"ما اقترفته يداي" القسم الأول

2.5K 105 36
                                    




لعلّ أوّل ما اختلج داخل قلب الإنسان منذ بدء الخليقة هو ذلك الشعور المبهم الذي اعترى آدم عندما لمح بجانبه تلك الأنثى التي بابتسامة منها حطمّت الأسوار المنيعة التي قد نصبتها الوحدة حول قلبه البارد فكانت له الحياة وتوأم الروح التي قبع بانتظارها طويلا دون أن يدري..بيد أنّه سرعان ما فقدها وفقد معها جنّته وسعادته وبات يجوب الأرض بحثا عنها إلى أن عثر عليها ومذ ذاك الحين بدأت رحلتهما معا حيث التوبة والأمل...إلّا أنّ ذلك الشعور الأوّل الذي أدفأ قلب آدم وسيطر عليه منذ اللحظة الأولى التي تلاقت عيناه بابتسامة حوّاءه الساحرة لم يعد يتيما، بل بدأ بمزاحمته شعور آخر مختلف تماما يكاد أن يساويه قوّة ويوازيه زخما..كان قاسيا..مؤلما..كوى قلب آدم وجلد روحه بسياط من جحيم ليقينه من جريمته النكراء التي اقترفها بيديه فحرم بها نفسه ومن يحب طعم الجنّة....نعم لقد كان مذنبا حتى لو شاطرته حواء الذنب نفسه..فوقعت روحه صريعة تتلّظى بين نارين..الحب والذنب..في أحدهما خلاصه..وفي الأخرى لعنته الأبدية..

عصفت في الجو بضع نسمات صقيعية محملّة بوعود صارمة بشتاء قاس فتسربّت من بين أنسجة معطفها الصوفي الثقيل وصولا إلى قميصها القطني الأسود الخفيف لتتلاشى بين عظامها التي تراقصت في جوفها في اعتراض صامت على الهجوم المباغت فانكمشت على نفسها في وضعية دفاعية علّها تنجح في لملمة ما يوفره معطفها المتواضع من دفء زهيد.. كانت تهرول على عجل بين شوارع وأرصفة المدينة المزدحمة بأنفاس متقطعة لا تتناسب مع رشاقة حركاتها التي بدت لكلّ من رآها تعود لفتاة غلبت قوانين الجاذبية ولم تعد بحاجة لكي تطأ قدماها الأرض..وصلت أخيرا إلى المكان المنشود فدفعت الباب بيدها بلامبلاة واندفعت داخل المبنى الصغير وهمّت بخلع معطفها بسرعة وهي تلقي بتحية مرحة خاطفة للفتاة الجالسة خلف منصة الإستقبال :"صباح الخير يا لارا..كيف حالك؟" أجابتها الفتاة بابتسامة لطيفة :"صباح النور يا ريان..إنّ الجميع ينتظرك في الصف، كدت أتصّل بك فلقد تأخرت على غير عادتك..هل كل شيء على ما يرام؟؟" منحتها ريان ابتسامة شابها حزن لا يتناسب مع طبيعتها المشرقة وتمتمت بخفوت :"لا تقلقي فكل شيء على ما يرام..لقد هرب مني الزمن لدقائق..أراك لاحقا!" واختفت من أمام الفتاة لتدلف إلى الغرفة المجاورة حيث ينتظرها يوم طويل..

أخذت ورقة شجر قرمزية بالدوران حول نفسها وهي تتأرجح ذات اليمين وذات الشمال تحت رحمة الريح التي كانت تزداد ضراوة وبرودة مع اقتراب حلول المساء إلى أن ساقها القدر لتستقر على سطح نافذة ضخمة باتت الحد الفاصل بينها وبين ذلك الرجل الكائن خلفها والذي كان أشبه بتمثال وهو يراقب رحلتها المضنية بعينيه المظلمتين كبئرين عميقين لا قرار لهما..تناهى إلى مسامعه بضع نقرات خفيفة على الباب فأجاب بإقتضاب من دون أن يحيد بناظريه عن المشهد في الخارج :"ادخل" فتح الباب ليظهر من وراءه رجل ثلاثيني متوسط القامة ذو وجه بشوش وعينين بنيتين لامعتين مازحتين وهو يقول بمرح :"ها أنت هنا وأنا الذي كنت أبحث عنك في كلّ مكان يا صاحبي!!" ردّ عليه سائلا بهدوء :" إن كنت تبحث عنّي بحق أليست غرفة مكتبي المكان الأنسب لتبدأ به بحثك؟؟" أطرق أيهم برأسه جانبا وهو يتخلل شعره الكثيف بين أصابعه مجيبا بإحراج :"حسنا لن أدعي البراءة وعدم الفهم، أنا أعلم بأنّك هنا لكنّي لم أشأ أن أقتحم عليك خلوتك..أمّا الآن فقد حان الوقت لكي تأتي معي لتغير هذا الجو الكئيب الذي سجنت نفسك به..لا تناقشني يا ميران هيّا تعال معي!!" التفت ميران نحوه صديقه وألقى عليه نظرة سريعة خاوية قبل أن يتخذ مقعده خلف طاولته ويجيب بنبرة حازمة :"لن أذهب إلى أيّ مكان..عليّ الانتهاء من بعض الأعمال العالقة..اذهب أنت ولا تشغل نفسك بي!!" هزّ أيهم رأسه وزفر بتعب وهو يقول بعناد :"كلانا يعلم تماما بأنّه ليس لديك شيئا لتنهيه يا ميران لكنّك تبحث عن عذر لكي تبقى وحدك بصحبة أفكارك المجنونة التي هي في الأصل السبب الرئيسي في حالك هذه!!" رفع رأسه بحدة وحدجه بنظرة نارية قد تخيف من لا يعرفه لكنّها لا تعني شيئا لصديقه الذي يعرف تماما ما يخفيه خلف تلك القسوة الظاهرة فاقترب من مكتبه وضرب قبضته على الطاولة قائلا بجدية :"كفّ عن هذه التمثيلية السخيفة وقل لي ما الأمر؟؟ من الجلي بأنّك لست بخير أبدا!!" حدّق به ميران بعينين حمراوين محتقنتين للحظات حتّى همس أخيرا بكلمات مخنوقة :"لقد وصلتها أوراق الطلاق اليوم صباحا" خيّم الصمت في أرجاء المكان لوهلة قبل أن يقطعه زفير أيهم المتوتر وهو يعلقّ بإستنكار خافت :"كيف فعلتها يا ميران؟؟ هل جننت؟؟!" هبّ من مقعده موجّها إصبعا مرتجفة صوبه هاتفا بحرقة :"إيّاك وإضافة كلمة أخرى يا أيهم وإلّا لن أكون مسؤلا عمّا يحصل لك!!" بادله أيهم بنظرات حانقة وأجاب غير مبال بتهديداته :"وهل يهمّك كثيرا ما سأقول؟؟ لقد فعلت ما فعلته بالرغم من تحذيراتي العديدة لك بأن لا تقدم على أغبى خطوة في حياتك!! ما الذي أصابك لتتخلّى عن من تعشق بكلّ جوارحك بسبب أوهامك المخبولة؟!! هل يتوجب علي أن أذكرك بها يا ميران؟؟" لم يكد ينتهي من سؤاله المجازي حتّى شعر بأنفاسه وهي تحشر في حلقه بعنف عندما انقضّ عليه يعتصر ياقة قميصه بقبضتيه المتحجرتين وينفث أنفاسه الملتهبة في وجهه هامسا بصوت أجش جريح :"قد حذرتك من الكلام في الموضوع، ألا تفهم!!!" إلّا أنّه لم يستسلم وهو يردّ عليه بأنفاس متقطعة لاهثة :"إنّها ريان يا صديقي..إنّك ستتخلّى عن ريان!!" توسّعت حدقتاه حتّى أسدلتا ستار العتمة على مرجي عينيه الخضراوين وبدأت أصابعه بالإرتخاء عن فريستهما شيئا فشيئا إلى أن رمش بأهدابه في محاولة يائسة لكبح جماح مشاعره المضطربة الثائرة متمتما بضعف :"عليك اللعنة..عليك اللعنة!!"

ما اقترفته يدايWhere stories live. Discover now