"ما اقترفته يداي" القسم الأول

Start from the beginning
                                    

انسابت نغمات المقطوعة العذبة بنعومة لتتغلغل في أعماقها وبعثت في جوفها دفئا خاصا رسم ابتسامة رقيقة على ثغرها على الرغم من الألم الذي لم يبارح روحها منذ وقت طويل..أسبلت جفنيها لوهلة وأخذت نفسا عميقا قبل أن تعاود فتحهما مجددا وتجول بنظرها نحو الفتيات اللواتي اصطفين أمامها بانتظام في وقفة استعدادية مألوفة فقالت بلطف :"استرخين يا فتيات فنحن لسنا في صف عسكري..وهذا المكان ليس عبارة عن ثكنة..هذا أوّل شيء أريد منكن أن تتعلموه قبل أن نبدأ بأيّة تدريبات" تبادلت الفتيات النظرات الحائرة بين بعضهن فبدأت بالتجول بينهن وهي تردف قائلة :"جميعنا يعلم بأنّ الباليه يعتمد بشكل كبير على انتظام الحركات واتبّاع النظام خلال الرقصات بشكل كبير..فهو في النهاية أكثر أنواع الرقص قوّة ويتطلب تركيزا وجهدا كبيرين..قد نبدو في الخارج كالفراشات الهشّة الرقيقة التي قد تتحوّل إلى فتات بعصرة صغيرة..إلّا أنّنا نملك قوّة لن يتسنى له رؤيتها سوى من ينظر إلينا بإمعان وصدق فنحن نخطّ الجمال بدءا من هامات رؤوسنا إلى أطراف أصابع أقدامنا..لكن إن أردنا النجاح بذلك فعلا فلا معنى لإتقاننا هذا إن لم نبدأ من النقطة الأكثر أهميّة داخل كلّ واحدة منّا..هنا" وأراحت كفّها على صدرها ومنحتهن ابتسامة عذبة مضيفة :"إن لم ينبع إحساسكن بما تفعلون من قلوبكن فسيفقد معناه وسحره..لذا أريد من كلّ واحدة فيكن أن تفكرّ مليّا في السبب الذي جعلها تكابد التعب والألم واليأس لكي تصل إلى ماهي عليه اليوم وأعدكن بأنكن ستتخلصن من كلّ هذا التوتر عندما تعثرن على الإجابة" تنحنحت إحدى الفتيات في وقفتها فالتفتت إليها ريان وسألتها بفضول :"هل لديك أيّ استفسار أو سؤال يا جنى؟" تلكأت الفتاة قليلا قبل أن تجيب بتردد :"لا نملك سوى شهر واحد لإنهاء التدريبات على عرض بحيرة البجع على منصة أهم المسارح في البلاد يا ريان..هل تعتقدين بأنّه وقت كاف لكي نتحمل مسؤولية عرض بهذه الضخامة؟؟" سرعان ما تدخلت الفتاة إلى جانبها قائلة بارتباك :" أنت لديك خبرة وتجربة كبيرة في عالم العروض في المسارح الضخمة، لماذا لن تؤدي معنا وتقومي بقيادتنا في العرض يا ريان !!" لكزتها رفيقتها التي كانت بجانبها بمرفقها فتأوّهت الفتاة عاليا باعتراض..تجاهلت ريان المشهد أمامها وأجابتها باقتضاب :" لقد اعتزلت الرقص يا ميس، أنا هنا لأقوم بتدريبكن فحسب!!" ثمّ التفتت نحو جنى وأجابتها بجديّة :"لن أجيبك على سؤالك هذا لأنّ الإجابة تكمن في العمل لا الكلام..جلّ ما أستطيع قوله بأنّ الوقت أكثر من كاف لتتحدين فيه أهم فرق الباليه في العالم أجمع..يلزمكن فقط بعضا من الثقة والكثير من الإيمان!!" اتجّهت نحو المسجّل الصوتي لتضبط المعزوفة وقوّة الصوت وفردت ذراعيها على امتدادهما هاتفة بتحفيز :"والآن..افردوا أجنحتكن يا فتيات!!" بدأت الفتيات بتنفيذ تعليماتها من دون أن تلاحظ أيّا منهن غلالة الدمع الحارق التي أغرقت مقلتيها اللامعتين.

"إنّي حقّا لا أفهمك يا ريان!! لديك في مساء اليوم عرض ضخم وها أنت ذا تتسكعين مع هاتفك وسمّاعاتك وكوب الشوكولا الساخنة الذي لا يفارقك هذه الأيّام" دارت ريان بعينيها وهي تستمع لصديقة طفولتها بصبر نافذ وأجابتها بنزق مازح :"أتعلمين يا هادية؟؟ أحيانا أتساءل من هو المسؤول الحقيقي عن العروض والأداء، هل هو زوجك العزيز أم أنت..ويتراءى لى في كثير من الأوقات بأنّ القائد الفعلي هو أنت!!" عقدت هادية حاجبيها وزفرت هاتفة بعصبية :" اسخري أنت..أساسا هذا كلّ ما تبرعين فيه!!" عضّت ريان على شفتها لتكتم ضحكتها وهي تسألها بعتب مزيف :"سامحك الله..وأنا التي كنت أظنّ نفسي أنفع لأشياء أخرى على الأقل!!" حدجتها بنظرة ساخطة قبل أن تعترف مرغمة :"لا تدعي التواضع أيتّها الشقيّة فأنت تعلمين بأنّك أفضل راقصة باليه في البلاد..هيّا افرحي لقد اعترفت لك بشيء آخر تبرعين فيه!!" أطلقت ريان ضحكة رقيقة وأحاطت كتفي صديقتها بذراعها هامسة بجذل :"لا يهمّني هذا الإعتراف مقدار ذرّة..أريد منك اعترافا أكثر أهميّة..والآن!!" أفلتت من هادية ضحكة صغيرة وهي تدفعها عنها قائلة :"وأفضل صديقة عرفتها البشرية!! ها هل ارتحت الآن أيتّها الماكرة؟؟" أومأت برأسها برضا وهي ترتشف كوبها بتلذذ قبل أن تسأل بفضول :"بالمناسبة..لمَ تتسكعين معي؟؟ ألن تتجهزي للعرض؟؟ أعلم بأنّك في العادة تقضين وقتا طويلا في تحضير نفسك لليلة مهمّة كهذه!!" ضربت هادية باطن كفّها على جبينها وحدّقت بها هاتفة بعدم تصديق :"وهل أنا التي عليها التواجد على المنصة بعد ما يقارب الخمس ساعات!! ليس من الغريب أن يأتيني طارق بعد يوم عمل طويل متعكرّ المزاج..عليّ أن أشكر ربي بأنّه لا يزال في صوابه!!" شخصت بها ريان بصدمة ومالبثت أن أخرجت هاتفها لتتفقد الساعة فوجدتها تقارب الثالثة عصرا، خرجت منها شهقة صغيرة وهتفت بدهشة :"يا إلهي لقد سرقني الوقت فعلا!! عليّ الذهاب يا هادية أراك بعد العرض!!" كانت قد بدأت بالإبتعاد فعلا عندما سألتها هادية هاتفة بدورها :"أستذهبين إلى المسرح الآن؟؟" استدارت ريان ومنحتها ابتسامة شقيّة وهي ترفع كتفيها وأجابتها غامزة بعبث :"إنّ كنت تعرفيني عن ظهر قلب كما أظن فستجيبين عن السؤال بنفسك!!" وأخذت تهرول لتختفي عن أنظار هادية التي هزّت رأسها مبتسمة وهي تتمتم لنفسها :"مجنونة!!"

ما اقترفته يدايWhere stories live. Discover now