5

325 12 0
                                    



ذهبت حياه يوم السبت بعد مرور شهر ونصف على إعطاءها الدروس وزيارتها يومياً ما عدا يوم الجمعة فهو يوم العطلة.
تفاجأت لأن المكان أصبح مهمل والمنزل مقلوباً رأساً على عقب، نظرت إلى مي مي التي فتحت لها الباب: هو إيه اللي حصل ؟
ترقرقت الدموع بين جفنيها وقبل أن تشير لها بما حدث فقد تعلمت حياه لغة الإشارة خصيصاً لتستطيع التواصل معها بسهولة أكثر وتصبح أقرب إليها، ظهرت نجلاء تنظر لها متسائلة وقدمت نفسها: أنا نجلاء
أومأت حياه: أهلاً وسهلاً .. حضرتك بنت مدام سمية مش كدا ؟
- بالظبط، إنتي المُدرسة بتاعت مي مي ؟
- أيوه، أنا حياه
دعتها للجلوس: ماما أول إمبارح بعد ما مشيتي بالليل ماما رجلها اتكسرت لما اتزحلقت على السيراميك ونايمه في السرير دلوقتي
ظهر الحزن جلياً على وجهها ولاحظت حبها لوالدتها، قدم الأب مرحباً بها: أهلاً يا بنتي، أعذرينا على حالة البيت بس اتلهينا ف سمية وماحدش فيه دماغ للترويق
ابتسمت متفهمة: ولا يهمك المهم سلامتها
- الله يسلمك
- ممكن أشوفها ؟
- طبعاً طبعاً
رافقها إلى غرفة سمية وتركهما بمفردهما.
اطمئنت على صحتها لكنها تفاجأت من طلبها: حياه، ممكن أطلب منك طلب بس أتمنى ما تكسفنيش
أسرعت حياه: طبعاً يا مدام سمية، لو أقدر أكيد مش هاتأخر
- اعتقد إنك شوفتي شكل البيت بره وإنتي داخله
هزت رأسها فتابعت: أنا متوقعة حالته، كل دا من يومين بس ما أخدتش بالي من البيت وفوق دا كله هأفضل في الجبس 21 يوم متخيلة حجم الكارثة اللي هأبقى فيها ؟ .. وما ينفعش أجرب خدامين في الوقت دا، الله أعلم ممكن يستغلوا الظرف دا ويسرقوا حاجه أو يعملوا فينا إيه وإحنا نايمين .. عشان كدا أنا بأطلب منك تيجي تقعدي معانا هنا تاخدي بالك من مي مي والبيت لحد ما أفك الجبس وبعد كدا اللي يريحك هيحصل
تفاجأت حياه من عرض السيدة التي أكملت: أوعي تفتكري إنه دا تقليل من قيمتك، أبداً والله أنا كان نفسي أطلب من نجلاء بنتي كدا بس هي مش قريبة من مي مي زيك كدا ولا ليها ف شغل البيت أخرها طبقين تغسلهم، كمان حياتها مع جوزها مش ناقصة لخبطه .. ومافيش واحدة أقدر اسيبلها بيتي وبنتي وأعيشها معايا زيك .. شوفي اعتبريه طلب إنساني وبردو هأدفعلك اللي تطلبيه
رفعت رأسها بشموخ وقالت بحدة حاولت تخفيفها لكن عرق الصعيد الذي يسري في جسدها يأبى الإهانة التي سمعها: أنا لو قبلت يا مدام سمية بكدا فهيبقى عشان أساعدكوا وقت حاجتكوا ليا بس مش عشان فلوس ولا حاجه تانية
تنحنحت السيدة بحرج: مش قصدي حاجه والله يا حياه أنا بـ...
أوقفتها عن تقديم أي عذر: خلاص اللي حصل حصل، أنا هأجي كل يوم أظبط أمور البيت بس هأروح بعد كدا .. مش هأقدر أبات
ثم أردفت بكبرياء: ومش عايزه فلوس .. أنا بأحس مي مي أختي الصغيرة أو بنتي كمان
ابتسمت سمية ابتسامة صدقة هي أيضاً اعتبرت حياه كابنة لها لم تنجبها، أحبتها وشعرت بأن الحياة جارت عليها دون أن تروي لها قصتها، رغبت بمساعدتها دون أن تعرف حتى مشكلتها.
***
ثار وطاح بكل من حوله، أصبح كالأسد المسعور يريد قتل من يأتي تحت براثنه فقط رغبة في تفجير غضبه المكبوت، هكذا صار حاله منذ علم بهروب حياه.
توعد لها وأطلق رجاله في جميع الإتجاهات بحثاً عنها متيقناً عدم عودتها إلى أهلها فهو يعرف كبرياءها .. ذلك الكبرياء اللعين الذي سيقف في طريقة عودتها مكسورة الخاطر مطأطأة الرأس .. ليس ذلك النوع من البشر الذي يقبل أن يعيش في هوان، رغم حبها لعائلتها ستختار العيشة وحيدة مرفوعة الرأس على العيش تحت جناحهم دون ماء وجه.
لقد تلقى التقريع واللوم من رئيسه الذي علم بهروبها كذلك، موجهاً إليه تهمة الإهمال والتسيب، كيف يثق بفتاة هو على علم بأنها ستنتهز أول فرصة في الهروب خصوصاً أنها أول مرة تخرج في عمل، لكن ما لم يعرفه رئيسه والذي احتفظ به لنفسه أنه حتى لو مر عليها ألف ليلة تعمل وجاءتها فرصة للهرب لن تتغاضى عنها وتدعها تمر دون استغلال؛ هذا لمعرفته بها.
تمتمت جميلة حانقة: هو مافيش غيرها يعني على وش الأرض يا شادي ولا إيه ؟؟ ما تسيبها نجيب عشرة أحسن منها
أسند يداً جوار رأسها على ظهر المقعد ورفع سبابة الأخرى في وجهها، كز على أضراسه كزاً: كله إلا حياه! حياه دي بالذات لازم ألاقيها
فتون متعجبة إصراره عليها: وإشمعنه يعني ؟؟
اعتدل شارداً: عشان مافيش واحدة تقدر تستغفل شادي، فاهمة ولا لا ؟؟
ضحكت نيفين ساخرة: ولا عشان البيج بوص هزأك عشانها ؟
أمسك فكها في كفه: تعرفي تخرسي خالص؟؟
دفعها بعيداً عنه لتسقط على أقرب مقعد وقد ملأ الحقد عينيها، سألته جميلة: صحيح أنت مش ناوي تقولنا هو مين البيج بوص ؟
- هيفرق معاكي يعني ؟؟
- عادي، فضول
تنهد: طب اتهدي بقى، لأنه أنا نفسي ما أعرفش شكله
انتبهت حواس الجميع خصوصاً نيفين، تساءلت فتون: إزاي؟ كل دا وما تعرفش شكله؟
- لا ، لما بيقابلني مش بيخليني أشوف وشه .. الأوضة نورها كله بيبقى عليا لوحدي وساعات بيكلمني ف التليفون بس
تمتمت جميلة بتعجب: غريبة
استغرق هو في تفكيره، يحاول الوصول إلى طريقة يعرف بها مكانها، يضع نفسه مكانها لعله يعلم إلى أين يمكنها الذهاب والإختفاء هكذا، مهما طال الزمن سيأتي اليوم الذي يصل فيه إليها ويجعلها تدفع ثمن هروبها من تحت يديه.
***
انتهت من العادة التي عودت جميع أهل المنزل عليها، والتي كانت تفعلها في منزل عائلتها، وهي وضع الزهور بكل غرفة وكل ركن، كذلك إشعال أعواد البخور يوم الجمعة معطياً رائحة أخاذه في الجو تبعث الحيوية والنشاط.
دق جرس الباب فذهبت تفتحه، تفاجأت بذلك الشاب صاحب البنيان القوي، يُرجع خصلات شعره للخلف بنظارته الشمسية ذات الماركة الشهيرة، لم تعجبها نظرته المدققة مما جعلها تتمتم بعصبية: خير ؟؟ حضرتك عايز حاجه ؟؟
احتلت السخرية ملامحه: أول مرة أشوف خدامة بجحه بالشكل دا
أزاحها جانباً بذراعه غير مبالي بالدهشة التي ملأت كل ملامح وجهها، أغلقت الباب بعنف وتبعته تريد أن تلقي فوق رأسه صخرة لتحطم بها سخريته وتهكمه.
أمرها بغرور: روحي اعمليلي كباية عصير برتقان وهتيهالي على أوضة ماما
رحل دون إضافة كلمة أخرى بينما وقفت هي تضم ثلاثة أصابعها الأولى وتهز كتفيها، من يرها يظنها ترقص ولكن عندما يلقي نظرة على ملامح وجهها المنكمشة يعلم كم تشعر بالضيق: ماما .. جاتك مو .. بقى شحط زيك بيقول ماما !، أما أنت تقول ماما أومال أنا أقول إيه ..!
أفاقت عندما رأت مي مي تقف أمامها ولا تستطيع تمالك نفسها من الضحك على مظهرها، نظرت لها بحنق: بتضحكي على إيه ؟؟
أشارت إليها دون أن تتوقف عن الضحك، وضعت يدها على فم الصغيرة: هش اسكتي خالص بدل ما أطلع اللي قالوه أخوكي عليكي أديني بأحذرك أهو
بعد أن تمالكت الطفلة نفسها من الضحك صحبتها حياه معها إلى المطبخ لتعد العصير، تركتها تلعب في غرفتها بينما دلفت إلى حجرة سمية حاملة الصينية.
دخلت تعض شفتيها حتى تمنع لسانها من الإنفلات، تناول العصير منها دون كلمة شكر واحدة بل الأدهى أنه أمرها أن تعد له الغداء لأنه يشعر بجوع شديد.
فهمت سمية نظرت الغضب المشتعلة في عيني حياه فهتفت تلوم ابنها بعد أن غادرت: مش كدا يا حمزه، مالك بتعاملها كدا ليه ؟؟
تناول رشفة من الكوب قائلاً بلا مبالاة: وهي دي أشكال خدامين يا ماما بردو ؟؟
سألته باستنكار: خدامين إيه يا حمزه؟! .. دي حياه مُدرسة مي مي !
لم يتهنى برشفة العصير فقد رشها بالهواء من هول الصدمة، قالت والدتها باشمئزاز: إيه القرف دا !، أنت مش كبرت على الحركات دي
اعتذر من والدتها وهم بالمغادرة، استوقفته محذرة: ما تنساش تعتذرلها يا حمزه.. بلاش الطريقة دي مع حياه بالذات .. البنت كتر خيرها يعني بتساعدني وأنت مشغول في شغلك وأختك بتجيلي مرة ولا إتنين في الأسبوع زيارة صد رد كدا
لوى شفتيه، من هي ليعتذر منها بالأساس، إنها واحدة من جنس حواء، الجنس الذي يتفنن في الإيذاء، مصاصي الدماء يتلذذون بدم الضحايا أما النساء فيتلذذون باستنزاف مشاعر الرجال ثم يلقونهم ليشبعوا رغبة أخرى أهمها الأموال.
شرب من العصير متلذذاً بطعمه، مال برأسه جانباً: هي أي نعم شكل لسانها متبري منها بس عليها عصير أول مرة أشرب عصير حلو بالشكل دا .. هاهاها بس بعينها تسمع الكلام دا
***
رغم الحزن الطاغي في المنزل لكن تناسى الجميع هذا الحزن وبدأوا بإعداد وليمة ضخمة للضيوف القادمين.
أمسكت المعلقة من يد زهرة لائمه: معقول يا زهرة لحد دلوقتي ما جهزتيش؟؟
- أخلص بس الفصوليا وبعدين أطلع
- بلا فصوليا بلا بسلة، اطلعي اجهزي وأنا هأشوف اللي ناقص .. يا بنتي العريس دا جايلك إنتي مش جايلي أنا
زفرت بحدة: أنا لو عليا مش عايزه جواز خالص
- ليه كدا بس يا زهرة؟
- يعني مش شايفه اللي إحنا فيه؟ .. أتجوز إزاي وأختي مش جنبي ؟؟
أتاهم صوت من على باب المطبخ يهدر بقوة: انسي إن ليكي أخت، إحنا أربع أخوات بس!، ما تفكريش فيها أحسنلك.
ربتت عائشة على كتفها متنهدة: يلا اطلعي إنتي دلوقتي
انصرفت زهرة صامتة، بينما تابعت عائشة حديثها وهي توجهه إلى زوجها: براحه يا محمود مش كدا، زهرة كانت معتبرة حياه بنتها مش مجرد أخت .. كأنك بتقول لأم انسي بنتك بالظبط
أشاح بيده منصرفاً: ما تجبيش اسمها تاني على لسانك فاهمة ؟؟
تنهدت عائشة بحيرة، كل من بهذه العائلة يمتاز بعناد موروث منذ سابع جد فكيف لها أن تتغير تلك الصفة بين ليلة وضحاها .. ليس بيدها إلا الدعاء.
اجتمعت عائلة العريس مع عائلة زهرة، جلسة للرجال فقط يتحدثون بهدوء وانسجام حتى فُتح موضوع حياه.
تحدث والد العريس: مافيش أخبار عن حياه؟
أجابه فاروق بوجه جامد كالصخر: إحنا ماعندناش بنت بالاسم دا
شقيق العريس الأكبر ملمحاً بلكنة صعيدية: ليكوا حَچ، بس الخوف إنها تكون صفة ف العيلة
محمود وقد تملكه الغيظ: جصدك إيه يعني؟
عم العريس موضحاً: اللي وصلك بالظبط يا محمود، مش يمكن أختها زييها، دا مش بعيد تكون ألعن منيها .. مين عارف ؟؟
نهض فاروق: ومادام فيه أفكار زي دي ف دماغكوا إيه اللي چابكوا إنهاردِه ؟
محمود مؤيداً والده: والله أختي ألف مين يتمناها وإحنا ما ضربنكوش على إيديكوا عشان تيچوا تطلبوها
انتفض العريس من مجلسه: وأنتوا تطولوا تناسبوا عيله زيينا ؟؟
محمود بفخر: وأحسن منيكوا كمان !
كانت عائلة فاروق تتحدث في أغلب الوقت باللهجة القاهريه وذلك نتيجة تربيتهم عليها من قبل فاروق وزوجته –رحمها الله- لكن وقت الحاجه يتحدثون باللكنة الصعيدية حتى لا يظن الأخرون أنهم عجينة لينه.
والد العريس ساخراً: أوعاك تكون فاكر أنه في حد هيفكر يتچوز أختك يا محمود .. تبجى بتحلم يا وَلدي
محمود: ومالها أختي يا حاچ ؟ .. دي ست البنات .. والبلد كِلاتها عارفه إكده
- أيوه لكن بعد اللي حُصُل من أختك الصغيرة كِله انجلب
فاروق بحزم: دا عنديكوم أنتوا وبس، لكن فيه ناس كَتار مش بياخدوا حد بذنب حد
نهض عم العريس وأشار للبقية بالمغادرة: يبجى خليك مستنيه بجى لما ياجي
غادر العريس مع رجال عائلته ولحق بهم النساء فقد كن يجلسن برفقة زهرة وعائشة بالحجرة المجاورة.
نظرت عائشة إلى زهرة هامسة: يظهر إنها مكتوبالك يا زوزا، مش هتتخطبي أهو من غير ما تكون حياه هنا .. تحسي إنها عامله سحر طول ما هي مش هنا مش هنفرح هههه
ابتسمت زهرة ابتسامة باهتة، لقد اشتاقت لشقيقتها كثيراً ولكن إلى متى سيدوم الإشتياق ويتحمله القلب قبل أن يرتوي؟
***
اختفت خلف في ستارة بركن من أركان غرفة مي مي مخصصة لمسرح العرائس ولاعبتها من خلفها مقلدة الأصوات بطريقة رائعة وفي الأغلب مضحكة إلى درجة البكاء.
كانت مي مي تجلس ضاحكة وقد أوشكت على السقوط على ظهرها من كثرة الضحك، وكان هو على وشك المغادرة عندما استوقفته ضحكاتها التي لأول مرة يسمع لها صوتاً، راقبها من الباب المفتوح على مصرعيه وقد عقد ذراعيه مستنداً إلى إطار الباب.
- وبعدين بقى يا لوزة ! .. إنتي هتتعبيني معاكي ليه ؟؟
جاء الدور على الدمية الفتاة: إمشي يا فلفل بدل ما افتح دماغك بالأوله دي !
المهرج: أولة إيه يا بت إنتي .. وبعدين هو حد قالك إنه دماغي عطشانه ؟؟
الفتاة: أنت فاكر موضوع لما تفتكرني خدامه عندكوا هأعديه بالساهل دا يبقى بعدك !
لم يستطع لجم نفسه أكثر من ذلك وسحب شكل المهرج من يدها وارتداه هو وبدأ يتقمص دوره: ويا ريت ما تنسيش يا لوزة أني خليتك تعمليلي عصير وبعدها غدا .. اتفقنا ؟؟
كانت تشعر بالحرج عندما علمت بسماعه لكلاماتها الأخيرة، لكن بعد جملته تلك عاد الحنق يملأها وردت قائلة بينما تنظر داخل عينيه بقوة: مطرح ما يسري يهري
أمسك معدته مصدوماً وقال بفزع مصطنع: بعد الشر
لم تستطع تمالك ضحكاتها فغرقت في عاصفة من الضحك لم يسحبها منها إلا صوته الحاني عندما قال: تصدقي ضحكتك حلوه أوي
توقفت بهتة ونظرت إليه وعينيها تبعث شراراً فأضاف: بس عصيرك وحش أوي .. إخيه
نزع الدمية من كفه وغادر الغرفة فجأة كما دخلها مخفياً ابتسامة ماكرة شقت شفتيه، نظرت إلى الطفلة فوجدتها تنظر لها بعدم فهم هي الأخرى، أيعقل أنها لا تفهم تصرفاته مثلها ؟
***
شعرت نجلاء بالغرفة تدور من حولها، تناولت الهاتف تدق على الهاتف المحمول الخاص بوالدتها لكنه مغلق، سيطرت على نفسها بقسوه وهي تدق على تليفون المنزل الأرضي لعلها تصل إليها لكن حياه هي من أجابت: السلام عليكم
تحدثت نجلاء بصوت متقطع: حياه .. إلحقيني
أقلقها صوتها الهامس المتوجع: مالك يا نجلاء ؟؟
- تعبانه أوي .. دايخه ومش قادرة أقف
- طب إنتي فين دلوقتي ؟؟
- أنا في البيت
- هاتي العنوان طيب وأنا هأجيلك
أملتها العنوان وبعدها فقدت السيطرة لتذهب في عالم أخر لا تدري فيه شيئاً.
نادت عليها حياه عدة مرات لكن لا حياة لمن تنادي، فكرت ماذا تفعل لا أحد بالمنزل غيرها هي والطفلة، سمية ذهبت برفقة زوجها إلى الطبيب وحمزه ذهب إلى عمله، ليس هناك من حل غير أن تأخذ مي مي معها.
وصلت إلى العنوان وصعدت لكن الباب مغلق وليس هناك من مجيب، طلبت من حارس البناية أن يكسر الباب بعد تردد فعل ما أمرت به خشية مصيبة أكبر.
اتصلت بالإسعاف عندما وجدتها ملقاه أرضاً ونقلتها إلى المستشفى، أجرى الطبيب العديد من الفحوصات والتحاليل كذلك مسحاً ذرياً مما أقلقها وأنساها أن تهاتف أهل نجلاء أو منزل حنان .. كما أنها لا تملك هاتفاً محمولاً ليتصلوا بها حتى يطمئنوا.
***
- أن مش عارفه إيه اللي بتعملوه دا ؟؟ .. هو أي واحدة كدا تأمنوها ع البيت وعيله صغيرة ؟
أخفت سمية وجهها خلف كفيها: يا حمزه حياه عمرها ما تعمل كدا
هتف غاضباً: أومال تفسري بإيه حضرتك أنه الساعة دلوقتي 10 وهي لسه ماجاتش وأصلاً خرجت مع البنت من غير استأذن
أحمد بصرامه: أتكلم كويس يا حمزه وما تنساش إني أبوك ودي أمك
قطع التوتر صوت الجرس، فتح أحمد الباب ووجد حياه تحمل مي مي النائمة على كتفها، ادخلها بعد أن تناول الفتاة منها.
استقبلها حمزه هاتفاً: وأخيراً الهانم شرفت
نهرته سمية وهي تكفكف دموعها بعد أن اطمئنت على عودة الطفلة سالمة: استنى يا حمزه نفهم إيه اللي حصل
قال أحمد بعد أن وضع الصغيرة بغرفتها: اهدى بقى .. إيه اللي حصل يا بنتي خلاكي تخرجي وتتأخري بالشكل دا من غير ما تقولي لحد ؟
تداخلت أصابعها بين بعضها من فرط التوتر وصارت تلويهم في قلق لا تدري ماذا تقول، حثتها سمية على الحديث دون خوف فقالت: أصل فيه واحده صحبتي تعبت فجأة وروحت أساعدها
سألها أحمد: طب ما اتصلتيش بينا ليه ؟
- مش حافظه أرقامكوا وماكانش معايا تليفون وكنت خارجه بسرعة، خوفت أسيب مي مي لوحدها لتخاف فأخدتها معايا
حمزه ساخراً: وإحنا عبط بقى عشان نصدق البؤين دول مش كدا ؟
ظهر العرق الصعيدي كعادته فقالت بعصبية: والله أنا مش بأقول الكلام دا عشان تصدقوا أو لا .. أنا قولت كدا عشان أبرر موقفي وأقول اللي حصل عشان من حقكوا مش أكتر .. لكن غير كدا ما عنديش حاجه تانية .. وأتمنى أنك تاخد بالك من طريقة كلامك معايا يا باشمهندس
هتف: مالها طريقة كلامي يا أستاذة، لأكون باكلمك من وداني والكلام طالع من مناخيري .. إنتي اللي ما تنسيش نفسك وإنك مجرد واحدة إحنا مشغلينها عندنا
نهرته سمية لكن أحداً لم يستمع إليها، هجمت عليه تدافع عن نفسها: والله أنا مش شغاله عند جنابك عشان تكلمني كدا .. مش عشان قبلت أقف جنب والدتك واستحملت إهانتك ليا يبقى أنا شغاله عندك !، وإذا كان ع القرشين اللي باخدهم من تدريسي لمي مي الله الغني عنهم يا شيخ !
انصرفت دون أن تستمع لنداء أحمد أو سمية، فيما فقد إحساسه بالعالم لدقائق ثم ركض مغادراً تاركاً الدهشة تعلو وجه والديه.
قاد سيارته وسار على مهل متلفتاً حوله، وجدها تسير بخطوات حازمة تحمل الكثير من الغضب، هدأ السرعة بشكل أكبر وأنزل الزجاج: تعالي اركبي
لم تعيره أي اهتمام وأكملت طريقها، عاد يطلب منها محاولاً كتمان غضبه: يا بنتي اطلعي هأوصلك بيتك وبعدين اعملي اللي إنتي عايزاه .. الجو ليل وما ينفعش تمشي لوحدك
بعد لحظات عندما فقد الأمل في إجابتها قالت بهدوء لا يتناسب مع حركاتها الغاضبة: ماينفعش أركب معاك العربية لوحدي
تنهد بحنق ثم دلف إلى الشارع الذي يليها، نظرت حولها لتجد أن هذا الشارع لا يسير فيه سواها تغلبت على خوفها وأكملت الطريق تدعو أن تصل سالمة.
لمحت مجموعة من الشبان يبدو من مشيتهم أنهم غير طبيعيين، من فزعها توقفت في مكانها بينما اقتربوا منها حالما رأوها.
انكمشت في مكانها مغمضة عينيها، سمعت صوت لكمات يتلوها تأوهت، فتحت عينيها ببطء عندما سمعت صوتاً لاهثاً يقول: مشيوا خلاص
تنهدت براحه، أردف: مش كنتي سمعتي الكلام وركبتي معايا أحسن
تحدثت إليه بعصبية حانقة تقذفه بنظرات اللوم: أنت اللي سبتني ومشيت
نظر إليها متعجباً من ردها: أنا روحت أركن العربية عشان أجي اتمشاها معاكي مادام مش راضية إنتي تركبي معايا
شعرت بالخجل يلفها فنظرت أرضاً، بدأوا بالسير صامتين حتى وصلوا أسفل المنزل دون أن يشعرا بمرور ساعة من الزمن.
تأكد من دلوفها إلى منزلها .. لم يقدم اعتذاراً عما قاله .. حدثت نفسها أنها ليست بأخر معلمة في الدنيا وأي معلمة أخرى تستطيع تأدية دورها إن لم يكن أفضل .. لكن نسي أن الأمر ليس بيده وأنه إذا اقتنع بما قال .. لن تقتنع هي !

رُزقت الحلالWhere stories live. Discover now