلى الحسرة على شقيقها: فين حمزه اللي هزاره كان بيخليني هأموت على نفسي من الضحك ولا نصيحته اللي بتبقى بهدوء وتخليني أعملها غصب عني لأنه بيقنعني بيها مش بيرمي كلام ملوش طعم
تنهد أحمد: ربنا يصلح الأحوال ليه وليكي
***
"لا مُنجي منه إلا إليه" .. لقد رددتها والدتها دائماً تبعتها شقيقتها الكبرى لتخطو خطوات والدتها، هي التي حقاً لم تهتم، كانت المدللة التي تفعل ما يحلو لها، تجد دائماً من يحل لها مشكلاتها، اعتادت على رعاية ودلال الجميع لها .. رغم مقدرتها على الإعتماد على نفسها لكن صدق المثل القائل "اللي يلاقي دلع ومايدلعش يبقى حرام عليه".
لم تكن تدري أن كل من دللها كان يخاف على تلك البراءة التي تملكها من الضياع بسبب أُناس لا ترحم، قلوب كالصخر وضمائر من زئبق تتغير بتغير المصالح والرغبات.
سلمى ... تلك الصديقة الصالحة ، كم من مرة نصحتها بأن تخفف من تصرفاتها اللا مسئولة حتى لا تزيد العاتق على أهلها عن الحد.
لقد كانت سلمى جارتها وصديقتها، لعبا سوياً منذ كانوا صغاراً .. أقاما سوياً في القاهرة لدى عمة سلمى رغم أنها التحقت بكلية ألسن في حين إرتادت سلمى كلية اقتصاد وعلوم سياسية .. لم يكن ذلك الإختلاف اليتيم بينهما بل كان هناك الكثير من التناقضات الأخرى .. سلمى تتحمل المسئولية منذ الصغر فوالدتها لم تسمح لها بالدلال الزائد خوفاً عليها من الفساد، مقتنعة أنها ذات يوم ستصبح ربة منزل وقتها لن يتقبل أي زوج كان دلالها، دائماً ما كانت قريبة من ربها تناجيه باستمرار تتلمس رضاه في كل عمل تقوم به .. أما هي فكانت علاقتها به وقوفها بين يديه خمس مرات يومياً وصوم شهر رمضان ولا تعرف للمسئولية معنى في قاموسها الخاص وأغلب معرفته بالدين لا تتعدى ما أخذته في الإبتدائي خلال حصص التربية الدينية.
فهمت منطق والدة سلمى في عدم الدلال؛ فلولا دلالها لما تعشمت في حب عائلتها لها معتقدة أنها إذا هربت وتزوجت من أرادت ثم عادت إليهم سيستقبلونها بأذرع مفتوحة واسعة لا تحمل إلا التراحب.
انتحبت حتى جفت دموعها ولا يحمل قلبها الآن إلا شعور بالمرارة والحرمان، لقد حرمت نفسها من حضن شقيقتها الدافئ وعطف والدها عليها، مزاح أشقاءها معها.
مرت بذاكرتها جملة قالتها لها زهرة سابقاً لكن في حينها لم تُلقِ لها بالاً أما الآن فقد تأكدت صدقها .. " ماتنسيش اللي بيحب بجد مش بيفكر حتى يأذي اللي بيحبه ... واقتراحه دا لو عملتي بيه هيدمرك مش هيأذيكي بس! .. خلي الكلام دا حلقة ف ودنك" .. لكنها أسقطته من أذنها.
سجدت تناجي ربها: يا رب، أنا عارفه إني قصرت معاك كتير وبعدت عنك أكتر بس أنت ارحم الراحمين ارحمني واغفرلي، أنا كنت ضالة والمحنه دي هي اللي هدتني، مش معترضة على حكمتك مادام ف الأخر قدرت أرجع لطريق الصح ولطريقك .. لكن يا رب ساعدني .. أنا لو فضلت في المكان دا هأضيع بجد، هيخلوني بنت ليل واعمل حاجات من الكبائر .. يا رب انقذني من هنا، أنا خلاص مش هأضيع طريقي في الوصول ليك من إيدي بعد ما لاقيته .. بس أرجوك خرجني من محنتي وفك كربي
دخلت نيفين بعد أن طرقت الباب بخفة حاملة صينية عليها عدة أطباق، هذه وجبة غداءها، وضعت الصينية على الطاولة التي تحتل مكاناً أمام الأريكة المقابلة للنافذة.
نهضت واتجهت إلى نيفين: اقعدي يا نيفين، عايزه أتكلم معاكي
جلست نيفين وقد ضيقت بين عينيها منتظرة هذا الحديث المهم، تنحنحت حياه ثم قالت بجدية: أنا عايزه أهرب من هنا
أسندت نيفين ظهرها إلى الخلف وعقدت ذراعيها، سألتها بهدوء: وهتهربي إزاي ؟
- هو أكيد هيسافر تاني مش كدا ؟
- حتى ولو .. هتعملي إيه يعني؟
- هأهرب وهو مش هنا أو حتى يوم مايكونش فيه موجود هنا
- إنتي فاكره الهروب بالسهولة دي ؟؟؟
- مادام مش موجود هتبقى سهلة، لا جميلة ولا فتون هيقدروا يمنعوني خصوصاً جميلة اللي مش طايقاني أصلاً دي مش بعيد تطير م الفرحة
استقامت نيفين وقد شدت ظهرها: إنها ما تطقكيش حاجه وإنها تسيبك تهربي حاجه تانية
أردفت عندما رأت علامات التعجب تعلو وجهها: إنتي تعرفي إيه عن شغل شادي ؟؟
هزت كتفيها مشيرة إلى قلة معلوماتها: إنه بيشتغل مع باحثين أثار وبيلفوا البلد يبحثوا ف تاريخ الفراعنة .. أه ونسيت أقولك إنه شغال قواد
أضافت الجملة الأخيرة ساخرة، أعطتها نيفين إبتسامة ساخرة: بقى تهربي مع واحد ودا كل اللي تعرفيه عنه؟
أسرعت مضيفة: على العموم أحب أقولك بعيداً عن الشغلانه الأولى اللي أنا ما اعرفش عنها حاجه .. إنه يبقى قواد مش بالسهولة دي .. مش أي واحد يجيب كام بنت ويشغلهم يبقى قواد
- أومال إيه ؟؟
- الشغلانه دي ليها أصول، زيها زي أي مؤسسه أو شركه أكيد بإختلاف الهدف، القواد دا لازم يبقى له بوص، رئيس أكبر منه يأمنله الحماية من الباقيين عشان ما يتغدوش بيه قبل ما يتعشى بيهم
- وإنتي تعرفيه ؟
- لا، ماحدش يعرفه غير شادي وبس .. حتى مش بيقابله كتير، أوقات الضرورة وبس
- زي إيه الضرورة دي ؟
أشارت إليها: زي إنه يوريه الوجه الجديد اللي هينضم للمجموعة .. أومال فاكرة كل الصور اللي اتصورناها قبل ما يسافر دي كانت ليه ؟؟
- يعني مش هاعرف أهرب؟
وقفت على قدميها ثم سحبت حياه من يدها، أزاحت جزء من الستائر وأشارت إلى نقطة ما في الخارج.
تطلعت حياه متمعنة لتجد شخصاً مفتول العضلات كأنه يحيا على اللحم فقط وليس أي لحم بل لحم نيئ مما يجعله قادراً على إلتهام شخص كامل.
عادت تنظر إلى نيفين التي أشارت إلى نقطة أخرى لتجد نسخة طبق الأصل من الرجل الأول ولكن بإختلافات طفيفة.
- إزاي ما شوفتهومش قبل كدا ؟؟
- لما جيتي كنتي نايمة وبعدين مراية الحب كانت عمياكي يعني لو واحد فيهم قالك أنا أهو مش هتشوفيه بردو
جلست مجدداً قبل أن تضيف: كمان كانوا مستخبيين لحد ما شادي ...
قطعت جملتها متأكدة من وصول مقصدها، انهارت حياه إلى جوارها: يعني مافيش أمل ؟؟
- مش عارفه ، أنا ما حاولتش عشان أقولك
كأنها تذكرت شيئاً أردفت: على فكرة شادي كان عايز ينزلك معانا إنهارده الشغل أصله شايف إنك بتتدلعي وأخدتي فترة راحة كافية بس جاتله مأموريه فأجلها لحد ما يرجع .. ماينفعش واحدة جديدة تطلع أول مرة ليها ف عدم وجوده .. قوانين بقى
حاولت إحجام ارتجاف جسدها متجاهلة إحساسها الداخلي بالتقزز: مأموريه إيه ؟
- هههههههههه يا بنتي ركزي ف حالك .. ع العموم دي كلمة بيقولها على كل حاجه بيعملها مش عايزنا نعرف عنها حاجه
سألتها: هو أنتوا بس اللي بيـ ...
علقت جملتها لا تدري كيف تصوغها، فهمت نيفين قصدها: من القوانين بردو إنه أكتر من خمس بنات ف نفس البيت خطر .. عشان ما يوزوش بعض على الثورة .. هاهاها سلامات يا ثورة .. شادي مسئول عن كذا فيلا زي دي فيها من 3 لخمس بنات .. بس مش عارفه عددهم ولا مكانهم فين .. لكن بيبقى سايب مكان لوحدة جديدة تنضم ف أي وقت .. ما ينفعش يبقى أكتر من واحدة جديدة ف نفس المكان لإنه بيخلي البت تعصلج والدماغها تنشف أكتر ..
همت تغادر الغرفة قائلة دون أن تستدير إلى حياه: ما تفكريش تهربي إنهارده وإحنا مش هنا، الحراسه هتتشدد بره يعني بدل الإتنين اللي شوفتيهم هيبقوا عشرة فريحي نفسك عشان ساعتها مش هتنولي إلا الــ ...
لم تكمل الجملة التي ترددت أصداءها في جميع أنحاء الغرفة كأن الجدران أيضاً تحذرها من عدم اقتراف مثل ذلك الفعل الذي لن يعود عليها إلا بالمزيد من الضرر.
لكن السؤال الفعلي الآن، كيف عرفت نيفين برغبة حياه في المحاولة تلك الليلة ؟؟.

Continue Reading

You'll Also Like

4K 760 26
هل تتحول الاحلام الي حقيقه يوما ما تحڪي هذه القصه عن قصه حب بدايتها من طرف واحد ونهايتها حب حقيقي من الطرفين لاعب كوره مشهوره يقع في حب معجبه من معجب...
3.1K 104 10
ابتسمت بغنج وهي تقترب منه بتؤدة ، تحاول ان تحتوي غضبه المتدفق من حدقتيه تلمس طرف كتفه بأناملها وتهمس وعيناها تنطق بإغواء خاص بها : لا تغضب يا قلب ،...
246K 8K 75
المقدمة: هم مملكة عريقة مترابطة يجمع بينهم الدم والحب والأخوة، تتكاتف قلوبهم، معروفون بسيماهم الحسنة، وبأخلاقهم، ولكن ما يخبئونه من شر خلف أقنعتهم؛ ت...
206K 6.9K 41
تفنن في تعذيبهن قبل أن يتركهن حُطـــــام .. وبإرادتهن خضعن له ، وإخترن أن يكُن ضحايـــاه .. وحينما لم يجد بينهن ضالته ، نبذهن عن عمـــد عراة ، ورحل ح...